مقاصد الشريعة الإسلامية: الوعود والتحديات
المراجعة من إعداد : كريم كوشنده *
ترجمة: سكينة أيت الفقيه
شهد البحث المقاصدي خلال السنوات الأخيرة انبعاثا جديدا. ويشكل الكتاب الذين بين أيدنا مجموعة من البحوث المحكمة والمختارة لأبرز الذين ألفوا في مقاصد الشريعة باللغة الإنجليزية؛ فهذه البحوث تستند إلى محادثات أجريت سنة 2014 بجامعة باندربورن بألمانيا.
وقد وزعت موضوعات الكتاب إلى قسمين؛ فأما القسم الأول يتضمن بحوثا تاريخية ونظرية، ووسم بعنوان “الوعود”. وأما الثاني فجاء تحت مسمى “التحديات” ويتضمن فصولا تطبيقية في منهج التعامل مع الفكر المقاصدي وتطبيقه على القضايا المعاصرة.
ومن ثم، فإني أود أن أركز في هذه المراجعة على نقد ما أعتبره مشكلة بارزة في التعامل الأكاديمي المعاصر مع المقاصد من وجهة نظر مسلم ملتزم.
لقد تم التعامل مع مقاصد الشريعة واستخدامها على مدار العقدين الماضيين من قبل جهات وشخصيات معينة من أجل تقويض جوهر الإسلام والحد من تعاليمه الأساسية تحت مسمى “التفكير بمستوى عال” أو “الاستدلال على الأهداف الحقيقة للوحي الإسلامي”. وقد تعمدت استعمال كلمة “وحي” لأنه مصدر الشريعة الإسلامية، ونصوصها مستمدة منه بشكل مباشر.
هذا ويوضح الفصل التمهيدي الذي عقده محمد هاشم كمالي على أن “المقاصد” أو “الغايات الكبرى من التشريع الإسلامي” تشكل سلسلة متصلة من خمسة أو ستة مبادئ حددها فقهاء الإسلام، وجعلوها أولى ما سعت الشريعة الإسلامية إلى حمايته، وكلها مستمدة من قراءة نقدية دقيقة لنصوص الوحي من قرءان وسنة.
وهنا لا بد أن نفهم مسألة بسيطة تتمثل في أن المقاصد قد استخلصت من “خارج” القراءة التقليدية للنص بسبب اعتبارات شاملة يبدو أنها تضم أجزاءها المختلفة في تناغم كلي، بيد أنه في المقابل، لا يمكن قراءة تعاليم الوحي المحددة “خارج” مقاصد الشريعة، لأن هذه الأخيرة أبسط من أن تقدم توجيها ملموسا دون إعادة إدراجها في تحليل مباشر للقراءة الأولية للنصوص.
وبالرغم مما تقدم، فإن الفكر الإصلاحي المعاصر يجد راحة كبيرة في بناء القوانين على المقاصد العليا للشريعة. وهناك في المقابل نشوة عابرة في رؤية العالم وتبادل الآراء حول القضايا الأخلاقية والفقهية من منظور ذاتي، في حين يحوم الفرد حول خمسة كليات حاكمة وهي: حفظ النفس والنسل والمال والدين والعقل.
إن الناظر في هؤلاء الأكاديميين من المشرعة وواضعي القانون ليجد أن مشكلتهم تكمن في أنهم يرون الواقع المعيش قاصرا عن إدراك فكرتهم، ويرجع السبب في ذلك إلى كون المصادر النصية التي استمدت منها مقاصدهم تبدوا كنقاط بعيدة عن الأفق المنشود للأسف. ومن ثم، يجدون أنه من السهل جدا حدوث التناقض بين هذه النصوص ومقاصدها – كما ستكشف عن ذلك هذه المراجعة -.
ويمكن التمثيل لهذا النوع من الأمثلة السافرة والأكثر عدائية بما ضمنته الباحثة الكندية عائشة إس شودري في الفصل الثالث عشر بعنوان: “ما مدى موضوعية المقاصد؟ دراسة في تطور مفاهيم الشريعة من خلال كلي النسل”.
فبعد مراجعة جملة من أعمال شودري، أجد أنها تعزف على نغمة مألوفة في معظم كتاباتها، وتكمن هذه النغمة في زعمها أن فقهاء المسلمين قبل الاستعمار كانوا يؤيدون ما يسمى “الكونية المثالية لنظام البطريركية” والذي يعني تنظيما اجتماعيا يسود فيه الأب أو رب العائلة، ومن ثمة نكون أمام كون يفضل فيه الله الرجال عن النساء بشكل مطلق.
وهكذا ترى شودري في أعمالها بديلا لما تقدم، إنها تقترح مسمى آخر تحت مسمى “الكونية المثالية لنظام المساواة”، والذي نتيجته خلق معضلة المساواة والسلطوية في الفكر التاريخي.
وفي هذا الصدد، تنظر شودري إلى مشكلة حماية النسل، محاولة منها توضيح ما تراه معضلة في هذا الشأن. فتشير إلى أن مقصد حفظ النسل مستمد من القوانين المحرمة للزنا والجنس غير المشروع لما يسببه من فوضى مجتمعية. وقد نقلت من كلام الرازي في الصفحة 265قوله: “… المزاحمة على الأبضاع تفضي إلى اختلاط الأنساب المفضي إلى انقطاع التعهد عن الأولاد، وفيه التوثب على الفروج بالتعدي والتغلب، وهو مجلبة الفساد والتقاتل”[1].
