أهلية الزواج بين الإطلاق والتقييد
من الموضوعات التي استأثرت بالنقاش والجدال والنقد في تعديلات مدونة الأسرة وما زالت: سن الزواج، الولاية في الزواج، تعدد الزوجات، الطلاق، تثمين عمل الزوجة في بيت الزوجية، المساواة في الإرث … ونظرا لأهمية هذه القضايا، ولتضارب الآراء حولها سنخصص الكلام في هذا المقال عن إشكال تحديد سن الزواج وهي من الإشكالات التي تثار في كل نقاش حول تعديل مدونة الأسرة وسنناقش ذلك من خلال عرضنا للأدلة الشرعية حول المسألة، ثم رأي الفقه (المذاهب الإسلامية الفقه المعاصر ورصد التطور الحاصل في المسألة من مدونة الأحوال الشخصية المغربية إلى مدونة الأسرة ومقترحات تعديل هذه الأخيرة)، ثم المناقشة والخروج بخلاصة حول الموضوع.
أولا: الأدلة الشرعية حول تحديد سن الزواج.
لا نجد في القرآن الكريم ولا في السنة النبوية تحديدا لأهلية الزواج ببلوغ سن معينة، بل نجد في القرآن الكريم ما يفيد جواز الزواج من الصغيرة قبل أن تحيض، كما جاء في السنة النبوية أن الرسول ﷺ تزوج بعائشة رضي الله عنها وهي صغيرة، وسنقف عند هذه الأدلة:
أ القرآن الكريم:
دل على جواز الزواج في الصغر والكبر نصوص قرآنية بطريق العموم والخصوص، منها:
1- قوله تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾[1]. دلالة المفهوم في الآية يقتضي جواز نكاح اليتيمات بشرط العدل فيهن دون شرط البلوغ.[2]
2- قوله تعالى: ﴿وَأَنكِحُوا الْأَيَامَىٰ مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ ۚ إِن يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾[3]، يقول وهبة الزحيلي: “والأيم التي لا زوج لها صغيرة كانت أو كبيرة، فدلالة الآية عامة في كل أنثى غير ذات زوج صغيرة كانت أو كبيرة، لأن الجمع المعرف بالألف واللام أو الإضافة يستغرق العموم”.[4]
3- قوله تعالى: ﴿وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ﴾[5]، قال القاضي عياض معلقا على هذه الآية: “فأثبت أن من لم تحض من نسائنا فدل على صحة العقد عليها قبل البلوغ”[6]، مما يدل كما قال ابن حجر على “أن نكاحها قبل البلوغ جائز وهو استنباط حسن”[7]، فالآية الكريمة حددت عدة من لم تبلغ سنّ الحيض بثلاثة أشهر والعدة فرع دال على وجود الأصل: النكاح ووقوع الطلاق، ودل ذلك على جواز نكاح الصغيرة قبل بلوغها وهو عامٌّ لا يقيد بسن معينة، فالعام محمول على عمومه حتى يرد التخصص، ولا وجود له.
فهذا النص يدل على صحة الزواج قبل البلوغ، وعدم ظهور علامات عليه كالحيض بالنسبة للمرأة، لأن النص حدد عدة المطلقة غير الحائض في ثلاثة أشهر، إذ لا عدة من فرقة إلا في زواج صحيح.
ب السنة النبوية:
وردت أحاديث كثيرة صريحة في جواز نكاح الصغيرة دون سن معينة، منها الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه عن سفيان عن هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها “أن النبي ﷺ تزوجها وهي بنت ست سنين، وأدخلت عليه وهي بنت تسع، ومكثت عنده تسعا”.[8]
يقول النووي في شرح صحيح مسلم معلقا على هذا الأثر، “وليس في حديث عائشة تحديد ولا المنع من ذلك في من أطاقته قبل تسع”.[9]
إلا أن ابن شبرمة يرى أن زواج عائشة من النبي ﷺ من خصائصه كنكاح أكثر من أربع نسوة، وقد رد عليه ابن حزم قائلا: “فمن ادعى أنه خصوص لم يلتفت إليه، لقول الله عز وجل ﴿ لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾[10]، فكل ما فعله عليه الصلاة والسلام فلنا أن نتأسى به فيه إلا أن يأتي نص بأنه له خصوص[11]“.
