الفتوى الرقمية : الخصائص والمشكلات
لقد أثر التحول الرقمي الذي عرفه عالم الإعلام والتواصل على كل المجالات، ومنها المجال الديني الذي يتميز بخصوصية خطابه ومؤسساته وآليات اشتغاله. ومن المؤسسات الدينية التي تأثرت بالتحول الرقمي مؤسسات الفتوى فقد انتقلت من الفضاء الواقعي إلى الفضاء الرقمي، ومن عالم الهويات الشخصية إلى عالم الهويات الافتراضية، ومن منطق طلب الفتوى إلى منطق العرض… لقد تغيرت صيغة الفتوى ووسائلها واصطبغت بصبغة الفضاء الرقمي،فمع ظهور الأنترنيت في العصر الحديث دخلت الفتوى سياقا جديدا وتحولت من عالم الأشخاص والمفتين إلى العالم الرقمي والتقني، هذا العالم الذي نشأ عقب أربعة تحولات أساسية؛ “يرتبط التحول الأول بالمعالجة المتجانسة لكل معلومة كيفما كان طبيعتها، والتي تضع حدا للتحديد التقليدي الذي طالمنا تعايشنا معه، بين نوع المعلومة والدعامة المادية(النص على الورق، والصوت على الأشرطة المغناطيسية، والصور على الأفلام): ففك المعلومة عن دعامتها يشكل إذن ثورة بالغة الأهمية. والتحول الثاني له علاقة بتلك التطورات الحاسمة التي تحققت بفضل الإلكترونيات والبرمجيات وأجهزة البث التي مكنت من خلق آلات أكثر فاعلية. والتحول الثالث يهم تطوير علوم جديدة كالإعلاميات ومعالجة الإشارة. أما التحول الأخير فنجده في غنى التطبيقات الناتجة عن المهارات التي تحققت عقب الابتكار التكنولوجي والصناعي. إن رقمنة المعلومات واستعمال الحساب ساعد على زيادة قوة الآلات، مما أدى إلى تراكب الابتكارات التكنولوجية، ومن ثم تغيير نمط عيشنا وعملنا”.[1]
فقد برزت الفتوى الرقمية كوعاء جديد للفتوى في سياق هذه التحولات يتجاوز الأوعية التقليدية المعروفة، ويمكن صياغة تعريف إجرائي للفتوى الرقمية بأنها : إخبار بحكم شرعي عن طريق أداة من أدوات التواصل الرقمي : كالمواقع الالكترونية والمنتديات وتطبيقات الهواتف الذكية والشبكات الاجتماعية … إلى غير ذلك مما هو موجود الآن أو مما يستجد في مستقبل الأيام.
أولا : خصائص الفتوى الرقمية
انتقال الفتوى إلى العام الرقمي سيجعلها تصطبغ بخصائص هذا العالم وتتأثر به ويمكن إجمال هذه الخصائص فيما يلي :
الفتوى السريعة: إن الفضاء الرقمي فضاء السرعة والانتقال السريع للمعلومات، والفتوى الرقمية تستمد سرعتها من سياقها الرقمي؛ فهي تختلف عن الفتوى المكتوبة أو الفتوى الشفوية التي يكون فيه الاستفتاء يرتبط بسياق مخصوص ومكان معلوم وزمان محدد ومفت معين ومستفت معلوم، فتكون منضبطة لهذا السياق بأبعاده الزمنية والمكانية والشخصية، أما الفتوى الرقمية فهي فتوى سريعة، غير منضبطة للأبعاد السابقة ومن تم نرى تأثيرا مباشرا وسريعا للفتاوى الرقمية في إحداث تغيرات قد تكون أحيانا ايجابية إذا كانت الفتوى سديدة ورشيدة ومستبصرة، وقد تكون سلبية إذا كانت الفتوى خاطئة أو فيها مصالح فئوية أو طائفية.
ولعلنا هنا نستذكر كثيرا من الفتاوى الرقمية التي تناقلتها وسائل الإعلام، ورأينا بالتالي مدى الانتشار الواسع لها في جمهور المستفتين من المسلمين، بل في بعض الأحيان وجدنا صدى لهذه الفتاوى في وسائل الإعلام الغربية.
