الحيثية الأساسية والحيثية الإضافية للدين عند وحيد الدين خان
في رده على المودودي يميّز وحيدُ الدين خان (1925 – 2021) بين الحيثيته الأساسية والحيثيته الإضافية للدين، ويرى أن المودودي أهمل الحيثيته الأساسية وهي الأصل في الدين، واختزل الدين في الحيثيته الإضافية، قبل ذلك كان وحيدُ الدين خان أحد أتباع المودودي.
درسَ وحيدُ الدين خان في جامعة الإصلاح العربية الإسلامية بالهند، وعملَ لعدة سنوات في لجنة التأليف التابعة للجماعة الإسلامية، ثم المجمع الإسلامي العلمي التابع لندوة العلماء بلكهنؤ. ونشرَ كتاباته في عدة صحف ومجلات، وأصدرَ مجلةَ “الرسالة” الشهرية، وهي مطبوعةٌ مستقلةٌ تلقاها القراءُ باهتمام، وتواصل صدورُها سنوات عديدة.
أمضى وحيدُ الدين خان خمسة عشر سنة من حياته عضوًا في الجماعة الإسلامية، غير أنه انفصل عنها بعد ذلك، وقدّمَ نقدًا جريئًا لفهم المودودي للدين، بعنوان: “خطأ في التفسير”، هذا الكتاب نقد ذكي لفكر المودودي، كتبه خبيرٌ بفهم المودودي للدين ومنهجه في التفسير، ” خان، وحيد الدين، خطأ في التفسير، صدرت طبعتُه الأولى بالأردية 1963، وبالعربية 1992″. يقول وحيدُ الدين خان في مقدمة كتابه هذا: “نظرًا للعلاقة التي كانت تربطني بالجماعة، والتي استمرت خمسة عشر سنة، فقد رأيت أن للجماعة علي حق النصح لها، ولا يمكن القيام بهذا العمل وأنا في وسط الجماعة، مما اضطرني للانفصال عنها لأداء هذه الفريضة… بقيت في الجماعة الإسلامية مرتبطًا بها طيلة خمسة عشر سنة، ثم قدمت استقالتي في 15 أكتوبر 1962 لكنها لم تقبل إلا في 25 أبريل 1963″، “خان، وحيد الدين، خطأ في التفسير، ص 12، 17”.
تنبّه وحيد الدين خان للتمييز بين الدين بوصفه نظامًا دستوريًا قانونيًا وسياسيًا، والذي هو مظهرٌ للدين وحيثيةٌ إضافية، وبين الدين بوصفه علاقة بين الله والإنسان، وهي الحيثيتهُ الأساسيةُ التي أهملها المودودي، يقول وحيد الدين في بيان ذلك: “الأصل في الدين هو كونه عنوان العلاقة بين الرب وعبده. إن الدين ليس محض نظام دستوري قانوني وسياسي، على غرار سائر الأنظمة الدنيوية، بل هو مظهر العلاقة النفسية للعبد مع الله. إن الدين عند تنفيذه يشمل عناصر كثيرة، يمكن أن يطلق على مجموعتها بأنها (نظام الحياة)، ولكن هذا مظهر من مظاهر الدين، وحقيقة من حقائقه. إنها حيثية إضافية من حيثيات الدين، وليست هي الحيثية الأساسية… إن جميع هذه الأخطاء قد وقع فيها التفسير الآنف الذكر للإسلام. لقد جعل هذا التفسير النظام محور التصور الديني وحكمته الجامعة، ولذلك أصبح (النظام) الحيثية الأولى للإسلام في هذا التفسير، فلم يعد بالإمكان فهم الإسلام إلا في ضوء النظام”، “خان، وحيد الدين، خطأ في التفسير، ص 127 – 128”.
وضع فهمُ الدين الذي نضجَ لدى وحيد الدين خان تفكيرَه في طريق مستقل مغاير لتفكير المودودي وجماعته. بعد أن طلّق وحيد الدين الفكر السياسي للمودودي، رحلَ إلى فضاء أرحب في فهمه للدين وحدود رسالته، وتفسيره للقرآن والسُّنة، كما انعكس ذلك بوضوح على نوع كتاباته في السنوات اللاحقة من حياته الطويلة التي امتدت إلى العام الماضي.
