المقالات

في معاشرةِ الناسِ نحتاجُ القلبَ أكثر من العقل

في معاشرةِ الناس نحتاجُ القلبَ أكثر من العقل، نحتاجُ لغةً تتقن مخاطبة العواطف أكثر من لغة المنطق والفلسفة والرياضيات والعلم، نحتاجُ المشاعرَ أكثر من الفكر، ‏نحتاجُ الكلماتِ الحيّة المهذبة أكثر من كلمات المجاملة المنطفئة، ‏ونحتاجُ المعاني الأصيلة الصادقة أكثر من الفائض اللفظي الذي يمكن أن تقول الألفاظُ فيه كلَّ شيء من دون أن تقول شيئًا جميلًا. الحكيمُ في هذا العالَم هو من يعمل من أجل أن تكون حياتُه والعالَمُ الذي يعيش فيه أجمل، ولا تكون حياتُه أجملَ إلا إن كانَ قادرًا على صناعة الجمال في حياة غيره. صناعةُ الجمال تتطلب أن ‏يعطي الإنسانُ ما هو أجمل في كلِّ كلمة يقولها، في كلِّ حرف يكتبه، في كلِّ فعل يفعله، وفي كلِّ قرار يتخذه، في كلِّ شيء يقدمه لغيره. وهذا سلوكٌ شاقٌّ على النفس.

الحُبُّ ليس صعبًا فقط، بل هو عصيٌّ على أكثر الناس، لا يسكن الحُبّ الأصيلُ إلا الأرواحَ السامية، ولا يناله إلا مَنْ يتغلّب بمشقةٍ بالغةٍ على منابع التعصب والكراهية والعنف الكامنة في أعماقه. حُبُّ الإنسان من أشقِّ الأشياء في حياة الإنسان، لأن هذا الكائنَ بطبيعته أسيرُ ضعفه البشري، يصعب عليه أن يتخلّص من بواعث الغيرة في نفسه، وما تنتجه غيرتُه من منافسات ونزاعات وصراعات، وما يفرضه استعدادُه للشرِّ من كراهياتٍ بغيضة، وآلامٍ مريرة.

مادام الحُبّ أثمنَ ما يظفر به الإنسانُ وأغلاه، فإن نيلَه يتطلب معاناةً شاقةً وجهودًا مضنية. الإنسانُ أعقدُ الكائنات في الأرض، وأغربُها في تناقضاته، وتقلّب حالاته. تناقضاتُه لا تنتهي، لأنها تتوالد منها تناقضاتٌ باستمرار، مالم يفلح الإنسانُ بالتغلب عليها بمزيدٍ من صلابة الإرادة، ووعي الحياة، واكتشافِ مسالكها الوعرة، والخلاصِ من ضغائنها، والعملِ على الاستثمار في منابع إلهام الحُبّ، ونحوٍ من الارتياض النفسي والروحي والأخلاقي الذي يسمو بالإنسان في مراتب الكمال.

حُبُّ الناس صعبٌ، حُبُّ الناس، إن ظفرَ به الإنسانُ، حالةٌ يعيشها الإنسانُ ويتحقّقُ بها في طور وجودي جديد، وهي لا تتكرّس إلا بالتربيةِ والتهذيب، والصبرِ الطويل بإكراه النفس على العفو والصفح، والتدريب المتواصل على إخماد نيران التعصب وتحطيم الأغلال المترسبة في باطنه، والعملِ الدؤوب على اكتشاف منابع إلهام الحُبّ وتنميتها. ومن أثرى هذه المنابع النظر لما هو مضيء في مَنْ تتعامل معه، والعفوُ، والصفحُ، والغفرانُ عن الإساءة، والانهمامُ بالذات، وعدمُ الانشغال بالغير وشؤونه وأحواله، والكفُّ عن التدخلِ في الحياة الخاصة للناس وانتهاكها، ومطاردتِهم بالأحقاد،كما يفعل البعضُ الذي ينصّب نفسَه وكأنه وصيٌّ على الناس، يترصد كلَّ شيءٍ يصدر عنهم فيحاسبهم عليه. وهو لا يعلم أن كلَّ فعلٍ يرتدُّ على فاعله، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر.

