سعيد شبار: لا ترشيد بدون تجديد الفهم الديني
ما هي روابط الوحي بالعالم، وكيف للقيم والمعارف القرآنية أن تنقذنا من الأزمة التي تحف واقعنا على جميع الأصعدة؛ بيئية وأخلاقية وعلمية وحضارية، وماذا يمكن أن يقدم المسلمون للعالم في ظل هذه الظروف كلها، وكيف لهم أن يشاركوا في عملية التقويم والتصحيح للوجهة العالمية؟. هذه الأسئلة وغيرها، قدم بها الدكتور سعيد شبار الكاتب العام للمجلس العلمي الأعلى بالمغرب، محاضرته الأخيرة (9 يناير 2023 بمعهد محمد السادس للقراءات والدراسات القرآنية-الرباط)، في موضوع “الترشيد القرآني للوجود الإنساني”، في محاولة منه دمج هذه الأسئلة القيمية العالمية ضمن مجال الاجتهاد في الفكر الإسلامي المعاصر.
واقتفاء بتقليد دأب عليه علماء المغرب، في الانفتاح على العلوم والمعارف، وتعدد التخصصات، حال المختار السوسي أو علال الفاسي أو عبد الكبير العلوي المدغري أو أحمد التوفيق وزير الأوقاف الحالي، لم يُغِفل بدوره صاحب كتاب “التجديد والاجتهاد”، وهو يجيب عن أسئلته تلك، الدعوة بإلحاح إلى ضرورة التقريب المنهجي بين الحقول العلمية من الأديان والفلسفة والتاريخ والسوسيولوجيا والأنثروبولوجيا، تقريب يريد له أن يكون مدخلا تركيبيا للمعارف الإنسانية يسترشد به الباحثون في العلوم الدينية، إذا ما أرادوا بالفعل تقديم أجوبة قيمية إسلامية مجدية وذات مصداقية لأزمات العالم اليوم.
وتتجلى أهمية هذا النوع من الفهم في نظرنا، أنه قيل أولا من لدن واحد من أهم رموز الفكر الإسلامي والمؤسسة الدينية الرسمية في المغرب (المجلس العلمي الأعلى)، وتتجلى كذلك في دفعه إلى مزيد من انفتاح هذه المؤسسة على تجديد الفهم الديني، وربطها بجوانب تنموية جديدة في مجالات المعرفة، وتدبير المجال العام، والانخراط في الدفاع عن منظومة القيم الكونية، والانخراط كذلك في مجموع المدافعين عن البيئة والكوكب، بمداخل فلسفية إسلامية، لا تقل أهمية عن غيرها في الحرص على كرامة الإنسان وصلاح العالم.
وقبل أن يبدأ شبار عرض مداخل ما اصطلح عليه بـ”الترشيد القرآني”، اختار أن يقدم بملاحظة نقدية، تخص نوعية النظرة التي ما تزال ملتصقة بالنص القرآني، ويقصد تلك التي لا ترى فيه غير جانب الأحكام، أو ما أسماه “القراءة الفقهية”، رغم أنها لا تشغل سوى نسبة جد ضئيلة، بينما النسبة الكبرى ترتبط بمسميات عدة، تعبر كلها عن الترشيد القرآني: البيان، الرشد، الهداية، التسديد، الصواب، الصلاح..الخ، مؤكدا بأننا إن لم نسلط الضوء على هذا الجانب الهام من القرآن، ونستخرج منه معارفه وقيمه الحضارية الكبرى، فلن نستطيع يوما المشاركة في حل ما يعيشه العالم، وعرض النموذج الإسلامي للتنافس، أو تبليغ الترشيد القرآني للعالم وهو يواجه مشاكله وأزماته.
من النقاط المنهجية الأخرى التي أكد على ضرورة مراعاتها، ما أسماه الفارق الاصطفائي بين الديانات، حيث إن الإسلام امتاز بالاصطفاء الكوني الشامل، غير المحصور في الزمان والمكان والإنسان، بل في المكان كله والزمان كله والإنسان كله. ولهذا، فإن هذه المنهجية في الاصطفاء تعني تطورا للأديان نفسها، من الخصوصية التي كانت منحصرة في قوم معينين نحو الكونية، مصداقا للمعنى القرآني “تمام النعمة وكمال الدين”. وهذا حسب شبار، مما اختصت به الديانة الإسلامية عن غيرها من الديانات. ومن هذه الخاصية المنهجية يؤسس الباحث لما أسماه فسفة القرآن حول الوجود، المختلفة عن الفلسفات الطبيعية التي تقوم على الصراع والصدام والسيطرة والتحكم..الخ، وإذا امتلك المسلمون منهجا كهذا فلماذا لا نبشر بهذا النموذج؟ يتساءل شبار.
وحسب هذه الفلسفة للوجود، فكل ما يقدمه القرآن من قصص وأحداث تحمل من العبر والدلالات ما يهدي للتي هي أقوم. ومنه يقرر شبار قاعدة منهجية مغيبة في التعامل مع القيم القرآنية، تكمن في أخذها على وجه التكليف الذي ينبغي أن نحرص على تمثله والأخذ به كسنن للحياة، حيث مخالفتها تؤدي لعكس مسار الهداية والصلاح، ولذا، فعندما يأمر الله العباد بالنظر والاعتبار واستخدام البصر والفؤاد والسمع، فهي بمثابة الأوامر التكليفية، بالإضافة إلى أنه ينبغي أن يكون مجتهدا في تمثلها، لأنها تعني أن يكون إنسانا متبصرا ومتدبرا ومتعقلا ومتفكرا..الخ.
وينبني على عدم العمل بهذا التكليف أثر كسائر التكاليف الأخرى، فإذا لم تتعلم كنت جاهلا وإذا لم تتعقل كنت غافلا، وهكذا دواليك. ويضرب شبار مثالا بالصحابة في تعاملهم مع جل الآيات القرآنية، حيث يدل تعاملهم معها على أنها تكاليف في نظرهم، عكس تعامل المسلمين لاحقا، الذين تحروا التكليف بمعناه الصرف الذي يحصره في العبادات، فكانت النتيجة ظهور تصنيف للعلوم بين الشريفة والوضيعة، فابتعد المسلمون بذلك عن معنى التكليف باعتباره ترشيدا قيميا قرآنيا.
من القواعد المنهجية الأخرى التي يقترحها شبار لتجديد الفهم الديني، قاعدة قرآنية هي: حِلُ كل الطيبات وحِرمةُ كل الخبائث، وربطها بما استوعبه العلماء المسلمون حينما جعلوا الشريعة مختصرة في قاعدة “جلب المصالح ودرء المفاسد”. وينبه أيضا على ان الحديث عن الوجود ليس القصد منه الإنسان فحسب، وإنما جميع الموجودات، ملمحا إلى فلسفة القرآن في استبعاد وعي الصراع بين الإنسان والطبيعة الذي ساد الفكر المادي الغربي مدة غير يسيرة ولا يزال، والذي خلف أزمات المناخ والبيئة اليوم، أما نظرة القرآن للإنسان فتعتبره كائنا عابدا، كما هو شأن الكون، ومنه فالعلاقة التي ينبغي ان تربطهما هي علاقة صداقة وحفظ الأمانة.
أما تناول الوحي لمفهوم الحياة، كمثال يقدمه شبار لتأكيد وجهة نظره، تجسد في منظورين: الأول من خلال ذمها، والثاني على امتداحها، والغرض الترشيدي القرآني هنا، يكمن في إقامة الاعتدال في نفس الإنسان، فيكون المخاطب بالمنظور الأول ذلك المقبل كلية على الحياة، ويكون المخاطب بالثاني ذلك المدبر عنها كلية أيضا؛ تفعيلا لمفهوم الجمع بين عالم الغيب وعالم الشهادة، الذي يقيمه الإنسان في نفسه.
ومن الأمثلة كذلك، تناول القرآن الإنسان عبر صورتين، الأولى إيجابية والثانية سلبية، حيث تخاطب الآيات السلبية ذلك الذي يطغى ويتجبر، وتخاطب الثانية عموم الناس في أصلية الكرامة الإنسانية. وقد تنبهت مصنفات تراثية عدة لهذه الرؤية القرآنية، يعلق شبار، مثل كتاب “تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين” للراغب الاصفهاني، صاحب الفكرة المثيرة: التي ترى بأن الإنسان وحده، الكائنَ المستصلح للعيش في الدارين، الدنيوية والأخروية. دلالة على تركيبيته وتداخل البعدين فيه. ويعرج بعدها على مفهوم البعث والحساب/الجزاء، الذي يشدد على أنه لا ينبغي حصره في زاوية العقاب الأخروي فحسب، وإنما ربطه بفكرة الإنسان المسؤول، وفكرة إسهام الدين في ترشيد الحياة الإنسانية.
وآخر ما ختم به محاضرته، التأمل في تعامل الوحي مع القيم التي كانت متأصلة في المجتمع العربي، والتي كان مرجعها القبيلة، فقام الإسلام بتحريرها وربطها بالإنسان عموما، فصار طلب الخير أينما كان، ومهما كان مصدره، فعلا يؤجر عليه طالبه أخرويا، ويؤدي لصلاح دنياه في الآن نفسه. مؤكدا في السياق ذاته، على فكرة الفيلسوف طه عبد الرحمن بأن لحظتنا العالمية اليوم، هي لحظة الزمن الأخلاقي الإسلامي، لذا، ينبغي استغلالها في الإسهام بواجب ترشيد الوجود الإنساني بناء على ما تملكه الحضارة الإسلامية من إرث قيمي كبير.