المقالات

الإسلام الحنبلي في مرآة الاستشراق : قراءة في كتاب الإسلام الحنبلي لجورج مقدسي

تمهيد

        ” ما موقع المذهب الحنبلي في الفكر الاستشراقي؟”

قادني هذا السؤال إلى العثور على كتاب عنوانه: “الإسلام الحنبلي” لمؤلفه جورج مقدسي[1]، واسم الكاتب مألوف لدي، لكن طول الزمان الذي حال بيني وبين متابعة الفكر الاستشراقي جعل ذاكرتي تنسى الكثير من المؤلفين وعناوين الكتب التي راجت وكثر سماعها عندما كنت أتلقى العلوم بدار الحديث الحسنية، أو أثناء حضوري للندوات والمحاضرات والمناقشات الجامعية بالرباط (ما بين 2005 و 2013)[2]

     أتذكر أنني قرأت عن أحمد بن حنبل من خلال مسألة “خلق القرءان” التي فرضتها السلطة العباسية في زمانه على العامة والخاصة، وما لاقاه ابن حنبل جراء امتناعه عن مسايرة الحاكم وحاشيته من الوزراء والعلماء في تلك “الإيديولوجية”، نعم أتذكر أنني قرأت كتاب “المحنة”[3] لفهمي جدعان، والذي قام فيه بتفكيك حيثيات بروز تلك “”الأدلوجة” سياسيا واجتماعيا وثقافيا وعقديا، مفترضا ومناقشا، وفاتحا البحث على مقولة “جدلية الديني والسياسي في الإسلام“، وكدت أسلم لكل ما أورد من افتراضات، لكن لما قرأت المسألة في فكر أهل الحديث الذين يدققون في مسألة الثبوت والورود، ويمحصون الأثر سندا ومتنا، وجدت عرضا دقيقا ومنصفا، وأشير هنا إلى ما سطره عبد الفتاح أبو غذة في مسألة “خلق القرءن”[4]

      التعريف بالكاتب: صاحب الكتاب: جورج مقدسي، هو مستشرق أمريكي من أصل لبناني، عاش ما بين (1920 -2002)، تقلى دراسته الجامعية بالسوربون بفرنسا حيث نال درجة الدكتوراه، وتخصص في الدراسات الإسلامية، ولا سيما المذهب الحنبلي القديم؛ حيث قام بتحقيق أعمال ابن عقيل الحنبلي التي منها “الواضح في أصول الفقه”، وألف دراسات منها: “نشأة الكليات: معاهد العلم عند المسلمين وفي الغرب”؛ “الأشعري والأشعرية في التاريخ الديني الإسلامي”؛ “الإسلام الحنبلي” وهو المؤلف الذي نخصه اليوم بهذه القراءة.

      التعريف بالكتاب: يقع الكتاب في 130 صفحة، وهو في الأصل عبارة عن أربع محاضرات ألقاها الكاتب سنة 1969 بالكوليج دي فرانس بفرنسا بدعوة من شيخه في الحنبلية هنري لاووست، وقد نشرت هذه المحاضرات بمجلة Etudes Islamiques عامي 1974 و1975. قام بترجمة الكتاب سعود المولى، وتولى رضوان السيد مراجعته وتقديمه للقارئ العربي، وقد صدر الكتاب عن “الشبكة العربية للأبحاث والنشر” سنة 2017.

     أطروحة الكتاب: انبنت أطروحة الكتاب على ما توصل إليه شيخ الكاتب هنري لاووست بخصوص الحنبلية التي وصفها بأنها نسق منهجي عقدي وفقهي يمثل الثقافة الإسلامية الصحيحة مخالفا بذلك منهج المدارس الاستشراقية في رؤيتها للمذهب الحنبلي، ولهذا تقفى جورج مقدسي دراسات المستشرقين ناقدا ومبطلا أفكارها إزاء الحنبلية ومنتصرا لرأي شيخه السالف الذكر بإعلانه في مقدمة الكتاب: “فإننا نعتقد بأن الوقت قد حان للتدليل على المكانة التي احتلها الإسلام الحنبلي في تاريخ الفكر الديني الإسلامي”[5].