إن ميزة الانتقال السريع للفتاوى يستلزم مزيدا من التؤدة والأناة ومعرفة المآلات التي قد تنتج عن الفتوى عبر الفضاء الرقمي، خاصة أن تلك الفتوى تكون في متناول ملايين البشر، وقد تتسبب أحيانا في إثارة النعرات والحروب داخل المجتمع الواحد، الأمر الذي يعد تحديا للمؤسسات الدينية الرسمية وللمرجعيات الشرعية في قدرتهم على مواكبة أسئلة المستفتين والإجابة عنها.[2]
الفتوى السائلة: يرى زيجمونت باومان في كتابه “الأخلاق في عصر الحداثة السائلة”: أن صلابة المرحلة السابقة ذابت فتداخلت الحدود وتراخت السمات وازدادت ضبابية وتشابه، حتى صار من الممكن أن نتحدث عن سيولة أو ذوبان، سواء أكان ذلك في حدود الدول أو معالم المجتمع أو سمات الهوية الفردية أو خصائص الثقافات[3]، وقد ساهم في تدشين هذا النمط الفعلي، انتشار وسائل الإعلام التفاعلية، التي شكلت واقعا جديدا، منفلتا من قبضة السلطة، والتي تملك كل المؤسسات الإيديولوجية، لكن اليوم، المرجعيات الوافدة عبر التكنولوجيا الفائقة، تمتلك حظوظا متساوية في سرقة المواطنين من أوطانهم، والمؤمنين من معابدهم، وبالتالي أصبحت مؤسسات التنشئة الاجتماعية، منفلتة من يد السلطة، بل أصبحت هي الأخرى تبحث عن مكان دخل المجتمع السبراني الجديد.”[4]
وهذه السيولة فسخت العلاقة بين الفرد والمؤسسات الدينية الرسمية، وطبع الأفراد على اعتناق التدين الفردي السائل[5]، وفق الطبيعة الاستهلاكية والترويجية للعقائد والقضايا الدينية، الأكثر تحررا من الرقابة، التي تفضي إلى نقلها بأكثر سرعة والإفراط في التبسيط، إنها تجبر المتلقين على استهلاكها بسلاسة ونعومة، فأبرزت بذلك الانعتاق الفعلي للشباب من الضبط المرجعي للتدين.[6]
لقد أضحت الفتوى في السياق الرقمي فتوى سائلة، فيمكن لأي فرد مهما كان مكانه وفي أي زمان أن يتحصل على كم هائل من الفتاوى، بشكل مباشر ومتزامن عبر النقاش الحي، أو بشكل غير مباشر عبر البريد الالكتروني أو مواقع الفتيا ومواقع بث التسجيلات.
وبدون شك فإن هذا الشكل من الفتاوى قد تكون له مخاطر وآثار سلبية كثيرة على الأفراد، فقد يكون صاحب الموقع غير معروف، أو بالأحرى غير مشهود له بالكفاءة والأهلية لتقديم الفتاوى، ولتفسير قضايا الواقع بمنظور الدين الإسلامي، فكثيرا ما انحرف الشباب عن جادة الصواب بفعل الاستماع لتسجيل صوتي أو قراءة فتوى عبر مختلف هذه المواقع المذكورة، وكثيرا ما التحق الأفراد بجماعات متطرفة خارجة عن الطريق المستقيم، وعن الدين الإسلامي الوسطي السمح. خصوصا وأن التقارير تشير إلى أن القضايا الدينية تحتل المراتب الأولى من اهتمام الشباب في الفضاء الرقمي في معظم بلدان العالم العربي.[7]
ولقد أثبتت الأحداث المتتالية التي عرفها العالم الإسلامي نجاعة الأسلحة الرقمية اللطيفة، وعلى رأسها مواقع التواصل الاجتماعي، في تفكيك جميع السلط داخل المجتمعات العربية الإسلامية، بما فيها السلطة الدينية، آخر حصن من حصون الدفاع عن أمن المجتمع الروحي والديني وخصوصيته. كان المنطلق من تعميم المعلومة الدينية تعميما تغيّر معه الوعظ والافتاء الديني، حيث أصبح بمقدور كل فرد، مهما كانت معرفته الدينية متواضعة وضئيلة، أن يمارس الوعظ والافتاء، متحللا من كل شروط الوعظ والفتوى، سياقا وزمنا ومكانا وشروطا وتأهيلا. يكفي أن يتوفر المرء على هاتف نقال وأن يستطيع الدخول إلى أحد محركات البحث كي يتحول إلى واعظ رقمي ومفت رقمي، ينتقي من أحاديث غيره من المشايخ والفقهاء والعلماء والوعاظ مادة يعيد ترتيبها بحسب ميوله العقدي وهواه الإيديولوجي، فيحذف ما يشاء ويضيف ما يشاء، قبل أن يدبجها بعنوان من عنده، يحدد به سياق تأثيرها الجديد.[8]
لم يعد القول الفصل بين السلطتين، سلطة الفرد وسلطة الجماعة العالمة، يعتمد على الحجة العلمية وقوة الاستدلال ووفرة الإحالات على المذهب والاحتماء بإطاره المرجعي، بل صار يعتمد على ما يمكن أن يحدثه من “طنين (Buzz)لم تعد الحقيقة الدينية منوطة برجاحة الرأي المستساغ في سياق مجتمعي بعينه، بل صارت منوطة بقدرة الجهة التي تصوغها على توصيلها إلى أكبر عدد من المتلقين[9].
الفتوى المتدفقة : إن الفضاء الرقمي يتميز بالتدفق الهائل للمعلومات والتي لا تتوقف، وهذه المعلومات يصعب التمييز فيها بين الصحيح والكاذب، لذلك عد العصر الرقمي هو عصر ما بعد الحقيقة بامتياز، حيث ممارسة التضليل الإعلامي، ونشر الأخبار الكاذبة(Fake news) في وسائل التواصل الاجتماعي وهي ممارسة تعتمد أساليب متعددة، من خلق حسابات وهمية وآلية تساهم فيها الخوارزميات بدون أساس، فالأخبار الكاذبة تنتشر بسرعة تفوق بمراحل قدرتنا على الترويج للحقيقة فقد كشفت دراسة نشرتها مجلة “ساينس” العلمية مطلع مارس 2018 من خلال كشف تحليلي لأكثر من 126 ألف موضوع تم نشرها على موقع تويتر للتواصل الاجتماعي خلال الفترة ما بين عامي 2006 و 2017 أن الأخبار الكاذبة تحظى بفرصة انتشار تفوق نظيرتها الحقيقية بأكثر من 70، كما تستغرق الأخبار الحقيقية ستة أضعاف الوقت المطلوب لكي تصل إلى العدد ذاته من المتابعين .[10]
فالأخبار الكاذبة ومنها الفتاوى المختلقة التي تنتشر عبر منصات التواصل الاجتماعي والتي يسهر عليها جيش التضليل، تتحول إلى أدوات للتضليل ولإثارة الفتن والنعرات الطائفية والصراعات المذهبية.
لقد أنهت الثقافة الرقمية عصر النظريات وأدخلت بذلك الإنسان في عصر المعلومات. ومع هذا الوضع الجديد، جعلت نسقية الخطاب الفقهي تتراجع أمام أحكام جاهزة تتدفق بانسيابية كبيرة الشيء الذي ورث المتلقي لهذه الأحكام جهلا كبيرا بحيثيات الصناعة الفقهية وارتباطها بالسياق والمقاصد و بالمآلات، وجرأه أن يتحول إلى مفت وواعظ رقمي، لا يتحرج في أن يتلقف المعلومة الدينية أنى كان مصدرها وموردها ليعيد نشرها، خارج إطارها الزمني والمكاني والسياقي والمرجعي.[11]
ثانيا : مشكلات الفتوى الرقمية
فالعالم الرقمي رغم ما يوفره من إمكانات ومن سبل التواصل السريع والوصول السريع إلى المعلومة إلا أنه عالم يعج بالمشاكل أيضا، وهي مشاكل انتبه إليها المشتغلين بقضايا العالم الرقمي وإشكالاته، ولم تسلم الفتوى في السياق الرقمي من مشكلات نجملها في ثلاثة مشكلات أساسية:
- غموض الهوية الافتراضية للمفتي والمستفتي.
إن أكبر المشكلات التي تعاني منها الفتاوى الرقمية هي غموض هوية المفتي، ففي أغلب الأحيان لا يستطيع المستفتي التعرف على هوية المفتي ومن أفتى بالفتوى في المواقع الإلكترونية، وهذا ما يسبب مشكلة أثناء انتشار هذه الفتاوى في الفضاء الرقمي لشيوخ تجهل هويتهم الافتراضية وأهليتهم العلمية والأخلاقية.
“فإن كثير من الفتاوى التي يتحصل عليها الأفراد تكون مجهولة المصدر وحتى المستفتي فإنه مجهول كذلك، أي أن كل من المفتي والمستفتي يعتبران شخصيتان افتراضيتان، فلا يمكن معرفة الهوية الحقيقية لكليهما، ولهذا فإن الحصول على فتاوى من أشخاص بهذه الميزة، يشكل خطرا كبيرا ويسبب حالة من الفوضى في مجال الإفتاء[12].
وهذا المشكل يرتبط بطبيعة المحتوى الرقمي العربي الذي هو محتوى يعاني من مشكلات متعددة ومنها مشكلة عدم معرفة هويته وهذا ما رصده التقرير التأسيسي للمحتوى الرقمي العربي في أربعة أوجه:
- المجهول الجغرافي أو المحتوى، الذي لا تتوفر بشأنه معلومات تكشف جنسيته من أين أتى؟
- المجهول الزمني أي المحتوى الذي لا يحمل معلومات تدل متى نشأ وانتشر.
- مجهول الملكية، أو المحتوى الذي لا يكشف عن هوية أصحابه ونوعهم ذكورا أم إناثا، ونمطهم أفرادا أم مؤسسات أم حكومات أم هيئات عامة، ومن يكونون؟
- مجهول القيمة، أي المحتوى الذي لا تتوفر معلومات بشأن قيمته السوقية أو عائده السنوي، أو إن كان يضع هذا الأمر في حسبانه أم لا.
وبناء على تحليل التقرير فإن 0.48 % من المحتوى العربي يقع في المجهول الجغرافي، و1.09 %يقع في المجهول الزمني، أما الملكية المجهولة فتصل إلى 62 % في المدونات و 71 % في الفيديو و12% في شبكات الصور وفي تويتر52 % والفيس بوك والشبكات الاجتماعية 49% وفي المواقع %11 وفي المنتديات 2 %.[13]
إن هذه الأرقام دالة خصوصا ما يتعلق منها بالمحتوى الرقمي المجهول الملكية، مما يستدعي التعامل مع الفتاوى الرقمية والمنشورة في الفضاء الرقمي بحذر وتريث وتثبت.
- فقدان الثقة في القيمة العلمية والعملية للفتوى
فكثرة تداول الفتاوى في الفضاء الرقمي وعدم تقديرها بقدرها؛ من دون افراط ولا تفريط، جعل الفتوى تفقد صورتها الروحية التي عبر عنها بعض العلماء بأنها توقيع عن الله.
وصار التعامل معها كحدث عادي يتم تداوله كل يوم. وثمة عوامل أخرى عمقت تآكل هذه القيمة الروحية لعل أبرزها ما يمثل في فتاوى الإثارة والفتاوى الشاذة التي يتم ترويجها بكثرة في العالم الرقمي، وتداولها في شبكات التواصل الاجتماعي من قبيل إرضاع الكبير وغيرها [14].
إن الأصل في الفتوى أنها تصدر لأجل التطبيق، فهي تنزيل الحكم الشرعي الكلي على واقعة محددة التفاصيل والأطراف. فهي إخبار عن حكم الله تعالى في المسألة المطروحة. فما لم يكن من يتولى الفتوى على درجة من العلم تؤهله للإجابة عن المسألة المطروحة أمامه، ومالم يكن على درجة من التقوى والأمانة، فإن دين الله تعالى وحكمه سيكون عرضة للتضييع والتزييف والتحريف[15]. وهذا المعنى الشرعي قد يغيب أحيانا عمن يتصدى للإفتاء في العالم الرقمي حين لا يستحضر خصوصية الفتوى العلمية والعملية ومنزلتها الدينية والشرعية.
فتوالي الفتاوى في العالم الرقمي وتعدد مصادرها ومواردها والمتصدرين لها، وخروجها أحيانا بدون تمحيص ومن دون تريث، وأحيانا صدروها ممن هو غير أهل لها، جعل ثمة حال من فقدان الثقة في الفتاوى الرقمية.