ومن خلال هذا يتضح أن المبدأ العام والقاعدة الكلية في الشريعة الإسلامية عدم تحدد سن معين، وإنما تركت ذلك خاضعا لمؤهلات الزوجين الجسدية والجنسية والعقلية، ويختلف ذلك باختلافهم، ولا يضبط بسن محدد، والذكر والأنثى في ذلك سواء مع مراعاة شروط الدخول والتمكين من الوطء بسطها الفقهاء في كتبهم.
وهذا هو مسلك الشارع الحكيم في شريعته، فهو يخاطب كل الأجناس وكل الأجيال، يخاطب المكلفين في كل مناطق العالم، الحارة والباردة، ويخاطب المعتدل المزاج والشهوة، كما يخاطب المفرط في شهواته، وكان من صلاحية الشريعة الإسلامية تميزها بالسعة والمرونة، ليجد فيها المعتدل والمفرط على السواء ما يرضيهما، من غير ضيق ولا مشقة.
ج_ الإجماع:
أجمع الفقهاء على جواز تزويج الصغيرة على خلافٍ بينهم في اشتراط رضاها، إلا ابن شبرمة الذي قال: لا يزوج الأب ابنته البكر الصغيرة حتى تبلغ وتأذن وهذا الاختيار الفقهي ترده النصوص الشرعية المتقدمة.[12]
د_ مقاصد الشريعة:
المتتبع لمقاصد الشريعة الإسلامية في النكاح يعلم أن مقاصد النكاح ليست محصورة في الوطء وحياة الجنس، بل هناك مقاصد أخرى مشروعة، وحصرها في الوطء لا موجب له.[13]
والنكاح في الصغر قد يحقق بعض هذه المقاصد المشروعة المنصوص عليها وغيرها. كقصد شرف المصاهرة أو توريث الزوجة مالًا مع عدم استعجال الدخول وقد أخره الرسول ﷺ ثلاث سنين حتى تطيق الزوجة الوطء (أي دخوله ﷺ بعائشة).
هـ_ المصلحة العامة والخاصة:
مصلحة الذكر والأنثى معًا تقتضي الارتباط بنكاح شرعِي، والمبادرة إليه تحصينا لهما من الوقوع في المحظور وحماية المجتمع من العلاقات غير الشرعية خارج إطار الزواج، والحد من آثاره السيئة (الأمهات العازبات، المواليد خارج إطار الزواج، الوأد الخفي والظاهر ….. وما يترتب عليه من مشاكل اجتماعية وصحية وإنسانية …..) وصدق رسول الله ﷺ حيث قال: (إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض).[14]
ثانيا: رأي الفقه في أهلية الزواج.
ميزت في هذا المحور بين مسلك مذاهب الفقه الإسلامي وبين الفقه المعاصر، من خلال التقنين المغربي للأحوال الشخصية والأسرة.
أ_المذاهب الإسلامية:
اتخذت المذاهب الإسلامية في تحديد أهلية الزواج معيارين:
الأول: المعيار الشخصي: الذي يظهر من واقع كل حالة حيث تظهر علاماته، وتختلف بحسب الذكورة والأنوثة، فبالنسبة للذكر يعرف بالاحتلام مع الإنزال، وبالنسبة للأنثى يعرف بالحيض، قال القرطبي رحمه الله، وهو يتعرض لتفسير قوله تعالى: ﴿حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ ﴾[15]، أي الحلم، لقوله تعالى: ﴿وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُم ﴾[16]، أي البلوغ، وحال النكاح والبلوغ يكون بخمسة أشياء وثلاثة يشترك فيها الرجال والنساء واثنتان تختصان بالنساء وهي الحيض والحمل”.[17]
الثاني: المعيار الموضوعي: بتحديد سن معينة متى بلغها المعني كان كافيا في اعتباره بالغا ومؤهلا للزواج.