     ملخص فصول الكتاب:

    في الفصل الأول المعنون ب “الاستشراق الغربي والتاريخ الديني الإسلامي” يتوقف الكاتب مع أفكار المستشرقين إزاء الحنبلية، وبخاصة النتائج المبثوثة في أعظم كتاب غولدزيهر “العقيدة والشريعة في الإسلام”، وذلك من أجل تقييمها ونقدها، فيدلي في مسألة التراث الإسلامي المنشور والمخطوط، وكيف تعاملت معه المدرسة الاستشراقية، ولا سيما مع المذهب الحنبلي في اتجاهه الفقهي أو العقدي.  يقول: “لقد كان لدراستهم، وبالأخص دراسة غولدزيهر، الأثر الأكبر في المساهمة في تجاهل أي دراسة جدية حول المذهب. وسادت العادة في مجال الفقه السني على أن يتم الاهتمام بدراسة المذاهب الثلاثة الأخرى وعلى تحقيق ونشر وترجمة أعمالها”[6]؛ إذن مقدسي يرجع الخطأ المنهجي في الدراسة الاستشراقية إلى غولدزيهر بتسويقه لعدم أهمية المذهب الحنبلي وجدارته بالدراسة، وهو الحكم الذي سيتبناه مؤلف تاريخ الأدب العربي بروكلمان جاعلا المذهب الحنبلي مذهبا “لا يستحق الذكر”، ثم يشير الكاتب إلى أن المذهب الحنبلي كان سيموت جراء أحكام المدرسة الاستشراقية لولا دراسة شيخه هنري لاووست وقيام السلفية بمصر والوهابية بالسعودية. ويعيب مقدسي على غولدزيهر ظلمه ليس فقط للمذهب الحنبلي، وإنما للمذهب الظاهري الذي ظل منسيا وهامشيا في المدرسة الاستشراقية إلى أن جاء المستشرق روجيه أرنالديز بدراسته عن ابن حزم الظاهري.

      في الفصل الثاني المعنون ب “مؤسسات التعليم والحركات الدينية” يسعى الكاتب إلى الدعوة إلى ضرورة الوقوف مع المصطلحات التقنية في التعامل مع أي مدرسة أو مذهب وذلك من أجل تجاوز الهفوات التي وقعت فيها المدرسة الاستشراقية في القرن التاسع عشر. ولهذا تتبع مقدسي حيثيات نشوء مؤسسات التعليم في الإسلام، وبخاصة المدرسة النظامية؛ حيث بدأ بدراسة تحليلية للفظ “درس” ليؤكد للمستشرقين على أن لفظ التدريس إذا أطلق في علاقته بالمدرسة النظامية لا يعني إلا تدريس الفقه[7]. وهو هنا يناقش غولدزيهر في اعتباره الأشعرية النظامية تمثل العقيدة الرسمية للإسلام السني، ويرد عليه بكون الغزالي لم يتول في النظامية إلا دراسة الفقه وأصوله، يقول مقدسي: “كان أبو إسحاق الشيرازي (ت476 ه) أول مدرس عينه نظام الملك في النظامية، وهو فقيه مشهور، كان فقيها شافعيا وكانت مشاعره المعادية للأشعرية معروفة عند أهل زمانه”[8] (ص.56). وبشأن ازدهار علوم أخرى فيرى مقدسي أن هناك مؤسسات أخرى كالمسجد والمجالس والمكتبات ودار العلم وبيت الحكمة، هذه المؤسسات تعمل من خارج رقابة السلطة، لذلك ازدهرت تلك العلوم العقلية في مقابل العلوم النقلية وحافظ عليها الإسلام حتى انتقلت إلى أوروبا؛ “والحال أن انتعاش مؤلفات الكلام المعتزلي والأشعري حصل في فترة سابقة على نشوء المدرسة واستمر يزدهر بعدها من دون أن يكون للمدرسة أي دخل في الأمر”[9]، ويختم مقدسي هذا الفصل بالتأكيد على أن القرن الخامس الهجري يمثل سيطرة الإسلام السني الأثري، “ففي ذلك القرن تغلبت السلفية الأثرية على خصومها في الحقول المؤسساتية خصوصا حقل التعليم”[10]؛ حيث تم تشييد مؤسستين أثريتين بامتياز هما دار الحديث ودار القرءان، و”قد رمزت هاتان المؤسستان الجديدتان إلى انتصار أهل الحديث على علم الكلام، وحلتا محل دار الحكمة ودار العلم. ومنذ ذلك أصبحت الحنبلية هي المسيطرة عقديا في نظر مقدسي.