اكتشف وحيد الدين طريقًا أدرك فيه الحاجة الماسة إلى إعادة بناء التفكير الكلامي، ففي عام 1964 أوضح في مقدمة كتابه: “الإسلام يتحدّى” المسوغات التي دعته لتأليف كتابه هذا، فشدّد على ضرورة التحرّر من منهج علم الكلام القديم، لأن “طريقة الكلام وأسلوبه قد تغيرا بتغير الزمن، ولذلك علينا أن نأتي بعلم كلام جديد لمواجهة تحدّي العصر الحديث”، “خان، وحيد الدين، الإسلام يتحدّى: مدخل علمي للإيمان، تعريب: ظفر الإسلام خان، مراجعة، وتحقيق، عبدالصبور شاهين، الكويت، دار البحوث العلمية، ط 6، 1981، ص 24”. لكن كتابه هذا لم يكن سوى محاولة للتوفيق بين الدين والعلم، والتمسك بشيء من مكاسب العلوم الطبيعية في الاستدلال على وجود الله. ولم يفلح في استبصار أُفق بديل للتفكير خارجَ الكلام القديم، ولم نرَ فيه ضوءًا يدلّنا على قول جديد في الوحي، أو ما يكشف عن محاولة شجاعة لبناء أسس كلام جديد.
وبعد ذلك بسبعة أعوام أصدر وحيد الدين خان كتابه الكلامي الثاني “الدين في مواجهة العلم”، “نقل هذا الكتاب إلى العربية نجل المؤلف ظفر الإسلام خان، ونشرته دار الاعتصام بالقاهرة سنة 1972”. وأردفه بعد مدة بمقالة أعدّها بعنوان: “نحو علم كلام جديد”، ألقاها في ندوة “تجديد الفكر الإسلامي” التي عقدتها الجامعة الملّية الإسلامية بدلهي في 27 ديسمبر 1976، “نقل هذه الدراسة إلى العربية: ظفر الإسلام خان، ونشرتها دار النفائس في بيروت، في كتاب يضمّ مجموعات دراسات أخرى للمؤلف بعنوان “الإسلام والعصر الحديث” سنة 1983م”.
حاول وحيد الدين خان محاكاة ما بدأه محمد إقبال شكليًا في “تجديد التفكير الديني في الإسلام”، لكن كتاب “الإسلام يتحدّى” وكتابات وحيد الدين الأخرى أخفقت في تمثل رؤى إقبال الفلسفية الحرّة في بناء علم الكلام الجديد. لبث وحيد الدين خان يفكر في إطار علم الكلام التقليدي، لذلك لا نقرأ في كتابه “الإسلام يتحدّى” أو غيره من كتاباته رؤية اجتهادية تتخطى آفاق تفكير الكلام القديم، وترتقي به للتفكير في الأُفق الرحب للكلام الجديد. على الرغم من أن كتاب “الإسلام يتحدّى” تُرجم إلى العربية ونشر قبل أكثر من أربعين عامًا، إلّا أنه لم يجد صدىً له في الدراسات الدينية حتى اليوم بالعربية.
لا ينطبق على أعمال وحيد الدين خان المعيارُ الذي وضعناه لتحديد الأساس الذي يبتني عليه علم الكلام الجديد، وكيفية التعرّف على المتكلّم الجديد، والذي يتمثّل في كون المتكلم الجديد يجتهد في إعادة بناء فهمٍ للوحي، بالشكل الذي لا يكرّر فهم مؤسّسي الفرق، وفهم المتكلّمين التقليدي.
كما لا يصحّ توصيف وحيد الدين خان بالمتكلّم الجديد، أو إدراج أعماله في علم الكلام الجديد، كذلك لا يصحّ إدراج أعمال أكثر المفكرين الذين يصنّفون خطأ لدى بعض الباحثين على علم الكلام الجديد، لأنها تكرّر الفهم التقليدي للوحي، ولا تقول شيئًا مختلفًا يخرج على تكرار اجتهادات مؤسّسي الفرق ومجتهديها.
على الرغم من الطريق المستقل في التفكير الديني الذي سعى أن يختطه وحيد الدين خان إلا أنه وقعَ تحتَ تأثير تيار أهل الحديث الذي تفشّى في الإسلام الهندي في القرن الأخير، وأحدث انسدادا في التفكير الديني. حاول وحيد الدين خان في دعوته الإصلاحية اعتماد المناهج والأدوات والمقولات التراثية ذاتها، فلبثَ كمعظم المصلحين الذين يبدؤون بدعاوى وشعارات لافتة، لكن تفكيرهم فيها سرعان ما يقع أسيرًا لمنطق التراث وأدواته ورؤيته للعالَم، فيظلون يدورون في حلقة تبدأ من التراث وتنتهي بالتراث.