جاء في “الأم”: “فلما كان من سنة رسول الله ﷺ أن الجهاد يكون على ابن خمس عشرة سنة، وأخذ المسلمون بذلك في الحدود، وحكم الله بذلك في اليتامى فقال: ﴿حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا … ﴾[18]، لم يكن له الأمر في نفسه إلا ابن خمس عشرة سنة أو ابنة خمس عشرة سنة، إلا أن يبلغ الحلم أو الجارية المحيض”.[19]
وأضاف قائلا: “والبلوغ أن تحيض أو تستكمل خمس عشرة سنة…”.[20]
فالبلوغ عند الشافعي رحمه الله يكون باستكمال خمس عشرة سنة، الذكر والأنثى في ذلك سواء ما لم يحتلم الذكر وتحيض الأنثى قبل ذلك السن.
وجاء في بدائع الصنائع: “البلوغ في الغلام يعرف بالاحتلام… وفي الجارية يعرف بالحيض، فإذا لم يوجد من ذلك فيعتبر بالسن… وقد اختلف العلماء في أدنى السن التي يتعلق بها البلوغ، قال أبو حنيفة ثماني عشرة سنة في الغلام، وسبع عشرة في الجارية، وقال أبو يوسف ومحمد الشافعي رحمهم الله: خمس عشرة سنة في الجارية والغلام جميعا”[21].
والمالكية يرون أن الحد الأقصى لبلوغ الذكر والأنثى هو بلوغ الثامنة عشرة من العمر.[22]
هكذا نجد الفقهاء يربطون أهلية الزواج بعلامات تدل على قدرة الفتى والفتاة على التناسل، وعند تأخر هذه العلامات، حددوا لذلك سنا يعتبر حدا أدنى يختلف حسب المذاهب الفقهية كما تم التطرق إليه سابقا، وذلك راجع إلى بيئتهم ومجتمعهم الذي يعيشون فيه، مع العلم أن “أقل سن تحيض فيه المرأة تسع سنين، لأن المرجع فيه إلى الموجود، وقد وجدت من تحيض لتسع… وسن البلوغ في الغالب إذا لم تحض المرأة باتفاق المذاهب خمس عشرة سنة…”[23] وحصول البلوغ هو في الواقع إعلان طبيعي لأهلية الشخص واستعداده الفيزيولوجي والنفسي للزواج.
ب_ رأي الفقه المعاصر: المشرع المغربي.
عملت جل القوانين الغربية والعربية للأسرة والأحوال الشخصية على تقييد أهلية النكاح ببلوغ الزوجين سنا معينة ومنعت الزواج دونها إلا وفق إجراءات مسطرية تحت إشراف القضاء، وسأتناول في هذا المحور تطور الفقه المغربي المعاصر، من مدونة الأحوال الشخصية، ثم مدونة الأسرة، إلى مسودة مقترحات التعديل الأخيرة.
1_مدونة الأحوال الشخصية لسنة: 1994.
إن قانون الأحوال الشخصية المغربي لسنة: 1994 نص في فصله الثامن على أن: “أهلية النكاح تكتمل في الفتى بتمام الثامنة عشرة، فإن خيف العنت رفع الأمر إلى القاضي، وفي الفتاة الخامسة عشرة من العمر”.
ظاهر المادة يشترط للزواج بلوغ الفتى والفتاة سنا معينة بمنع زواجهما دونها إلا بإذن القاضي، بالنسبة للفتى، أما الفتاة فلا يمنعها النص بحق الزواج قبل السن المحددة قانونا، إلا أن وزارة العدل قامت بإصدار منشور، عقب صدور التعديلات، سمحت فيه للقضاة بأن يأذنوا بزواج البنات دون سن الخامسة عشر، ولا أحد يجهل أهمية هذا التقييد من حيث تحقيق المصلحة، كما قال علال الفاسي في معرض حديثة عن تحديد أهلية الزواج بالسن أنه “يندرج تحت أصل شرعي هو مصلحة المرأة العامة، ومصلحة الأسرة من حيث هي…”،[24] بالإضافة إلى مصلحة المجتمع، إذ جاء في المذكرة الإيضاحية لمشروع مدونة الأحوال الشخصية المغربية أن تحديد سن أهلية الزواج جاء “اعتمادا على ما يثبت من الأخطار الاجتماعية والصحية التي تنتج من الزواج المبكر سواء من الإناث أو الذكور”.[25]
فتظهر مصلحة المرأة في كون زواجها بسن معينة يؤخر تحملها مسؤولية البيت إلى أن تتهيأ، بالإضافة إلى مخاطر الحمل في سن مبكرة.