الحُبُّ أنجعُ دواءٍ تحمي فيه نفسَك وتحمي فيه غيرَك من آلام وشرورِ البشر. الحاجةُ للحُبّ من أشدِّ الحاجات العاطفية للإنسان، غير أن اشباعها لا يتحققُ بسهولة. الاستثمارُ في الحُبّ أثمنُ استثمار في إنتاج معنىً للحياة. العفو والصفحُ والحُبُّ أيسرُ دواءٍ يشفي الإنسانَ من آلامِ القلبِ وجروحِ الروح، مَنْ يجرّب العفوَ والصفحَ في المواقف المتنوعةٍ يجدهما كثيرًا ما يتغلّبان على حنقِ الناس، والشفاءِ من أحقادهم.كان وما زال العفوُ والصفحُ والحُبُّ أنجعَ دواءٍ لشفاء الإنسان وشفاء علاقاته في المحيط الاجتماعي من الأمراضِ التي تتسببُ بها الضغينةُ والبغضاءُ والكراهية. يُنسب للقديس أغسطينوس القول: “الكراهيةُ كمَنْ يشرب السُمَ على أمل أن يموتَ الآخرَ، فأول مَنْ يتسمَّم بالكراهية صاحبُها”.

أعترف أني جرّبتُ العفوَ والصفحَ مع بعض الناس الذين لا يعيشون إلا بالضغائن والأحقاد ففشلتُ، وجربّتُ العفوَ والصفحَ معهم ثانيةً وثالثةً ورابعةً وخامسةً وسادسةً وسابعةً ففشلتُ، وربما سأفشل لو كررتُ التجربةَ، لكني كنتُ وما زلتُ متشبثًا بقناعتي الراسخة التي تشتدّ كلَّ يوم بأن العفوَ والصفحَ هما الدواء الذي يشفي القلوبَ من الضغائن والأحقاد المتفشية في مجتمعنا، وهما الدواءُ الذي يكفل الشفاءَ من أغلب الظواهر المقيتة لسأم الناس من الحياة وجزعهم.

أعرفُ أحدَ الأشخاص المعقدين المغرورين المشاكسين، كان لا يطيقه الأقرباءُ والأصدقاءُ وجميعُ الناس الذين يتعامل معهم،كلُّ شيء يراه أو يسمعه من غيره ينقلب قبيحًا لديه. طالما سمعته يذم كلَّ شيء، لا يرى الجميلَ عند غيره إلا قبيحًا، وإذا استمع حديثًا من صديق، يعقّب عليه بقوله: “هذا خطأ، أنت تجهل هذه الأشياء”، وإذا قرأ نصًا لغيره سَخِرَ منه، بلا أن يفكِّر ويتثبت ويدقّق في مضمونه، ومتى رأى شيئًا جميلًا يزدريه. لا يبادر في العطاء، وعندما يتلقى هديةً جميلة يفتّش بعناية عن أيّ نقص أو عيب فيها، وإن لم يعثر على عيب يفتعل عيبًا كي يذمها.كان يترقب على الدوام أن يُقدِّم له الناسُ كلَّ شيء، ويمدحه الناسُ على كلِّ شيء، من دون أن يفكِّر يومًا أن يقدم شيئًا لأحد، أو يمتدح أحدًا على فعل حَسَن. انتهى مصيرُ هذا الإنسان في شيخوخته إلى أن يعيش منفيًّا في داخله، منبوذًا من الكلِّ، بعد أن نفر الكلُّ منه حتى أقرب الناس إليه.

سألني أحد تلامذتي: ما أجملُ لغة ومواقف أكسب بها قلوبَ الناس، وتترسّخ بها صلتي بهم، ويستطيع الإنسانُ من خلالها أن يعزّز الصدقَ والثقة والسلام والمحبة بين الناس؟ قلت له: الحُبُّ شفاءٌ للقلب من الغِلّ والضغينة، الحُبُّ عطاءٌ يسمو بمَنْ يحِبّ على مَنْ يعجز عن الحُبّ. إن أردت أن تعيشَ سلامًا في داخلك، وتعيشَ سلامًا في علاقاتك بالناس، حاول أن تمنحَ الإنسانَ أعذب ما يبهجه، حاول أن تكتشفَ الجميلَ في كلِّ إنسان ممن تتعامل معه، ‏وتعرب له عن جماله.كلُّ إنسانٍ يعيشُ سلامةً عقلية ونفسية وعاطفية نعثر على صفاتٍ حَسَنة في شخصيته ومواقفَ جميلة في سلوكه، وحين نترجم حضورَها لديه في كلماتنا بصدق نهديه أعذبَ ما يتمنى أن يسمعه منا. الإنسانُ بطبيعته يفرحُ كالأطفال ‏حين يرى أو يستمع إلى ما يكشف له عن جماله، ويتمنى أن تفرحَ الأرضُ وتحتفلَ بفرحه.