    في الفصل الثالث الذي يحمل عنوان الحنبلية والصوفية، يؤكد الكاتب صعوبة دراسة الفرق الكلامية الإسلامية في حياد تام ودون تأثير وتأثر، والسبب في نظره يكمن في غياب دراسة “مونوغرافية” لمؤسسي هذه الفرق الكلامية حسب تطورها الزمني. وينقل عن غولدزيهر ما وقع لفخر الدين الرازي الذي تصدى للفكر الاعتزالي بالرد والاعتراض، لكنه لم ينج من تأثيراتها على عقيدته وفكره، ونفس الأمر وقع للفقيه الحنبلي ابن عقيل حسب نتائج جورج مقدسي.

     هذه الحقيقة دفعت بالكاتب إلى أن يعلن إلى أن الخلاف الكلامي لا يحصل فقط داخل الفرق الكلامية المتباعدة والمتنافرة، وإنما يحصل لعلماء من داخل نفس الفرقة، وبناء عليه، يجب الحذر في التعاطي مع أي عالم عند الدراسة؛ يقول: “هذا يتطلب منا أن ندرس فكره وفق التسلسل الزمني لمؤلفاته، وهذا أمر ليس ممكنا دائما، ويؤدي إذن إلى أن ننسب إليه بطريقة غير زمنية أفكارا كان يقول بها في مطلع حياته العلمية ولكنه ربما يكون تخلى عنها فيما بعد”[11].

    ملاحظة: هذه الجملة من الكاتب ليست بريئة، فهو يريد أن يبني عليها نتائج منها، أن الأشعري كما تخلى عن الاعتزال في أول حياته، واعتنق الأشعرية في وسط حياته، فإنه ترك هذه الأخيرة في آخر حياته والتجأ إلى عقيدة السلف، أي عقيدة أهل الحديث التي ينتصر إليها الكاتب في الكتاب.

     هذا الخلاف المذهبي والعقدي بين العلماء لم يسلم منه المذهب الحنبلي كذلك؛ “فالمذهب الحنبلي الذي كان يعتبر لفترة طويلة على أنه حركة متكتلة ومتجانسة، كان له أيضا نصيبه في هذا المجال”[12]، ويسرد الكاتب بعض الأسماء التي تخرق هذا الانسجام، فهذا ابن قدامة يهاجم ابن عقيل بسبب اتجاهاته الكلامية في مؤلف بعنوان “تحريم النظر في كتب أهل الكلام”، كما تصدى ابن الجوزي للصوفي الكبير عبد القادر الجيلاني.

     انطلاقا من هذا التمهيد يصل الكاتب إلى بيت القصيد في الفصل، ألا وهو دراسة العلاقة بين الحنبلية والصوفية، فيشير أولا إلى ضرورة التخلص من الأفكار المسبقة إزاء “الحنبلية” حيث يقول: “أما بخصوص الحركة الحنبلية فإن الحاجة الماسة حاليا تكمن في التخلص من الأفكار المسبقة التي ورثناها منذ أكثر من نصف قرن والتي لا تزال تزدحم بها كتبنا عن الإسلام”[13].

     ملاحظة: يقصد الكاتب في هذه الإشارة أبحاث غولدزيهر، فهو الذي كال للحنبلية الذم الفكري، وأصدر عليها أحكاما قاسية منها أنها متشددة وحرفية ولا مكانة لها مقارنة مع المذاهب الفقهية الثلاثة، وبخصوص عدم أهمية المذهب الفقهي الحنبلي يلمس هذا التأثير عند طلاب الفقه، فهم لا يدرسونه كباقي المذاهب، وحكمهم عليه آت من تلك الأحكام المسبقة المتوارثة عن الخصوم، ونفس الشيء يقال عن المذهب الظاهري في اعتقادنا.

     ومن بين تلك الأفكار المسبقة إزاء الحنبلية يذكر الكاتب – وهو دائما في سياق الرد على غولدزيهر-:

         – فكرة أن الغزالي هو الذي قام بالتوفيق والمصالحة بين أهل السنة وأهل التصوف؛

         – فكرة أنه يوجد بين الفقه والتصوف عداء مستحكم بحيث إن فقيها لا يمكنه أن يكون صوفيا؛

         – فكرة أن الحنبلية هي ألد أعداء الصوفية[14].

      والفكرة الأخيرة هي التي جعلها الكاتب محور نقاشه هنا.

     كيف يناقش الكاتب هذه التعميمات أو الأفكار المسبقة عن علاقة الحنبلية بالتصوف؟

     لا يتفق الكاتب مع الفكرة القائلة إن الغزالي هو الذي وافق بين أهل السنة وأهل التصوف، فيتساءل: “كيف جرى التوصل إلى الفكرة القائلة إن الغزالي هو الذي حقق المصالحة المزعومة بين الصوفية والتقليدية السنية؟”[15].

     يرى الكاتب أن الأمر تم عن طريق الإسقاط لا غير، أي بما أن الغزالي في زعمهم تولى كرسي الدراسة بالنظامية، وقام بتدريس الكلام الأشعري فيها، فهذا يعني أنه قام بمصالحة في هذا الاتجاه، ولكن مقدسي يرد هذا الافتراض بالتأكيد على أنه “لم يكن هناك كرسي لعلم الكلام في النظامية وأن الغزالي لم يكن سوى مدرس للفقه الشافعي”[16]، ويذهب الكاتب إلى أنه لا يمكن الانتظار خسمة قرون من عمر الإسلام لكي تتحقق “سلفنة الصوفية أي جعلها مطابقة لسلفية أهل الحديث”[17]، وإذا كان الأمر كذلك كما يزعمون، “فبماذا يمكن وصف الصوفيين الذين سبقوه” يتساءل الكاتب. وتفنيدا لذلك الزعم، يشير الكاتب إلى أن كتاب “قوت القلوب” لمكي أبي طالب يوجد ضمن مدونة الإحياء للغزالي.

      يأبى غولدزيهر إلا أن يجعل من الغزالي صاحب فكر توفيقي بين العلوم الإسلامية السنية، والنتيجة التي ينتهي إليها هي أن هناك “تعارضا بين الفقه والتصوف، وبين التصوف والكلام”، والذي رفع هذا التعارض هو حجة الإسلام انطلاقا من توليه التدريس بالنظامية. ويرد مقدسي هذا الادعاء بسرده لشخصيات من دائرة الإسلام السني زاوجت في تكوينها بين الفقه والتصوف، وبين الفقه والكلام، وذلك من خلال البحث في طبقات ابن السبكي، منهم أبو نعيم الأصبهاني صاحب حلية الأولياء وأبو خلف الطبري؛ “فهذان الفقيهان الأشعريان عاشا وماتا قبل قيام الغزالي بالمصالحة المزعومة بين التصوف والإسلام السني التقليدي”[18]، أي أهل الحديث أو الأثر. والاستنتاج الذي يرفضه مقدسي من طرف غولدزيهر هو اعتبار “الحنبلية؛ وهو المذهب الأكثر محافظة بين المذاهب السنية، على أنه عدو التصوف الأكبر”[19].

       وإذا كان غولدزيهر قد أصدر هذه الأحكام منذ عقود في حق الحنبلية، فمقدسي يؤكد على أن “الوثائق والمخطوطات التي بين أيدينا منذ زمن طويل تكشف عن علاقة وثيقة بين الحنبلية والتصوف”[20]، ويورد في هذا الصدد اسمي كل من عبد القادر الجيلاني والإمام الهروي، فهذا الأخير كان يوصي أصحابه المتصوفة باتباع المذهب الحنبلي؛ “ووصيتي للناس أن يتحنبلوا”[21]. ثم يتساءل الكاتب في ظل هذه المعطيات المفندة لدعاوى غولدزيهر: “كيف أمكن لهؤلاء الصوفية أن يجدوا ملجأ لهم داخل المذهب الحنبلي لو أن هذا المذهب كان فعلا معاديا للتصوف؟”[22].