أما مصلحة الأسرة، فالزواج مسؤولية تنشأ بها علاقات عائلية تحتاج إلى تقديرها، وتترتب عليه حقوق وواجبات تحتاج إلى الوعي بها، والاستعداد لتحملها من الطرفين، أما مصلحة المجتمع، فتتجلى في أن سلامتها وتلعب دورا في تحقيق مجتمع متماسك.
2_مدونة الأسرة الصادرة سنة: 2004.
نظمت مدونة الأسرة المغربية أهلية الزواج في المواد: 19-20-21، حيث جاء في المادة: 19 “تكتمل أهلية الزواج بإتمام الفتى والفتاة بقواهما العقلية ثمان عشرة سنة شمسية”، ونصت المادة: 20 أن: “لقاضي الأسرة المكلف بالزواج أن يأذن بزواج الفتي والفتاة دون الأهلية المنصوص عليها في المادة: 19 أعلاه بمقرر معلل يبين فيه المصلحة والأسباب المبررة لذلك، بعد الاستماع لأبوي القاصر أو نائبه الشرعي، والاستعانة بخبرة طبية أو إجراء بحث اجتماعي”، وتعتبر المادة: 20 مقرر الاستجابة لطلب الإذن بزواج القاصر غير قابل لأي طعن، فاستجابت بذلك لمطلب المنظمات النسائية بناء على الاتفاقية الدولية الخاصة بالرضا بالزواج والحد الأدنى لسن الزواج وتسجيل عقود الزواج” الصادرة بتاريخ: 7 نونير 1962 على أن تقوم الأطراف في هذه الاتفاقية باتخاذ التدابير التشريعية اللازمة لتعيين حد أدنى لسن الزواج، ولا ينعقد قانونا زواج من هم دون هذه السن ما لم تقرر السلطة المختصة الإعفاء من شرط السن لأسباب جدية لمصلحة الطرفين المزمع زواجهما”، وإن كان هذا الرفع من سن الزواج لا نجد في الشرع ما يمنعه لكن لا نجد في الواقع ما يبرره، لهذا أرى أن هذا التحديد لا يتفق مع مرحلة البلوغ الجنسي لكل من الفتى والفتاة في بلادنا، ولا يتفق مع المصلحة الأخلاقية العامة فيحب أن يحدد سن أدنى للزواج ويربط بالبلوغ لدى الجنسين وأن يسمح لهما بالزواج، فالفتى والفتاة وأولياؤهما تحت مراقبة القاضي، أدرى بالمصلحة متى تكون في الزواج، أهو بمجرد البلوغ أم بانتظار سنوات بعد ذلك، وتدخل القانون في هذه المسألة لا معنى له بعد أن فتح الباب بالسماح بالزواج في المادة: 20 بمجرد البلوغ الجنسي، ولم يحدد النص الحد الأدنى الذي لا يجوز أن ينزل عنه، وربط الإذن والسماح بالزواج دون السن المحدد باقتناع القاضي بناء على المصلحة، بعد سماع أبوي القاصر أو نائبه الشرعي، والاستعانة بخبرة طبية أو إجراء بحث اجتماعي بأن جسم الفتى والفتاة يتحمل الزواج، دون تحديد الجهة المختصة بالخبرة الطبية أو البحث الاجتماعي.
3_مطلب المساواة في سن الزواج وتسقيف الحد الأدنى للفتاة.
رغم المسلك الاختياري لمدونة الأسرة المغربية، الذي يتميز نسبيا بالمرونة، نجد ضمن مطالب التعديل تحديد سن الزواج، وتؤكد على رفعه إلى ثمانية عشر سنة، وتسقيف الحد الأدنى في سبعة عشر سنة كما جاء في مسودة التعديلات المقترحة للمدونة، وهذا يخالف المصالح العامة والخاصة ومقاصد الشريعة، ويعمق أزمة المجتمع ويجلب المفاسد والظواهر الاجتماعية السلبية: العنوسة، توسيع دائرة الحرام، فتح أبواب الرشوة والتحايل والتلاعب.