- الفتوى الرقمية وتجاوز المرجعيات التقليدية
من آثار الثقافة الرقمية أنها ربطت الخطاب الديني العلمي بفنون التواصل، ولما أصبح الأمر كذلك انهارت كل السلط الدينية التقليدية التي كانت تستمد شرعيتها من الانتساب إلى منظومة تراثية أصولية وأصيلة، وجعل يحل محلها سلط جديدة قادرة على توصيل المعلومة الدينية في عالم رقمي متحرر من سطوة المكان. وقد نتج عن هذا الاقتران بين الحقيقة العلمية والقدرة على التواصل والتوصيل أن برزت إلى السطح «شعبوية علمية» تقوض كل الأسس التي كانت تقوم عليها المعرفة الدينية، ومن بينها الفتوى فلم تعد تتلقى من المرجعيات الشرعية الأصيلة بل أضحت تتلقى في العالم الرقمي بكل ما يموج به من إشكالات والتباسات، وبالتالي أصبح من العسير الظفر بإجماع يقوم عليه أمن المجتمع الروحي. فلم يحصل وأن تباعدت الشقة بين المؤسسة العلمية المتحيزة في المكان وبين المتلقين للخطاب الديني مثلما تتباعد اليوم.[16]
وهذا ما أدى إلى التشكيك في المرجعيات الفقهية المحلية، من خلال خلخة الثقة في المفتي المحلي، وكذا تجاوز المذهب المتبع إلى مذاهب أخرى توافق أحيانا أو تخالف أعراف البلد، وذلك عندما يسمع المستفتي وتأتيه فتاوى عبر شبكات التواصل الاجتماعي ومواقع الأنترنت وتطبيقات الهواتف الذكية وغيرها، مخالفة لما يسمعه من مفتي بلده، أو اتباع ما يسمعه من فتاوى تدعو لتجاوز المذاهب كلية ترويجا لما يسمى اللامذهبية مما نتج عنه فوضى الفتاوى وشذوذها.
وفي هذا السياق برزت ظاهرة الدعاة الجدد[17] الذين أصبحوا يتمعتون بقدر وافر من النجومية، ليس لارتباط زادهم المعرفي أو العلمي بمنظومة فقهية راسخة، بل لكونهم متقنين لفنون التواصل، حتى صرنا نشهد زمنا صار الناس فيه يأخذون دينهم عن فكاهيين، يتحلقون حولهم بالمئات ويتابعون تسجيلاتهم بالملايين.[18]
ولقد حاولت المرجعيات الدينية والمؤسسات الدينية الرسمية مواكبة هذا التحول من خلال نشر وبث ومشاركة فتاويها في الفضاء الرقمي، وخلق منصات رقمية خاصة بها تعمل على أن تكون جسر للتواصل بينها وبين جمهورها، وهي خطوة مهمة إلا أن هذا الأمر لن يحد من تدفق الفتاوى والإفتاء الشخصي الفردي الذي يقوده الفاعلون الجدد، لأننا بكل بساطة دخلنا عالما جديدا في علاقة الدين بالتقنية، عنوانه العريض هو التسليع الديني عبر التدخل الفردي و الشخصي ممن يمكن أن نطلق عليهم “المفتون الجدد” على شاكلة ” الدعاة الجدد”؛ لأنهم امتلكوا ناصية التقنية ويحظون بثقة الجمهور الديني، ولاستعمالهم مفاهيم جديدة في الفتوى والإفتاء تدفع بإغراء المريدين.[19]
إن السياق الرقمي يقتضي من المرجعيات والمؤسسات الدينية والهيئات الشرعية تجديد آليات اشتغالها، وتطوير أداوتها، بشكل يتيح لها مواكبة التحولات التي تقع في الفضاء الرقمي، إنها تحولات تستدعي التنسيق والتعاون بين هذه المؤسسات، ووضع ميثاق أخلاقي وعلمي يؤطر الممارسة الافتائية داخل الفضاء الرقمي من خلال توثيق الفتاوى الرقمية من جهات علمية متخصصة وضرروة توضيح أسماء المؤلفين ومؤهلاتهم العلمية والشرعية وتخصصاتهم. كما تستدعي من مؤسسات التنشئة الدينية والتربوية اعتماد مناهج تربوية حول التثقيف الديني الرقمي لتمكين الشباب من أدوات تربوية وعلمية تتيح لهم التعامل مع العالم الرقمي بوعي وبيقظة، فعلاقتنا بالعالم الرقمي ومنتجاته لم تخضع لنوع من التثقيف والتوجيه والمصاحبة، بل انخرطنا فيه بدون تقدير واستشراف لأبعاده النفسية والاجتماعية والدينية، ونحن الآن بحاجة إلى إعادة النظر في علاقتنا به وبالأخص في علاقته بالدين، بما يحقق الأمن الروحي والاطمئنان النفسي والاجتماعي، ويحافظ على مقاصد الشريعة الإسلامية.