     ويضيف الكاتب تدعيما لاتجاهه في نقض أطروحات غولدزيهر بخصوص عداوة الحنبيلية للتصوف، وتأثير الغزالي فيمن جاء بعده من صوفية المذهب الحنبلي، بأن ابن قيم الجوزية تأثر بفقيه حنبلي هو الأنصاري الهروي، بحيث قام بشرح كتاب هذا الأخير الموسوم ب”منازل السائرين”، ولا يلتقي المتصوفة الحنابلة مع الغزالي إلا في التسنن بالأثر النبوي في باب تزكية النفوس.

      يمر الكاتب مرور الكرام على النظريات التي تتحدث عن نشأة التصوف في الإسلام، وهل هو ذو منشأ إسلامي خالص، أم أسهمت في نشأته ثقافات دخيلة على الفكر الإسلامي؟

      لما أن بسط الكاتب أقوال غولدزيهر في المسألة المثارة، شرع يحسم في المسألة برؤيته للحنبلية التي كرس جل أبحاثه لدراستها والدفاع عنها كمذهب جدير بحمل لقب “أهل السنة”. والبداية مع كتاب طالما اعتبره خصوم الحنابلة من المستشرقين يعكس بعمق عداوة المذهب الحنبلي للتصوف، والكتاب هو “تلبيس إبليس” لابن الجوزي، فيقول بشأنه: “ولكن تلبيس إبليس لا يتكلم في الحقيقة عن التصوف بصفته تلك، ولا عن المتصوفة لوحدهم، إنه يتوجه بالأخص نحو شطحات مجموعات عدة مثل الفلاسفة والكفار والمتكلمين والأثريين النقليين والوعاظ وفقهاء اللغة والشعراء والصوفية والعامة والأثرياء، وهو يهاجم الاعتقادات والممارسات المبتدعة التي لا تستند إلى نص الوحي المنزل”[23]. إذن ابن الجوزي يدين المتصوفة كجزء ضمن الكل وقع في آفة الابتداع في الدين، والمفارقة هي أن توجه ابن الجوزي في “تلبيس إبليس” لا يعكس حقيقة عداوة الحنبلية للتصوف التي بنيت عليه؛ لأنه قام بتلخيص كتابين مهمين في التصوف هما: “حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني، وإحياء علوم الدين للغزالي. وكتب عن مناقب الصوفية الشهيرة رابعة العدوية. وهذا كله حسب مقدسي ينتصر لتسامح الحنبلية تجاه المتصوفة حنابلة كانوا أو شافعية.

       وهناك شخصية يراها البعض متشددة، وذات نزعة حرفية في قراءة النصوص، أعني بذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، إنه شخصية فذة وذات وقع مفصلي في تاريخ الفكر الإسلامي، ينظر إليها بعض الدارسين على أنها تعادي كل المذاهب التي لا توافق معتقدها، ومنها بطبيعة الحال التصوف. ولكن مقدسي يسعى رفقة شيخه في الحنبلية هنري لاووست إلى تبديد هذه التهم غير العلمية، يقول في هذا الصدد: “ابن تيمية عارض التصوف الراديكالي لجماعة الاتحاد والحلول، إلا أنه لم يخف إعجابه بمؤلفات متصوفة مثل الجنيد وأبي طالب المكي وعبد القادر الجيلاني”[24]، ومما يؤكد ميول ابن تيمية إلى التصوف، ما نقله مقدسي عن شيخه هنري لاووست على لسان ابن تيمية: “لبست الخرقة المباركة للشيخ عبد القادر وبيني وبينه اثنان”[25]. ويذهب مقدسي إلى أن ابن تيمية يقبل الطرق الصوفية المعتدلة، وبالخصوص التي “ترجع إلى مؤسسي المذاهب االفقهية الأربعة لأهل السنة والجماعة. وهذه الأمثلة التي يذكرها يجعلنا نعتبر أن الفقهاء والمتصوفة يحتلون المحل الأول في أفكاره، فهو نفسه فقيه ومتصوف”[26].