مادامت الطبيعةُ الإنسانية ملتقى الأضداد، فليس من السهل أن يعفو الإنسانُ عن إساءة الغير إليه. لأنه يتطلب أن يعملَ الإنسانُ سنواتٍ طويلةٍ بترويض نفسه على العفو، وإن كان هذا الترويضُ شديدًا مزعجًا مريرًا شاقًا مُنهِكًا، وليس سهلًا أبدًا. الترويضُ على العفو والصفح هو الأشقّ، خاصةً مع الأعداء المتطوعين، لا يمكن تجرعُه في بعض المواقف إلا كعلقم، إلا أنه كان وما زال يطهّر الإنسانَ من سمومِ الكراهية، وينجي من بعض شرور هؤلاء الأعداء، الذين هم كأشباح لا ملامح واضحة لهم. العفو والصفحُ يعكس أخلاقية رفيعة وسموًا نبيلًا، لا يظفر به كلُّ أحد، وإلا لتسامى إليه كلُّ الناس. العفو والصفحُ إحسانٌ، المُحْسِنُ يتسامى إلى مقام المحبة في قربه من الله، “فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ”.

لا دواءَ يخفضُ الآثارَ الفتاكةَ للشرّ، ولا سبيلَ لتخفيفِ آلام الكراهية، ولا وسيلةَ لتقليل النتائج المرعبة للنزعة العدوانية في أعماق الكائن البشري سوى المزيد من الاستثمار في العفو والصفحِ والحُبِّ، بالكلمات الصادقة، والمواقف الأخلاقية النبيلة، والأفعال المهذبة الجميلة، والإصرار على تجرّع مراراتِ العفو والصفحِ والغفران، على الرغم من صعوبتها، ونفور المشاعر منها.

العفو والصفح شديدان على النفس عندما تتكرّر الإساءة، ربما يجد الإنسانُ نفسَه يتلقى طعناتٍ غادرة متكرّرة ممن لم يتعامل معهم على الدوام إلا بالإحسان إليهم. الصفحُ عن هؤلاء صعب، ومحبتُهم أصعب، محبتُهم أشقُّ وأقسى المواقف وأشدُّها مرارةً في النفس، لا يطيقها الإنسانُ إلا في بعضِ الحالات الاستثنائية التي يرى فيها تحوّلًا في سلوكهم، وتلك حالات نادرة. طالما أشفقت على مثل هؤلاء، لحظةَ أكتشف أن حاجتهم للكراهية تفوق حاجتهم للمحبة، وأنهم لا يعيشون إلا بكراهية من حولهم، بل حتى كراهية أنفسهم، أثر اعتلالِ صحتهم النفسية، وانهيارِ حياتهم الأخلاقية، إنهم كحالة بعض الكائنات الحية التي لا تعيش إلا في الظلام أو في الأماكن القذرة.

الحريقُ لا يمكن إطفاؤه إلا بالماء، الحربُ لا يمكن إطفاؤها إلا بالسلام، الكراهيةُ لا يمكن شفاؤها إلا بالعفو والصفح والغفران، الصفحُ ممكنٌ وإن كان شاقًّا. المحبةُ أشقّ، وأحيانًا ليست ممكنةً، غير أن العملَ على إثراء منابع إلهام المحبة وتكريسها غيرُ مستحيل عبر الحرص على تغذية هذه المنابع باستمرار. أثرى منابع المحبة أن تكون صادقًا مع نفسك، صادقًا مع الناس، صادقًا مع الله. عندما تكون صادقًا في كلِّ كلماتك ومواقفك تكون معلِّمًا للأخلاق، وملهمًا للمحبة في هذا العالَم الموحش.

 

عبدالجبار الرفاعي

د. عبدالجبار الرفاعي مفكر عراقي، ‏متخصص في الفلسفة وعلوم الدين. من مؤسسي علم الكلام الجديد في المجال العربي. منذ ثلاثين عامًا يكرّس منجزه لفلسفة الدين وعلم الكلام الجديد. مدير مركز دراسات فلسفة الدين في بغداد، ورئيس تحرير مجلة قضايا إسلامية معاصرة، منذ إصدارها عام 1997 وحتى اليوم. أصدر أكثر من 50 كتابًا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى