السؤالُ الميتافيزيقي سؤالٌ فلسفي
مَنْ لا يعرفُ الإنسانَ لا يعرفُ الله. مَنْ يعرفُ شيئًا عن غرابة الإنسان وغربته الوجودية وفقره وهشاشته، ويعرفُ شيئًا من الطبيعة الإنسانية، يمكنه أن يصلَ إلى الله. معرفةُ الطبيعةِ لا تكفي لمعرفة الله.
يتنكرُ بعضُ المثقفين للميتافيزيقا وما وراء الطبيعة، على الرغم من أنه لا يعرف عنها شيئًا، وينفي وجودَ الله، لأنه لم يصل إليه بأدوات العلم التجريبي التي يثق بها فقط، ولا يثق بسواها. يجزم بالنفي من دون أن يتواضعَ ويكشفَ عن إخفاق عقله في إدراك ما لم يتمكن هو من إدراكه. لا يدري هؤلاء بأن البحثَ في الميتافيزيقا وما وراء الطبيعة خارجَ أدوات العلم، وخارجَ وسائل اكتشاف العالَم الفيزيقي وقوانينه.
يُعلِن بعضُهم بصرامة بأنه لا يؤمن بوجود الله، ويقطع بعدم وجود ما وراء الطبيعة، بلا تأمّل وتدبّر وتبصّر، وينسى بأن الميتافيزيقا وعالَم ما وراء الطبيعة هو الموضوع الأثير للفلسفة منذ بدايات التفلسف حتى اليوم، وأن سؤالَ الايمان والإلحاد ليس سؤالًا علميًا، وأن أسئلةَ الميتافيزيقا وعالَم ما وراء الطبيعة أسئلةٌ فلسفية.كلُّ سؤال وجواب خارج عالَم الطبيعة سؤالٌ وجوابٌ فلسفي. إعلانُ الإلحاد ضربٌ من الجواب الميتافيزيقي، الإلحادُ يعكسُ ضراوةَ القلق الوجودي، وأقصى مديات حيرة الجواب الميتافيزيقي. لحظةَ يعلن أحدٌ عن إلحادِه ينتقل من التفكير العلمي إلى التفكير الفلسفي، من دون أن يتنبه لذلك. نفيُ عالَم ماوراء الطبيعة كإثباته، الإثباتُ حكمٌ فلسفي، والنفيُ حكمٌ فلسفي. التفكيرُ في ماهية العلوم الطبيعية وماهية أيّ علمٍ هو تفكيرٌ فلسفي، العلمُ لا يُفكّر في ماهيته، التفكيرُ في ماهية العلوم خارجَ مجال العلوم، كلُّ تفكيرٍ من هذا النوع تفكيرٌ فلسفي.
في مقابلةٍ تلفزيونية على إحدى الفضائيات العربية مع معماري عراقي مثقف واسع الاطلاع، تحدّث فيها عن إلحاده بصراحة. يقول رفعت الجادرجي: “أنا ملحد بكل ما للكلمة من معنى”. ويضيف: “أن لديه وصية مكتوبة بأن تحرق جثته بعد موته ولا يُدفَن ولا يُصلَى عليه”[1].
ولد ونشأ المهندس المعماري رفعت الجادرجي في محيطٍ تقليدي ببغداد، أبوه كامل الجادرجي كان سياسيًا ومثقفًا غير تقليدي، وهو من أبرز رواد الديمقراطية ودعاتها في العراق. سمعتُ الحوارَ كلَّه بتأمل أكثر من مرة، رأيته يفسِّر الدينَ والمقدّسَ، وحاجةَ الإنسان للصلة بوجودٍ الله تفسيرًا سيكولوجيًا وسوسيولوجيًا وأنثربولوجيًا. لا يغور رفعت الجادرجي فلسفيًا ليرى الأبعادَ العميقةَ للحاجة الى الدين في وجود الإنسان، ولا يذهب تفكيره بعيدًا ليطلّ على الميتافيزيقا وعالَم ما وراء المادة. حاجةُ الإنسان للصلة بوجودٍ مطلق يفرضها نوعُ وجوده، ونتيجةً لها يفرض الدينُ حضورَه الأبدي، وينتقم لنفسه كلّ مرة تجري إزاحتُه فيها ليعود عاصفًا، مهما كانت محاولاتُ بعض الفلاسفة والمفكرين لرفضِه، والكشفِ عن بؤس تمثلاته وتطبيقاته العملية. الحاجةُ الوجودية لله أسعدتْ كبارَ ملهمي الروح المعلمين في إطار الأديان المعروفة وغيرَهم ممن عاشوا مُتيّمين بحب الله، وأشقت بعضَ البشر، عندما زجّتهم في صراعٍ مع أنفسهم والناس والعالَم من حولهم.
لا أريد أن أحكم على تفسيرِ رفعت الجادرجي وشعورِه وتعبيرِه الصريح عن موقفه، لأن كلَّ تفسيرٍ لا يمكن أن يتحرّر كليًا من بصمةِ الذات، وكيفيةِ نشأتها وتربيتها، وتكوينِها المعرفي، والبنى اللاشعوريّة الغاطسة فيها، واحتياجاتِها المتنوعة.
الظواهرُ الدينية الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية، وكلُّ تمثلات الدين المجتمعية، تدرسها علومُ الإنسان والمجتمع الحديثة، مثل: سوسيولوجيا الدين، انثربولوجيا الدين، سيكولوجيا الدين، وغير ذلك. التفسيرُ السيكولوجي والسوسيولوجي والأنثربولوجي والاقتصادي والسياسي والتاريخي للظواهر الدينية شديدُ الأهمية، لأننا لا يمكن أن ندرس تمثلاتِ الدين وتعبيراته في حياة الفرد والجماعة من دونه، غير أن هذا التفسيرَ لا نستطيع أن نرى بأدواته منشأَ الحاجة الوجودية لله، ولا يسعفنا في اكتشاف الجذرِ العميق لهذه الحاجة، لأنه يقف خارجَ فضاء الميتافيزيقا.
جذرُ هذه الحاجة وأصلُها لا تتمكن من الغوص في مدياته إلا الرؤيةُ الفلسفية، لأنها يمكن أن تطلّ على الميتافيزيقا. التفكيرُ في حقيقة الأشياء وماهياتِها تفكيرٌ فلسفي. ماهيةُ الدين لا يمكن التفكيرُ فيها خارجَ السؤال الفلسفي، أعمقُ سؤال فلسفي السؤالُ ميتافيزيقي، لا يستطيع العقلُ أن يفكِّر في العالَم الميتافيزيقي بلا منظارٍ فلسفي. ولا يحضر جوهرُ الدين الروحي إلا باستبصارات العرفاء وإشراقات تجاربهم المضيئة الآسرة.
اللهُ، الوحيُ، النبوةُ، الآخرةُ، وغيرُ ذلك من عوالم الغيب، تبحثها فلسفةُ الدين، لأنها تحاول أن تغوص في ما هو ميتافيزيقي.كما تبحث فلسفةُ الدين كيفيةَ تجلي الإلهي في البشري، وكيفيةَ شهود البشري للإلهي، ونمط الحالة الروحية والعاطفية لحظة شهود البشري للإلهي.
العلومُ الطبيعية والبحتة والتطبيقية وعلومُ الإنسان والمجتمع لها مدياتٌ قصوى تقف عند تخومها ولا تتخطاها، إنها تظلّ مقيمةً في آفاق الزمان والمكان والحركة والمادة وأبعادها وخصائصها وشؤونها. يقول علي عزت بيغوفيتش: “إن علمَ الحفريات، وعلمَ هيئة الإنسان، وعلمَ النفس، كلَّها علومٌ تصفُ من الإنسان فقط الجانبَ الخارجي الآلي الذي لا معنى لهُ… إننا لا نستطيعُ تفسيرَ الحياةِ بالوسائل العلمية فقط، لأن الحياةَ معجزةٌ وظاهرة معًا. الإعحابُ والدهشةُ هما أعظمُ شكلٍ من أشكال فهمنا للحياة”.
مادامت مناهجُ وأدواتُ ووسائل العلم تجريبيةً فهناك قصورٌ ذاتي في هذه المناهج والأدوات والوسائل عن أن تطلّ على عوالم الميتافيزيقا، لذلك يعجز العلمُ عن عبور فضاء المادة وأحوالها وما يتصل بها، ولا يمكنه الكشفُ عن ماهية الأشياء وجوهرها، كما لا يمكنه الجواب عن السؤال الميتافيزيقي. ما يتناوله العلمُ يلبث في حدود المادة، بخلاف الفلسفة واللاهوت التي بوسعها إدراكُ شيء من أبعاد الميتافيزيقا وعوالمها وشؤونها. وفي العرفان تنكشف مواطنُ أشواق الروح البشرية وأحوالها واحتياجاتها العميقة، لحظة يعلن جوهرُ الدين عن حضوره المُضِيء باستبصارات العرفاء وإشراقات تجاربهم المبهجة.