ومع ذلك، وبعد هذه النظرة العابرة في استحضار شودري هذا التفسير المعقول في تحريم الزنا في الإسلام، فإنها لا تجد مانعا من حمل مطرقة لهدم الحظر الذي تمارسه القوانين الإسلامية عبر نصوصها التشريعية، ومن ثم هدم الأخلاق الأساسية بحجة الإصلاح الذي تقترحه والقائم على أساس المساواة والتكافل.
وفي قسم معنون بـ ” إصلاح المقاصد”، ذكرت شودري حد الزنا فقالت: “الافتراضات حول المساواة بين الجنسين في الإسلام تقلب هذا الهيكل القانوني رأسا على عقب، فما هو جائز شرعا في الهيكل القانوني البطريركي (الأبوي الذكوري) يصبح مُجَرَّما في النظرة الكونية للمساواة، وما هو جنائي يصبح قانونيا… فمثلا ممارسة الجنس بالتراضي بين شخصين يصبح مشروعا من الناحية الأخلاقية ، وحماية هذا الحق يصبح فضيلة. وعلاوة على ذلك، فإنَّ حقيقة معاقبة الأفراد المتفقين على خياراتهم الجنسية تصبح شنيعة، وفكرة معاقبتهم بدنيا إما بالجلد أو الرجم فكرة وحشية وغير أخلاقية”(الصفحة266 ).
هذا وبغض النظر عن الكفر الصارخ الذي تنطق به هذه الكلمات حسب نص القرآن والحديث، فإن شودري تستدل بما تسوغ به تفكيك النظام التشريعي الإسلامي بالقول: “جعلت التطورات العلمية ، خصوصا اختبار الحمض النووي(DNA)، مسألة تحديد النسب غير مهمة … فعبر هذا الاختبار يمكن اثباته. وعلى الرغم من عدم المساواة في الأجور بين الرجال والنساء عالميا، فإن ولوج النساء إلى سوق العمل جعل المعيلات منهن للأسر لا يعتمدن بعد الآن على الرجال لتوفير احتياجات أطفالهن. ولا ننسى أن “ممارسة الجنس بالمقابل” في المجتمعات الديمقراطية الليبرالية لم يؤد إلى أي سلوك ذكوري عنيف تجاه النساء كما هو الأمر في المجتمعات البطريركية” (الصفحة 267).
والخلاصة أن ما قدمته شودري من حجج قد تبدوا في الوهلة الأولى منطقية من حيث إن القوانين الوضعية مبنية على مثل هذا التفكير المنطقي، غير أنها في الحقيقة تجهل تماما أن هذا المنطق غير مؤسس على قيم الخضوع والعبادة والقبول بما شرعه الله باعتباره المشرع الأصلي.
علاوة على ذلك، فهي تسعى لاستعمال المقاصد العامة المستمدة من الشريعة المقدسة لتبديد تلك الشريعة ذاتها، حيث إن هذه الأهداف تبدوا محمية بشيء آخر غير الشريعة الالهية. ومن خلال الشريعة نجد أنه ليس هنالك حاجة حقيقية للشريعة!
إن هذا الاستنتاج استنتاج فاسد، فالمسلمون لا ينظرون إلى عبادة الله والخضوع له عبر شريعته باعتباره نظاما لمصلحة مشتركة يصلون من خلاله إلى تنازلات مع الله سبحانه، وإنما هو نظام يقودهم إلى إخلاص العبودية لله تعالى وحده، والانقياد لحكمته في إقرار تام بأن الأمور كلها تتحقق بطريقته وليس بطريقة أخرى.
وأخيرا، فإن “الإسلام الأكاديمي” ما دام قائما على أساس النقاشات التي تتضمن دعوات مسيئة له، وتسعى إلى تفكيك أصل الإيمان، بحيث يمكن أن يشارك في هذه النقاشات الداعون إلى تفكيك الإيمان، وبجانبهم المؤمنون المخلصون الباحثون في هذا المجال دون أن يكون لهم رأي أو انخراط لأداء الواجب الديني من خلال التنديد بمثل هذه الأفكار، فإن ذلك كله سيؤدي لا محالة إلى أن “نكبر أربعا على وفاة “الإسلام الأكاديمي” كما يقال.
*نشرت المراجعة في مجلة:
The Muslim World Book Review Volume 42.Issue 1.2021
- العنوان الأصلي للكتاب :
THE OBJECTIVES OF ISLAMIC LAW: THE PROMISES AND
CHALLENGES OF THE MAQASID AL-SHARI[A, edited by I. Nassery, R.
Ahmed and M. Tatari. Maryland, US: Lexington Books, 2018. Pp. 313. ISBN: 9781498549936
فخر الدين الرازي “المحصول في علم الأصول” المجلد الثاني، دار الكتب العلمية، بيروت،١٤٠٨/١٩٨٨، الصفحة ٢٨٣ (أشارت الباحثة [1]
أن الرازي قدم تفسيرا مثيرا للاهتمام بسبب اعتبار الشريعة للنسب ضرورة محفوظة بتحريم الزنا في الصفحة ١٠٠من كتابها Felicitas Opwic
“Maslaha and the purpose of the Law-Islamic Discourse on legal change from the 4th/10th to the 8th/14th ( المترجمة)Century”