فمطلب الدعوة إلى رفع سن الزواج، وتسقيف الحد الأدنى مؤسس على مبرر إلغاء التمييز بين الجنسين والمساواة في السن، وهذا ينفي حقيقة طبيعية، وهي أن مرحلة البلوغ لدى الفتيات تسبق فترة البلوغ لدى الفتيان، وأن سن الزواج القانوني للفتيات في كل جل القوانين العالمية أقل من الزواج القانوني للفتيان، وهو ما لا يتناقض مع التعليم والشغل والرخاء الاجتماعي، كما لا نقطع بالآثار السلبية للحمل على المرأة، وما يشهد به من ينتمي إلى الحضارة الغربية خير دليل على ذلك، إذا كان دعاة الحرية والتغريب لا يعتبرون إلا بما قاله الغربيون إذا يقول الدكتور بوجو مولتز: “وإن المقطوع به أن الولادة مفيدة عموما لبنية المرأة… فالحمل عند المرأة من عوامل توازنها الحيوي”.[26]
ففي الوقت الذي تتم المناداة فيه بالحريات الفردية، وصخب التنديد بالإجبار والعضل الذي يمارسهما الولي، أسست التعديلات الجديدة المقترحة للعضل القانوني، وأضافت مانعا آخر إلى المانع الاقتصادي وهو المانع القانوني الذي يتجلى في منع الزواج بمجرد البلوغ إلا بإجراءات مسطرية دون النزول عن سن ثماني عشرة سنة بالنسبة للفتى وسبع عشرة سنة للفتاة.
ثالثا: رأي وخلاصة.
إن فكرة تقييد أهلية الزواج بسن معينة مقتبسة من القوانين الغربية، يقول الدكتور مصطفى السباعي: “ليس لهذا التحديد مستند من آراء الفقه الإسلامي، ولكنه أخذ من القوانين الغربية…”[27]
وربما يكون تقييد الزواج بسن معينة جلب مصلحة أو دفع مفسدة، قد تنتج عن الزواج المبكر، لكن التشدد في المسألة قد يؤدي إلى عكس ذلك، لأنه كما قال علال الفاسي: “تشدد خارج روح الشريعة وضغط لا موجب له”… سيؤدي لا محالة إلى عواقب وخيمة، وللأسف ما تزال هذه الفكرة مطروحة، أي رفع سن الزواج إلى سن الثامن عشرة عند الفتى والفتاة معا وتسقيف الحد الأدنى لسن زواج الفتاة في سبعة عشر سنة، ليس لمصلحة يرجى تحقيقها، وإنما إرضاء للغرب، ووفاء للمنظمات العالمية، وتنفيذا للاتفاقيات الدولية، وهذا الاقتراح مردود من وجهين:
الأول: ثبوت جواز زواج الصغيرة قبل بلوغها بالكتاب والسنة، كما في النصوص الشرعية التي تم ذكرها.
ثانيا: عدم ثبوت اشتراط السن لانعقاد النكاح في الشرع، فلم يكن ذلك ركنا في الزواج ولا شرطا، بل يصح زواج الصغار، وتترتب عليه جميع آثاره.
ويبرر هذا الرفع من طرف المنظمات النسائية والمدافعين عن “حقوق المرأة” بالمخاطر التي تشكلها الولادة في السن المبكرة على صحة الأم والطفل على السواء، وهذا التبرير غير وجيه، لأنه يمكن التغلب على ذلك بتأخير الولادة إلى وقت القدرة عليها، والشريعة لا تعارض ذلك ما دامت فيه مصلحة الزوجين، وما دام خاضعا للشروط الشرعية.
كما لا نقطع بالآثار السلبية للحمل على المرأة، كما أكد ذلك الدكتور بوجو مولتز وغيره من المنصفين.
