طوفان الأقصى : أوهام الصهيونية
منذ بداية التفكير في إعطاء دولة، ووطن قومي لليهود في فلسطين كان الغرب يعرف جيدا ما هو الدور الذي ينبغي أن تقوم به هذه الدولة في المنطقة. لم يكن هذا التفكير يعني التضامن مع شعب بلا أرض، ولكنه كان تكريسا لمصالحه في المنطقة من خلال خلق حاميها الذي يضمنها أبدا من خلال ما يقدمه لها من أجل البقاء والاستمرار. في المقابل لم يكن العرب في مستوى الرد على تشكيل هذا الكيان لما أصابهم من ضعف بسبب خضوعهم للاستعمار الذي قسم أوصال الوطن العربي، وصنع خرائط بحدود مرشحة باستمرار لإثارة القلاقل والصراعات. وكان الصراع مع الدولة الصهيونية غير متكافئ لتباين إمكانات الطرفين المتصارعين. غير أن طوفان الأقصى جاء ليقلب المعادلة، ويكشف لمن ظل منخدعا، أو متخادعا، بالأطروحة الصهيونية، بدعوى أن بالإمكان التعايش والتطبيع معها بما يحقق السلام والأمن في المنطقة برمتها، وذلك بإبرازها على حقيقتها، وأن ما صنعته منذ بداية تشكلها ليس سوى أوهام انكشفت بالمطلق ليس للمنخدعين فقط، بل وللصهاينة أنفسهم.
منذ أكثر من عام وثلاثة أشهر وإسرائيل لم تشبع من الدماء، ولا من التدمير الذي لم يستثن شيئا. بل إنها تتبجح بالمنجزات، وتسعد للاغتيالات التي تقدمها دليلا على قوتها وإصرارها على تحقيق النصر، وعدم خضوعها للضغوط أيا كان نوعها. لقد اتضح لذي عينين أن الدولة الصهيونية عنصرية، تقيم أساسها على نزعة دينية متطرفة تدعي من خلالها تفوقها على سائر الأمم والشعوب، وأنها قادرة على تحدي الأعراف والمبادئ والقوانين التي تعترف بها كل الدول. كما انها تنبني على أساطير لا علاقة لها بالعصر الحديث، وبالقيم الإنسانية. إن ادعاء عدم اعتراف الصهيونية بالعالم، وأنها تقوم وتفعل ما تريد من دون خشية من عقوبات أو روادع، ليس سوى تعبير عن مجموعة من الأوهام يتضح بالملموس أنها غير قادرة على الصمود والاستمرار.
لقد سقط، أولا، وهم كون الدولة العبرية واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط، وبرزت ديكتاتوريتها ليس فقط ضد العرب الفلسطينيين في غزة فقط، ولكن أيضا في الضفة. بل إن عنصريتها تبدو أيضا في علاقتها ببعض المستوطنين الذين يتعامل معهم على أنهم من درجة ثانية. وما معارضتها لأهالي المحتجزين كل هذه المدة، وعدم الخضوع لمطالبهم سوى تعبير عن التعالي عن أي مطلب عادل يهم المستوطنين. ولعل في الانقسام الظاهر الذي باتت تعرفه الدولة الصهيونية داخليا، والهجرات المتواصلة بلا عودة، وتوظيف المرتزقة، والعمل على إدماج الحريديم في الخدمة السكرية سوى دليل على ما صار يهدد وحدة الدولة العبرية المزعومة، ويبرز تناقضاتها المستترة.
كما برز ثانيا وهم العبقرية اليهودية في مواجهة المقاومة الفلسطينية، رغم كون الإعلام العالمي حاول أن يصورهم ويبرزهم على أنهم مختلفون عن بقية البشر. لقد استغل اليهود واقعهم في التاريخ للبقاء منعزلين بلغتهم ومعتقداتهم، ولكنهم في الوقت نفسه كانوا يستغلون ما توفره لهم المجتمعات التي عاشوا في أحضانها للتعويض عن النقص الذي كانوا يستشعرونه، فبذلوا أقصى ما يمكن من الجهد لإبراز اختلافهم عن الآخرين. وكل من نبغ منهم في الغرب كان نتاج ما تطبع به، وما انخرط فيه مما عرفه الغرب من تحولات فكرية واقتصادية وسياسية، ولم يكن لذلك أي علاقة بلغتهم أو ثقافتهم وطوائفهم الدينية المنغلقة.
أما ثالث وهم كرسوه خلال كل حروبهم أنهم يمتلكون الجيش الذي لا يقهر. إن كل الأهداف التي سطرها اليمين المتطرف في مواجهة طوفان الأقصى لم يتحقق منها سوى التدمير الذي تقوم به الأسلحة الفتاكة التي تزودهم بها أمريكا والغرب. فالطائرات والمسيرات والمدمرات، في البر والجو والبحر، والاغتيالات لم تكن تدل على بسالة جيش وشجاعته في التصدي ليس لدولة تمتلك ما تمتلكه إسرائيل من ترسانة حربية، بل على العكس كانت تدل على الجبن والخوف والفرار في مواجهة حركات لا تمتلك سوى الشجاعة في الدفاع عن قضية عادلة تدافع عنها. لم تصمد إسرائيل أمام حزب الله، رغم كل ما قامت به لتدمير الجنوب. وانتهت بالذهاب إلى المفاوضات من أجل إيقاف الحرب. وما يلحقه الحوثيون بها حاليا من أضرار بالغة، رغم بعد المسافة، والعجز عن التصدي لمسيراتها وصواريخها دليل آخر على وهم الجيش الذي لا يقهر: الجيش الذي يحارب من خلف الشاشات الإلكترونية. أما استمرار المقاومة في غزة فيحمل أكثر من دلالة.
إن سقوط هذه الأوهام وغيرها يبين لنا بجلاء الوقائع الدالة على ذلك. فالدولة ومستوطنوها لا علاقة لهم بالديمقراطية ولا بحقوق الإنسان، ولا بالأعراف الدولية. إن الدولة الصهيونية دولة ميليشيات وعصابات مسلحة من المستوطنين الذين لا يعرفون سوى قتل الأطفال، واعتقال الشباب، وسرقة الممتلكات، وحرق البيوت، واقتحام الأراضي الزراعية وإتلاف محاصيلها. والأدهى من ذلك أن المجرمين الذين يقومون بهذه الأفعال يأخذون لهم الصور التي يتبجحون بها عنوانا على بسالتهم وشجاعتهم التي لا تقهر. ومن الوقائع الأكثر بروزا على انكشاف أوهام الدولة الصهيونية عدم إيمانها، ولا رغبتها في التعايش مع جيرانها، بدعوى الدفاع عن النفس. وهي من خلال هذه الدعوى لا شعار لها أمام كل من يتعامل معها سوى كلمة واحدة: الاستسلام أو الإبادة. إنه شعار يعكس الغطرسة والعنجهية وادعاء التفوق: لك أن تخضع لإرادتي، وتفعل ما أقول لك، وإلا فأنت عدو سيأتي اليوم الذي ستتعرض فيه لما تراه بأم عينيك الآن في غزة والضفة والجنوب اللبناني. أما شعار الدولتين، والسلام، والأمن في الشرق الأوسط فلا تعتبره إسرائيل سوى كلام فارغ، ولا معنى له. لا أمان وسلام إلا لإسرائيل، والحرب والدمار على العرب جميعا.
لا تتورع الصهيونية عن تدمير أي شيء. ومع ذلك تؤكد أن أمنها مهدد، وهي التي تهدد المنطقة بكاملها، وتعبر بلا التواء أو التباس أن طموحها يمتد لفرض هيمنتها، وتوسيع رقعتها لتكوين إسرائيل الكبرى. إن الدفاع عن النفس الصهيونية لا يعني سوى القضاء عن أي نفس عربية تتنفس الهواء في المنطقة. وعلاوة على هذه الوقائع نجد الكذب، والنفاق، والتآمر، وكل الصفات الدالة على غياب الأخلاق في العلاقات مع الآخر، وعدم الثقة فيه، حتى ولو كشف لها عن رغبته في التعامل معها. إن الدعوى التي ترفعها الصهيونية، ومعها أمريكا، أنها تحمي المنطقة، وتحافظ على أمنها من محور الشر الذي تختزله في إيران. لكن كل الشر لم يأت إلى المنطقة إلا من الاستعمار القديم، ومن الإمبريالية الأمريكية، والصهيونية. ولا يمكن أبدا أن يتحقق السلام في المنطقة إلا بضمان حقوق الشعب الفلسطيني في أن يعيش في وطنه بلا وصاية صهيونية، أو تدخل أمريكي. وما لم ترضخ إسرائيل لهذه الحقيقة، وتتبناها أمريكا، ويطرحها الغرب، فلا أمن ولا استقرار في المنطقة.
بات الحديث مع طوفان الأقصى يدور حول نهاية إسرائيل من لدن باحثين يهود وغيرهم. لا أحد يمكنه التكهن بما يمكن أن يحصل. لكن التاريخ يعلمنا أن للظلم والعسف نهاية. وأن سقوط أي إمبراطورية قدر مقدور. وملامح تدهور الإمبراطورية الأمريكية بدأ في التشكل. وزوال إسرائيل مقرون بزوال أمريكا لأنها بدون الدعم الذي تلقاه من الغرب إعلاميا ودبلوماسيا، ومن أمريكا سياسيا وعسكريا بصورة خاصة لا قيمة لها. وآية ذلك أنه رغم كل الإسناد الذي تلقاه إسرائيل باعتبارها ذراعا لأمريكا في المنطقة لم تحقق أيا من الأهداف التي سطرتها منذ بداية طوفان الأقصى. بل إنها لم تجن من وراء كل الغطرسة سوى تأكيد أنها تعيش الأوهام.