[1] الثورة الرقمية، ثورة ثقافية؟ ريمي ريفيل، ترجمة سعيد بلمبخوت، سلسلة عالم المعرفة العدد 462 يوليو 2018 ، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب- الكويت.ص27.
[2] فوضى الإفتاء، أسامة عمر الأشقر، دار النفائس، عمان – الأردن، ط1، 20009، ص111-112
[3] الأخلاق في عصر الحداثة السائلة، زيجمونت باومان، ترجمة سعد البزاعي وبثينة إبراهيم، هيئة أبو ظبي للثقافة والسياحة، ط1، 2016، ص11.
[4] الخطاب الديني لمواقع اليوتيوب وأزمة الضبط المرجعي للتدين السائل دراسة ميدانية لعينة من الشباب، رقاد الجيلالي، مجلة الدراسات الإعلامية، العدد 5، نوفمبر، 2018، ص33
[5] التدين الشبابي بوصفه نمطا منفلتا من المؤسسة الأيديولوجية، هاني عواد، مجلة عمران للعلوم الاجتماعية والإنسانية، العدد 2، خريف 2012، ص 78.
[6] الخطاب الديني لمواقع اليوتيوب وأزمة الضبط المرجعي للتدين السائل دراسة ميدانية لعينة من الشباب، رقاد الجيلالي، مجلة الدراسات الإعلامية، العدد 5، نوفمبر،ص33.
[7] قضايا الشباب العربي في الفضاء الرقمي في العام 2010، جمال غيطاس وخالد الغمري، مؤسسة الفكر العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 2012م ، ص23-27 وينظر التقرير الذي نشره مركز بيركمان للأنترنت والمجتمع في جامعة هارفارد الأمريكية “خريطة عالم التدوين العربي”، ص5. https://cyber.harvard.edu/sites/cyber.harvard.edu/files/Mapping_the_Arabic_Blogosphere_0.pdf
[8] الأمن الروحي” الإسلامي في زمن الثقافة الرقمية، خالد حاجي، منتدى الشرق https://cutt.us/KSxOw نشر بتاريخ 18/02/2019.
[9] الأمن الروحي” الإسلامي في زمن الثقافة الرقمية، خالد حاجي، منتدى الشرق https://cutt.us/KSxOw نشر بتاريخ 18/02/2019.
[10] مستقبل العصر الرقمي: الفرص والمخاطر، خالد ميار الإدريسي، مجلة أفكار، دجنبر 2018، ص23-24
[11] واقع العلم الشرعي وتحديات الثقافة الرقمية، خالد حاجي ضمن أعمال ندوة ” أي مستقبل للبحث في العلوم الإسلامية” مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية، 2019، ص218
[12] تكنولوجيا الاتصال الحديثة وتأثيراتها الاجتماعية والثقافية، إبراهيم بعزيز، ص160.
[13] التقرير التأسيسي للمحتوى الرقمي العربي، مؤسسة الفكر العربي، بيروت، ط1، 2013م ، ص19.
[14] المؤسسة الدينية الرسمية والفتوى، وسام فؤاد، ضمن كتاب حراسة الإيمان: المؤسسات الدينية، مجموعة باحثين، مركز المسبار للدراسات والبحوث، دبي- الإمارات، ط 2، 2011، ص258.
[15] المرجع نفسه.
[16] “الأمن الروحي” الإسلامي في زمن الثقافة الرقمية، خالد حاجي، منتدى الشرق
https://cutt.us/KSxOw نشر بتاريخ 18/02/2019
[17] ظاهرة الدعاة الجدد، وائل لطفي، مطابع الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2005م.
[18] واقع العلم الشرعي وتحديات الثقافة الرقمية، خالد حاجي ضمن أعمال ندوة ” أي مستقبل للبحث في العلوم الإسلامية” مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية، 2019، ص219.
[19] الدين والإعلام في سوسيولوجيا التحولات الدينية، رشيد جرموني، كتاب الفيصل العدد 28، الرياض، 1440هـ، ص40.