وفي الأخير يمكن القول إن تحديد أهلية النكاح ببلوغ الذكر والأنثى سنا معينة لتحقيق مصلحة ما، والحكم المطلق بمنع الزواج دون السن المحددة مخالفة للنص الشرعي الذي يجوز تزويج الصغيرة، ثم إن الأضرار التي يمكن أن تنتج عن الزواج المبكر لا تقتضي منعه بإطلاق، إذ من شأن ذلك أن تكون له عواقب أشد من ربط علاقة جنسية غير شرعية، وتقليل نسل المسلمين، الذي له ارتباط وثيق بمعدل الخصوبة… إضافة إلى كونه يعارض أبسط الحقوق المرتبطة بحرية الفرد في الزواج ويلحق الضرر به، قال علال الفاسي: “إذا كان في التحديد مصالح لا تنكر فإن للمبالغة في مراعاته أضرارا أشد، ودرء المضرة والمفسدة مقدم على جلب المصلحة شرعا”.[28] مع العلم أن المطالبين برفع السن إلى ثماني عشرة سنة وتسقيف الحد الأدنى للسن بالنسبة للفتاة، لم يقدموا أي معطيات إحصائية تبين حجم انتشار ظاهرة الزواج المبكر، ولا أي مبرر واقعي يمكن أن يدعم هذا المطلب، باستثناء التركيز على اجترار بعض الحالات المعزولة والاستثنائية التي يراد لها أن تشكل أصلا.
كما أن المشكلة الآن ليست في الزواج المبكر، بل في العزوف عن الزواج وارتفاع نسبة العنوسة في صفوف النساء، والعزوف عن الزواج عند الرجال، وأي تعديل يتعلق بقانون الأسرة لابد أن يعالج الاختلالات الواقعية في السياسة الديمغرافية بالمملكة، وبلورة حلول قانونية تستحضر هذه المخرجات المعطيات الواقعية ونتائج الإحصاء العام للسكان بالمغرب لسنة: 2024،[29] وتأخذ بعين الاعتبار المصلحة العامة، وترتيب الأولويات والترجيح بين المفاسد والمصالح. وفي هذا السياق سجل الإحصاء العام للسكان: تباطؤ النمو السكاني، حيث حقق نسبة: 0,85% أقل من المعدل المسجل خلال الفترة ما بين 2004 إلى: 2014 (بعد صدور المدونة) 1,27%، وتواصل انخفاض معدل الخصوبة، لكل امرأة من 25 سنة 2004 إلى 2,2 سنة 2014، ثم إلى 1,97 سنة 2024، ليصبح أقل من عتبة تعويض الأجيال وهو 2,1 طفل لكل امرأة.
كما ارتفع معدل العزوبة النهائية عند السن 55 سنة ليصل إلى 9,4% سنة 2024 مقابل 5,9 سنة 2014. ويظل هذا المعدل أعلى في صفوف النساء (11,1) مقارنة بالرجال (7,6%).[30]
لائحة المصادر والمراجع:
- القرآن الكريم.
- إكمال المعلم بفوائد مسلم، القاضي عياض، ت. يحي إسماعيل ، طبعة دار الوفاء.
- -الفِقْهُ الإسلاميُّ وأدلَّتُهُ (الشَّامل للأدلّة الشَّرعيَّة والآراء المذهبيَّة وأهمّ النَّظريَّات الفقهيَّة وتحقيق الأحاديث النَّبويَّة وتخريجها)، وَهْبَة بن مصطفى الزُّحَيْلِيّ، طبعة: دار الفكر – سوريَّة – دمشق، الطبعة: الرَّابعة المنقَّحة المعدَّلة بالنِّسبة لما سبقها (وهي الطبعة الثانية عشرة لما تقدمها من طبعات مصورة)
- الأم، محمد بن إدريس الشافعي، طبعة دار الفكر، الطبعة الثانية: 1403 هـ_1974م.
- صحيح البخاري، محمد بن إسماعيل البخاري، تحقيق: الشيخ عبد الله بن باز، طبعة دار الفكر، سنة: 1994م.
- بدائع الصنائع في توتيب الشرائع، الكاساني، طبعة دار الفكر، الطبعة الأولى: 1418هـ_1998م.
- التاج والإكليل شرح مختصر خليل، لأبي عبد الله المواق، على هامش مواهب الجليل شرح مختصر خليل لأبي عبد الله المعروف بالحطاب، طبعة دار الرشاد الحديثة الدار البيضاء.
- التقريب شرح مدونة الأحوال الشخصية، علال الفاسي، طبع مؤسسة علال الفاسي، مطبعة الرسالة، طبعة: 1986م.
- الجامع لأحكام القرآن، لأبي عبد الله بن أحمد القرطبي، طبعة دار الفكر بيروت.
- شرح النووي على صحيح مسلم، الإمام النووي، طبعة دار الفكر بيروت.