      ويرجع مقدسي المنزع الصوفي لابن قيم الجوزية إلى المذهب الحنبلي، وبخاصة في “أفكاره حول حب الله التي ربما يكون تعلمها أصلا من شيخه ابن تيمية”[27]، ومما يعضد ذلك في نظر مقدسي هو نص لشيخ الإسلام؛ مستل من تعليقه على كتاب “فتوح الغيب” لعبد القادر الجيلاني؛ جاء فيه: “والعبادة تتضمن كمال الحب وكمال التعظيم وكمال الرجاء والخشية والإجلال والإكرام”[28].

      ويختم مقدسي هذا الفصل بالـتأكيد على الظلم الذي لحق الفكر التيمي مقارنة مع الغزالية من قبل الدارسين، وعبارته هي: “انتقد الغزالي مثل ابن تيمية التصوف في شكله الحلولي وفي إساءته لمنزلة الشريعة، وهو بذلك كان يلتقي فكريا مع الحنابلة. ولكن في حين أن الغزالي استحق مديح المتخصصين بالدراسات الإسلامية، تعرض ابن تيمية على العكس منه إلى إدانتهم”[29]، وكأنه يعلن بأنه حان الوقت لرفع هذا الظلم عن الحنبلية فقها ومعتقدا وتصوفا.

      في الفصل الرابع الموسوم ب الأورثوذكسية الإسلامية (أهل السنة والجماعة) يناقش الكاتب في هذا الفصل ما أثاره غولدزيهر بخصوص هل توجد الأورثوذكسية في الإسلام؟ ويرد مقدسي هذا الادعاء بالقول:”هذه السلطة المرجعية موجودة في المسيحية من خلال المجالس والمجامع الكنسية ولكنها غير موجودة في الإسلام”[30]؛ لأنه -في نظره-الإسلام عرف سلطة الإجماع فقط، وهي نفسها غير مجمع عليها. والسبب الذي جعل غولدزيهر يثير هذا التساؤل هو نظرته إلى اللاتسامح الذي تبديه الحنبلية تجاه الخصوم واصفا إياها بالتشدد والتعصب، ومما ينقله عنه مقدسي قوله: “من السمات المميزة للاتجاه العام في أهل السنة والجماعة اللاحق على زمن الغزالي أن أصوليا يميل بشدة إلى التعصب والإقصاء مثل المتشدد الحنبلي تقي الدين ابن تيمية”[31]، ولا يقبل مقدسي هذا الحكم في حق ابن تيمية لأن شيخه هنري لاووست كان أظهر في دراساته الجانبَ المتسامح في حياة ابن تيمية وفكره. وما أثاره غولدزيهر من مسألة الأورثوذكسية في الإسلام كان بهدف البحث عن حزب داخل الفرق الإسلامية تكون له الكلمة الفصل في القضاء والفتيا، وهو ما وجده في الأشعرية برئاسة الغزالي، ولكن مقدسي وشيخه لا يسلمان له بهذا الأمر، لأنهما يريان أن أهل الحديث أتباع المذهب الحنبلي في العقيدة هم الأحق بحمل لواء أهل السنة والجماعة.

   خواتم :

           – لماذا قراءة أعمال المستشرقين؟

     فهي كتب تعلمنا أماكن المخطوطات وأسماء الكتب؛ لأن المستشرقين أعرف بالتراث الإسلامي ليس من حيث القراءة، وإنما من حيث تواجدها، فأغلب التراث الإسلامي مفقود ومسروق ومقبور في مكتبات لا يستطيع الدارس المسلم الوصول إليها لأسباب مادية أولا، وسياسية ثانيا.

    – المدرسة الاستشراقية بالرغم من نزعتها الأيديولوجية المتحاملة على التراث الإسلامي، لكنها تتوسل بمناهج علمية محكمة، لا زلنا نحن لم نتشرب فقهها، ولا زال يمنعنا عن ذلك تلك القدسية المفرطة التي نتعاطى بها مع تراثنا الفكري.