علّق هايدغر على عبارته المشهورة: “العلم لا يفكّر”، (بقوله: “إن هذه العبارة التي خلّفت كثيرًا من الضجيج إثر نطقي بها، تعني أن العلم لا يشتغل في إطار الفلسفة، إلا أنه، ومن غير أن يعلم، ينْشدّ إلى ذلك الإطار. فعلى سبيل المثال: إن الفيزياء تشتغل على المكان والزمان والحركة. إلا أن العلم، بما هو كذلك، لا يمكنه أن يحدّد ما الحركة، وما المكان، وما الزمان”. العلمُ إذًا لا يفكّر، بل إنه لا يمكن أن يفكّر في هذا الاتجاه باستخدام وسائله. لا يمكنني على سبيل المثال أن أقول ما الفيزياء باتّباع مناهج الفيزياء. ماهية الفيزياء لا يمكنني أن أفكّر فيها إلا عن طريق سؤال فلسفي)[2]. وكما يقول فتحي المسكيني: “الفلسفةُ شيء لا علاقةَ له بالعلم. وبعبارة واحدة لهيدغر: العلم لا يفكّر. والقصد هو لا يفكّر بشكل كوني في الكينونة، رغم أنّه ينتج معرفةً كلية بالكائن”.
تتوقف التفسيراتُ العلميةُ للدينِ عند معاينةِ حضورهِ الفردي والمجتمعي، ودراسةِ وتحليل آثاره المتنوعة في حياة الإنسان ومختلف تعبيراته، لكنها تخفقُ في البحث عن المديات الأعمق لأصل الحاجةِ للصلة بالله في الكينونة الوجودية العميقة للكائن البشري. تقودُ هذه التفسيراتُ بعضَ الناس أحيانًا إلى نفي الحاجةِ للدين، ويتمادى بعضُ مَنْ يتبناها ليقولَ بنفي وجود الله، من دونِ أن يسوقَ أيَّ برهانٍ على هذا النفي. ويزعمُ أناسٌ آخرون إن الإيمانَ مجردُ شعورٍ نفساني، تفرضُه على الإنسان سيكولوجيتُه وبيئتُه وتربيتُه وثقافتُه، وهي محاولةٌ أخرى لنفي وجودِ الله بلا دليلٍ.
الإنسانُ ليس عقلًا محضًا، الإنسانُ كائنٌ تتحكم فيه المشاعرُ والإنفعالاتُ والمصالحُ أكثرَ من العقل، الإنسانُ كائنٌ عاطفي قبل أن يكون كائنًا عقلانيًا. أسرف التنويرُ الغربي في الاعلاء من مكانة العقل والعلم، وتجاهلِ العواطف والمشاعر والأحاسيس والانفعالات، والمتخيل والأسطورة والذاكرة، بنحو تسيّد العقلُ والعلمُ واستبدّا، فصادرا كلَّ شيء خارج حدودهما، وصار كلُّ شيء لا يصدق عليه عقل وعلم منسيًا. قراراتُ ووقائعُ حياة الإنسان تكذِّب ذلك، لأن الشعرَ والفنَ، والمتخيل والأسطورة والذاكرة، ومكاشفاتِ الروح وإشراقاتها، لا يصدر كثيرٌ منها عن العقل. القرارات المصيرية في حياة الإنسان تصدر أحيانًا لحظةَ انفعال عاطفي، وطالما اتخذ الإنسانُ فردًا وجماعةً مواقفَ تغيب فيها حساباتُ العقل والعلم تمامًا.
ـــــــــــــــــــــــــ
[1] في مقابلة أجراها معه الإعلامي: ريكاردو كرم، متاحة على اليوتيوب.
[2] عبدالسلام بنعبدالعالي، “العلم هل يفكّر؟ كل ما يمكن أن يصبح ممكنًا تقنيًا لا يمكن السماح به”، مجلة الفيصل، 1 يناير 2021.