- شرح مختصر الطحاوي، لأبي بكر الرازي الجصاص، تحقيق: رسائل دكتوراه في الفقه، كلية الشريعة، جامعة أم القرى مكة المكرمة (عصمت الله عنايت الله محمد: من أول الكتاب إلى الحج – سائد محمد يحيى بكداش: من البيوع إلى النكاح – محمد عبيد الله خان: من الطلاق إلى الحدود- زينب محمد حسن فلاته: من السير والجهاد إلى آخر الكتاب)، أعد الكتاب للطباعة وراجعه وصححه: سائد بكداش، طبعة: دار البشائر الإسلامية – ودار السراج، الطبعة: الأولى، 1431 هـ – 2010 م.
- فتح الباري شرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: الشيخ عبد العزيز عبد الله بن باز، طبعة دار الفكر.
- المحلى، ابن حزم الأندلسي، طبعة دار الفكر.
- المرأة بين الفقه والقانون، مصطفى السباعي، الطبعة الخامسة، المكتب الإسلامي.
- النقد الذاتي علال الفاسي، الطبعة الخامسة، مطبعة الرسالة.
- الإحصاء العام للسكان والسكنى: 2024، الخصائص الديموغرافية والاجتماعية والاقتصادية للسكان، مذكرة حول النتائج الرئيسية، موقع المندوبية السامية للتخطيط، المملكة المغربية: https://www.hcp.ma تاريخ الزيارة: 16 يناير 2025.
[1]–سورة النساء، الآية: 3
[2]–وأكد القرآن ذلك في آية أخرى من السورة نفسها، قال تعالى: ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ﴾، سورة النساء، الآية: 127.
[3] –سورة النور: الآية: 32
[4] -الفقه الإسلامي وأدلته، وهبة الزحيلي، ج: 9/ 6699.
[5] –سورة الطلاق، الآية: 4
[6]–إكمال المعلم بفوائد مسلم، ج: 4/ ص: 567.
[7] –فتح الباري شرح صحيح البخاري، ج: 10/ ص: 52.
[8] –رواه البخاري في كتاب النكاح، باب في نكاح الرجل ولده الصغار، رق: 5133، وفي باب تزويج الأب ابنته من الإمام، رقم: 5134.
[9]–شرح النووي على صحيح مسلم، ج: 9/ ص:218.
[10] –سورة الأحزاب، الآية 21.
[11] –المحلى، ابن حزم، ج: 9/ ص: 104.
[12]–ينظر: شرح مختصر الطحاوي، الجصاص، ج: 4 /ص: 293.
[13]–أشار لبعضها الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه، رقم: 5090، (تنكح المرأة لأربع لمالها وجمالها ولحسبها ودينها فاظفر بذات الدين تربت يداك).
[14] –رواه الترمذي في سننه، رقم الحديث: 1084، وابن ماجة في سننه، رقم الحديث: 1967 باختلاف يسير.
[15] –سورة النساء، من الآية: 6.
[16] –سورة النور، من الآية: 59.
[17] –الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ج: 5/ ص: 34-36.
[18] –سورة النساء، الآية: 6.
[19] –الأم، الشافعي، ج: 5/ ص: 18.
[20] –المرجع السابق، ج: 5/ ص: 23.
[21] -بدائع الصنائع، الكاساني، ج: 7/171-172.
[22] –أنظر: التاج والإكليل، ج: 5/ ص: 59.
[23] –الفقه الإسلامي وأدلته، وهبة الزحيلي، ج: 9/ ص: 7184.
[24] –النقد الذاتي علال الفاسي، ص: 282.
[25] –ينظر التقريب شرح مدونة الأحوال الشخصية، علال الفاسي، ص: 9.
[26] –من الجلد إلى الذهن، ترجم بعنوان عش شابا طول حياتك، ص: 68، نقلا عن: المرأة بين الفقه والقانون، مصطفى السباعي، ص: 60-61.
[27] –المرأة بين الفقه والقانون، ص: 59.
[28]–التقريب شرح مدونة الأحوال الشخصية، علال الفاسي، ص: 203.
[29]–ينظر: الإحصاء العام للسكان والسكنى: 2024، الخصائص الديموغرافية والاجتماعية والاقتصادية للسكان، مذكرة حول النتائج الرئيسية، ص: 7-8-9.
[30] –ينظر: المرجع السابق، ص: 9.