     – هذه القراءة لا تغني عن قراءة الكتاب، لأنها وإن حافظت على الفكرة المحورية للكتاب، إلا أنها انتخبت نصوصا دون أخرى قد تكون أقوى من غيرها في الدلالة والحجة.

      – الكتاب جاء بأفكار تدعو إلى إعادة البحث بشأنها، خصوصا وأن نصوصا جديدة قد ظهرت، وأحوال تغيرت.

     – المدرسة الاستشراقية في شكلها التقليدي لم تعد تخيف ولا تخفى أهدافها منذ أن قام ادوراد سعيد بتفكيك مقولاتها ومناهجها، ولكن هناك اليوم استشراق جديد، له أدوات ومناهج ومؤسسات أقوى وراءه.

    – الاستغراب في مواجهة الاستشراق؛ هذه دعوة بعض المثقفين العرب والمسلمين، ولكنه مصطلح بدأ قويا من حيث التسويق، لكن دعاته أخفقوا من حيث التأثير.


[1] – جورج مقدسي، الإسلام الحنبلي، ترجمة سعود المولى، مراجعة وتقديم رضوان السيد، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، الطبعة الأولى، بيروت ، 2017.

[2] – ويعود الفضل في توثيق صلتي من جديد بالبحث في نشأة المذاهب الفقهية في الإسلام بطريقة تخالف المعهود في التقليد المدرسي الموسوم بتاريخ التشريع الإسلامي، إلى التحاقي بمركز تكوبن مفتشي التعليم بالرباط خلال سنتي 20020 و2022، وهو الزمان الذي أنجزت فيه هذه القراءة.

[3] – فهمي جدعان، المحنة: بحث في جدلية الديني والسياسي في الإسلام، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، الطبعة الثالثة، 2014.

[4] –  عبد الفتاح أبو غدة، مسألة خلق القرءان وأثرها في صفوف الرواة والمحدثين وكتب الجرح والتعديل،  الناشر مكتب المطبوعات الإسلامية، مكتبة النهضة، بيروت، دون تاريخ.

[5] – الإسلام الحنبلي، ص.16

[6] – المرجع نفسه، ص.33

[7] – الإسلام الحنبلي، ص.53.

[8] – المرجع نفسه، ص.56

[9] – المرجع نفسه، ص.64

[10] – المرجع نفسه، ص.67

[11] – الإسلام الحنبلي، ص. 74-75

[12] – المرجع نفسه، ص.76

[13] – المرجع نفسه، ص. 77

[14] – الإسلام الحنبلي، ص.77

[15] – المرجع نفسه، ص.78

[16] – المرجع نفسه، ص.78

[17] – المرجع نفسه، ص.79

[18] – المرجع نفسه، ص.85

[19] – المرجع نفسه، ص.85

[20] – الإسلام الحنبلي، ص.88

[21] – المرجع نفسه، ص.89

[22] – المرجع نفسه، ص.89

[23] – المرجع نفسه، ص.93

[24]– الإسلام الحنبلي، ص.94

[25] – المرجع نفسه، ص. 95

[26] – المرجع نفسه، ص. 96

[27] – المرجع نفسه، ص. 97

[28] – المرجع نفسه، ص. 98

[29] – المرجع نفسه، ص. 99

[30] – الإسلام الحنبلي، ص. 101

[31] – المرجع نفسه، ص. 104

الحسين حران

الحسين حران مفتش تربوي بالتعليم الثانوي التأهيلي؛ دكتوراه في مقارنة الأديان، وحدة التكوين: العقيدة والأديان بمؤسسة دار الحديث الحسنية للدرسات الإسلامية العليا (2018) ؛ جامعة القرويين. مؤسس ومدير مجلة الدهاق الفكرية المحكمة؛ شارك بدراسات في مجموعة من الندوات الدولية والوطنية؛ من منشوراته: - المناظرة والحوار في الفكر الديني المعاصر (2019)؛ - التكامل المعرفي في الدرس العقدي: مقاربة تربوية ديداكتيكية (2025)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى