المشترك الإنساني بين المنظور الإسلامي والغربي
الأصل في العلاقات الإنسانية، على وفق القواعد التي يقررها القرآن الكريم: التفاعل لا التقاتل، والتعاون ولا التصادم، والود والسماحة والبر، لا العدوان والبغي والقهر.
وتختلف الرؤى والنظريات المؤصلة للمشترك الإنساني في كل من المرجعية الإسلامية والغربية، فلكل وجهة نظره الخاصة انطلاقا من زاوية نظره، وهذا ما سأعرّج عليه في الفقرتين التاليتين؛
الفقرة الأولى: المشترك الإنساني في المنظور الإسلامي
فالإسلام دين الله الخالد الباقي ما بقي الليل والنهار، ورسالته السامية موجهة إلى البشر جميعا. وبعثة نبي الإسلام محمد ﷺ هي بعثة إلى عامة الناس أجمعين، لا تخص فئة دون فئة… فالرسالة الإسلامية انطلاقا من شموليتها تنادي صراحة وبكل يقين وجزم بكلّ ما يقرّب بني البشر بعضهم من بعض، ويعين على تجسير الهوّة بينهم، ويندب إلى كلّ ما يعدّ قيما مشتركة بينهم بغضّ النّظر عن دياناتهم وأعراقهم وألوانهم وأوطانهم، ونصوص القرآن الكريم والسنة النبوية حافلة بمثل هذه التوجيهات السّامية.[1]
فإذا ما قرأنا صفحات التاريخ فإننا سنجد أن سلوك المسلم كان حبّا للآخر، واحتراما لمساحات التّلاقي معه والتّفاعل مع فكره والتّداخل في نتاج عقله والرّقي في مجادلته أو مناظراته، وهو ما ظلّ سمتا للثقافة الإسلامية في مثاقفتها وتلاقحها مع كلّ من حولها.[2]
ولما كانت أحوال العالم وما فيه من حركات اضطرارية تجري وفق إرادة الله التكوينية، فإنّ أفعال الإنسان الاختيارية محكومة بإرادة الله التشريعية، من خلال وحيه الخاتم في نصه القرآني وبيانه النّبوي… فالبحث في فعل الإنسان المادي والفكري من منطلق الوحي، يعد المسلك المنهجي الأمين في بناء فعل إنساني سوي، ينسجم مع مقتضى الشريعة…[3]
وليس المقصود بالمشترك الإنساني هنا ذلك المفهوم العولمي غير المنضبط، الهادم للخصوصيات الثقافية للشعوب، والمسكون بهاجس الهيمنة وعقدة المركزية الحضارية للغرب، وإنما نريد بالمشترك الإنساني تلك القيم الإنسانية الموجودة في جوهر كل الأديان والحضارات والمدارس الفكرية؛ القيم التي تلبّي حاجيات الإنسان الفطرية من حيث هو إنسان، كونها قيما ومبادئ عابرة للخصوصيات الثقافية للأمم والشّعوب، وهي ما انغرس في فطرة الإنسانية من حبّ العدل وإنصاف المظلوم وبغض الظّلم، وغيرها من مبادئ حقوق الإنسان، ومبادئ المروءة الإنسانية، التي تؤول في العمق إلى أثرة من علم النبوات والرسالات السابقة. فما فطر عليه الإنسان من قيم البرّ، يحتاج إلى ما ينفض عنه ركام الجاهليات.[4]
والإسلام ينكر مركزية العرق والجنس واللون، التي أثمرت العنصرية العرقية، حتى جعلت في العالم طبقية للألوان والأجناس، تركت آثارها الكريهة حتى في المعابد والعبادات، فضلا عن الأندية والمساكن والمدارس والمصانع، ناهيك عن القوانين والحقوق والواجبات والامتيازات.
بل ورأينا من يدعي أنه شعب الله المختار بحكم الولادة من رحم بعينه، حتى ولو كان ابنا غير شرعي… بل ولو كان ملحدا؟
كما ينكر الإسلام هذه المركزية العرقية عندما تكون مركزية الجنس الأبيض… أو الأسود… أو الأصفر… أو أي عرق من الأعراق… فاختلاف الألوان.. في إطار الإنسانية الواحدة.. وتساويها جميعا – في هذا الإطار الإنساني الواحد- هو سنة من سنن الله، وآية من آيات الخالق لكل هذه الألوان والأعراق والأجناس… قال تعالى: وَمِنَ اٰيَٰتِهِۦ خَلْقُ اُ۬لسَّمَٰوَٰتِ وَالَارْضِوَاخْتِلَٰفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَٰنِكُمُۥٓۖ إِنَّ فِے ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّلْعَٰلَمِينَۖ ٢١﴾.[5]
والإسلام ينكر كذلك المركزية اللغوية… التي تريد العالم لغة واحدة، فتنكر على الأمم والقوميات حقّها في تعدد الألسنة واللغات… بل وينكر هذه المركزية اللغوية في إطار الدّولة الواحدة، إذا هي حرمت الأقلّيات اللغوية من حقها في تعلم لغاتها القومية؛ كي تحافظ على مواريثها الثقافية..
وفي ذات الوقت، ينكر الإسلام تحول التعددية اللغوية أو الدينية إلى قطيعة، تفصم
-بالشوفينية القومية أو التعصب الديني- عرى التفاعل والترابط بين الدوائر اللغوية والطوائف الدينية في الأمة الواحدة أو الدولة الواحدة.. فالأمة؛ وحدة تضم تنوعا في الملل والأعراق واللغات… والوسطية الإسلامية تحمي وحدة الأمة من أن تفتتها التمايزات اللغوية أو التعددية الدينية… كما تحمي هذه الوسطية التنوع اللغوي والديني من أن تقهره وحدة الأمة أو الدولة.
يريد الإسلام بمنهاجه في التعددية للعالم الذي نعيش فيه:
أن تغتني ثقافاته المتعددة بالتعددية اللغوية والتعددية في المواريث الثقافية والفكرية لأممه وقومياته… لأن اختلاف وتعدد الألسنة واللغات آية من آيات الله في المخلوقات.[6]
ويقول محمد عمارة في هذا الصدد، بعدما دعا إلى التزام موقف التفاعل الحضاري، الذي هو وسط بين “الانغلاق- والعزلة” وبين “التقليد- والتبعية”_ يستلزم ويستوجب اكتشاف مساحة “الخصوصية الحضارية”، المكونة لهويتنا الحضارية… والتي لا بدّ من إحيائها، والاستمساك بها، وحمايتها كما تحمي الأمم أعراضها … بل وصناعاتها الوطنية… واكتشاف مساحة “المشترك الإنساني العام” في الإبداع الإنساني، لا لنقبله فقط من الآخرين، بل ولنسعى إلى امتلاكه بكلّ ما أوتينا من قوّة، ولنتتلمذ فيه على كل الآخرين الذين يبدعون فيه..
وإن كان لي أن أضرب مثالا على السمات والقسمات التي أرادها نماذج لهويتنا وذاتيتنا الإسلامية وخصوصيتها الحضارية، فإنّي أنبّه على أنّ المداخل إلى هذا الميدان هو الوسطية الإسلامية الجامعة أي التي لا تقف ساكنة بين القطبين والطرفين، وإنما تجمع منهما ما يمكن جمعه وتأليفه من عناصر الحقّ والصواب.[7]
وفي مقابل ذلك يبنى العالم من جديد على قوام المشترك الإنساني بدلا عن الصدام الحضاري؛ لأن “القول بقيم مشتركة أو عالمية أو إنسانية لا يعني أن المشتركات يجب أن تكون شاملة، وتسري مقتضياتها على جميع الناس في كلّ الظروف والأحوال”[8]، وإلا سنسقط في عولمة تفرض نظرة أحادية وقيما إقليمية متحيّزة، وتلغي الاختلاف والتباين والتمايز.[9]
في إطار هذه المرجعية القرآنية واستيعابا لها انتشرت الدعوة الخاتمة انتشارا واسعا في جميع بقاع المعمورة، واستوعبت حتّى الشعوب التي كانت وثنية من مغول وفرس وأتراك وبربر وغيرهم، وانهارت تلك الثنائية العصبية: شرق وغرب، بالتفاعل الإيجابي لحضارة القرآن مع باقي الحضارات واستيعابها وتجاوزت في الوقت نفسه، ولم تكن متحيّزة منغلقة على ذاتها.
فلا ينبغي أن يوظّف مفهوم المشترك الإنساني في القول بتذويب الفوارق وإلغاء الخصوصيات الذاتية، والتنكر للمختلف فيه، ولا لعولمة ثقافة ما أو تعديل الأنساق القيمية للآخرين، مما يتفق ومعايير أنساق الثقافة الغالبة، فهو ليس إدماجا للثقافات، ولكنه نداء المستقبل للشعوب والأمم والأديان والمصالح من أجل تشييد علاقات المشترك الإنساني التي تحفظ الأسس الكبرى لحضارة الإنسان، وتحترم التنوّع والاختلاف والتنافس، والإقرار بأن هناك حضارات متعددة وليست حضارة واحدة نسخت الحضارات السابقة عليها. ومن ثمّ لا مندوحة عن إعادة النظر في المناهج والنظريات والمعارف الناتجة عن حضارات عالمنا المعاصر والمنتجة لقيمها في الوقت نفسه، وليس فقط ما ينتج عن الحضارة الغربية التي يزعم بعضهم أنها خلاصة التطور البشري. [10]
فبهذه الروح التقدمية العظيمة استطاع أسلافنا أ يبنوا الحضارة الإسلامية التي كان من أخص مميزاتها اتصالها بمختلف الحضارات وشتى المدنيات الشرقية والغربية في وقت غفوتها، ثم بعثها من مرقدها والاستفادة منها والتأثير فيها وفي أصحابها، كل ذلك في شكل مليء بالاحترام لسائر القيم البشرية بالاعتداد بالدين وروحه العظيمة التي هي الإنسانية نفسها. وهكذا نجد الفكر الإسلامي يمنع المسلمين من الانكماش على أنفسهم والاستسلام لما فعلته عوامل الانحطاط في مجتمعهم، بل يدفعهم للاتصال بكل العقول والتنقيب على كلّ المعارف والتقاط الحكمة من كل الجهات والتطلّع دائما إلى كل جديد من شأنه أن يحسّن حال الوسط الإسلامي أو يرفع من شأن أفراده أو يساعد على تثبيت رسالته الخالدة.
وإذن فواجبنا اليوم أن نهتدي بهدى الإسلام الصحيح، ونعمل على تجديد أحوالنا، مستمدين من تراث غيرنا ومن حاضر الأمم الراقية وتجاربها ما يمون لنا عصر انبعاث حقيقي ويقظة نشيطة واستئناف لمواصلة السير نحو المثل الأعلى الذي يملأ قلوبنا والذي هو سلوتنا فيما نعانيه اليوم من بؤس.
وإن الزمان قد استدار دورته، وإن القوافل الإنسانية في طريقها، وهي لا تعرف الانتظار ولا التريث بمن يتأخّرون عن إدراكها. وإنّ كل لحظة نقضيها في غفلة عن الأحوال وعدم اهتمام بالمآل لا تزيد إلا في إرجاعنا القهقري حيث نزداد بعدا عن الركب الإنساني الذي يوجب الفكر الإسلامي أن كون في مقدّمة هداته الأوّلين.[11]
فالمرجعية القرآنية تحفظ المشترك الديني وتؤسس له عبر خطاب يعترف بالآخر المخالف دينيا، ويمدّ له يد التّعاون والتّآخي، وهذا يتيح لأتباع جميع الرّسائل السّماوية أن تتعاون في بناء المشترك الإنساني، وحفظ التّنوّع الطّبيعي والثّقافي “لينهضوا جميعا بأمانة أداء مهمة الاستخلاف في الأرض، وليكون التّنوع مصدرا لبعث روح التّنافس بينهم، في ميادين الإبداع والارتقاء في ميادين عمارة الأرض… وليكون هذا التّنوع كذلك سببا لقيام قاعدة الحاجة والضرورة بين الناس والمجتمعات، فلا يستطيع أحد أفرادا ومجتمعات الاستغناء عن أحد، ولتقوم من بعد الحاجة بينهم لحياة مشتركة، يسوسها نظام عالمي مشترك”[12]… فالقرآن الكريم كتاب العالم بلا تحيز جغرافي، وكتاب الإنسان بلا تحيز قومي، وكتاب الحياة بلا تحيّز زمني، يخاطب الإنسان في وجوده ومعرفته وقيمه، فخطابه عالميّ وحضارته عالمية؛ حضارة الرّحمة والتّراحم والمرحمة، حضارة العدل والحرّية والسّلام، حضارة التعايش والعمران، والجميع منتم لأمّة الإنسانية،﴿وَأَنَّ هَٰذِهِۦٓ أُمَّتُكُمُۥٓ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗۖ وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِۖ٥٣﴾.[13]
وقد أثبت القرآن قضية الخلق من النشأة الأولى إلى أن أصبح الناس قبائل وشعوبا وأمما، أنزلت عليهم الكتب وأرسلت إليهم الرّسل، ليتحقّق ميزان العدل في الحياة، ويقوم الناس بالقسط، إخوة في الإنسانية، لا فض لعرق على عرق أو لسان على لسان… كما أنّ بنية النصّ في القرآن الكريم بنية حوارية تفاعلية إقناعية، تحرص على التواص مع الآخر والاشتراك معه، والاقتراب منه، واستثمار المشترك الجامع معه… وبتدبر آي القرآن الكريم نقف على إمكاناته الاستيعابية للأديان السابقة وحكمة الأمم الماضية، فتنفتح المرجعية القرآنية جميع التجارب المفيدة في الأجيال الحالية والمستقبلية، علميا وتربويا واقتصاديا، ومن آثار هذا الانفتاح تعايش المسلم مع غير المسلم نظرا للاشتراك الجامع بينهما… كما أن الدعامة القيمية والأخلاقية التي أرساها الإسلام صدّقت على القيم الدينية والإنسانية المتعاقبة بعد حرص الصالحين على نقلها، علاوة على خاصية العالمية التي اتسمت وانفردت بها شرعة الإسلام صيّرتها ذات خصوصية كونية داعية للمشترك الإنساني التعارفي[14] والتعاوني والتسامحي.[15]
وانطلاقا مما سبق فقد اتضح المنظور الإسلامي للمشترك الإنساني الذي يحفظ الإسلام كلياته المقاصدية المبثوتة في المشترك الإنساني، ولا يستقيم بأي وجه كان في شرعنا التنازل عن أصول الدين العقدية والتشريعية والأخلاقية بدعوى الإنسانية أو التعارف أو لعرض دنيوي، فالإسلام حفظ إنسانية الإنسان وقيمه التي أسس لها بما يوافق ما فطره الله عليها، فيجب على المسلم التفاعل إيجابا مع الأغيار من الشعوب الغربية وغيرها.
الفقرة الثانية: المشترك الإنساني في المنظور الغربي
إن تبني أطروحة التسامح والسلام عند الغرب في ظل ازدواجية المعايير والكيل بمكيالين، والتلاعب بالمفاهيم والمصلحات بغية قلب الحقائق وتسويق خطاب مناف لطبيعة السلوك الغربي الإقصائي المتبني للمركزية؛ ليعدّ ضربا من العبث والنفاق الذي تسعى السياسات الإمبريالية تمرير مخططاتها تحت مطيّة الحقوق والتسامح الحاثّ على السماح في الدين والتنازل عن هوية وقيمة الإنسان المختلف مع الغرب فيعكفون جاهدين على تركيز مركزيتهم الحضارية، والدعوى التي تبناها صمويل هنتنغتون تؤكد على هذا الطّرح، “ونجد أن المفكرين المسلمين والغربيين يتبادلون الاتهامات حول من المسؤول عن التوتر القائم بين العالم الإسلامي والعالم الغربي، فينطلق الغرب من نظرية صدام الحضارات القائمة على فكرة مفادها أن الإسلام عامة واستغلال الدين في السياسة من طرف الحركات الدينية المتطرّفة هو السبب الرئيسي للصدام بين الحضارتين الإسلامية والغربية، في حين يتهم المسلمون الغربيين بأنهم كانوا وراء جميع الحروب التي شهدها التاريخ منذ القدم ولا زالت مستمرة إلى اليوم، بينما الإسلام بريء من هذه الاتهامات التي يوجهها الغرب له”.
فنجد أن أصحاب نظرية صدام الحضارات “ينطلقون من أساس كراهية الإسلام للديانات الأخرى، وأنّ العالم الإسلامي سيستغل عامل الدين في إثارة الدين في الصراع مع العالم الغربي، عن طريق الحركات الأصولية التي تسعى إلى ملء الهوة الحاصلة بين الهوية الاجتماعية والسياسية لدى الشّعوب المسلمة. ونجد صامويل هنتنغتون يقول في هذا الصدد: “وكما يحدد الناس هويتهم وفقا لمعايير عرقية ودينية فمن المرجّح أن ينظروا إلى علاقة “نحن” مقابل “هم”، تقوم بينهم وبين أصحاب ديانة أو عرق مختلف، وسمح انتهاء الدول الإيديولوجية في شرق أروبا والاتحاد السوفييتي السابق بأن تحتل العداوات والهويات العرقية صفوف المقدمة، وتخلق الاختلافات في الثقافات والدين خلافات حول قضايا السياسة”.[16]
وإنّ هاجس الخوف من الدين، ومن الإسلام خاصة، هو أهم الأسباب التي دفعت صمويل هنتنجتون وغيره إلى بسط النظرة التشاؤمية القائمة على الصدام بين الحضارتين الإسلامية والغربية، زد على ذلك صعود اليمين المتطرّف إلى مراكز القرار السياسي كما حدث في فرنسا مثلا، ويعزى ذلك للفهم الخاطئ للإسلام جراء تعرّض الفكر الأوروبي والغربي عموما لسطو فكري وتلاعب عقلي قلب صورة الإسلام وشوّهها فصوّرها ببشاعة لا توصف وبدنيّة لا تقبل، وقد قصد فواعل هذا الأمر تقزيم مكانة الإسلام الذي ينتشر كلّ يوم في أوروبا وباقي دول الغرب، مما يهدد مكانة المسيحية واليهودية في مجتمعهم، لذلك ساروا وفق هذا النهج المقيت، وفي المقابل بالمجتمع الغربي نجد بعض دعاة التسامح والتعايش الحاثين على مد جسور التواصل والتفاعل الحضاري، إلا أن سطوة صانعي القرار بالغرب يتبعون منهج التهميش والإقصاء والتشويه، إما بتطرف يميني صرف أو بتطرّف يساري مغال، ويؤكد هذا الرأي الباحث هشام المكّي حيث قال: ” ويوازي نجاح أحزاب اليمين المتطرّف، تنامي موجات الكراهية للإسلام والمسلمين، وهو ما يظهر كشكل دفاعي، ناتج عن خوف كبير من الإسلام أو المسلمين (إسلاموفوبيا) نتيجة ما يروّج له الإعلام الغربي من ارتباط الإرهاب بالمسلمين، وهو الخوف المتنامي ليس في أروبا وحدها، بل وفي العالم الغربي بأسره”.[17]
ويرد الباحث خالد الشيات هذا الخلل إلى التفسير الخاطئ لتاريخ الصراع وإنشاء صورة نمطية تقليدية على الإسلام مختزلة في العنف، مما لا يسمح بالتمييز بين الثقافة الإسلامية والثقافة الغربية المتعالية، حيث قال: “يتم بناء الإسلاموفوبيا من خلال سلسلة من المغالطات، الأولى هي استيعاب كل الممارسات الدينية في الإسلام العنيف والقديم، ويبدو واضحا أن هناك أزمة تشكيل الثقافة “الغربية” هنا حسب طرح “هنتنجتون”، والتي لم تستوعب فترات تاريخية، باعتبارها منضبطة في مفهوم الصراع التقليدي حول الريادة، وهو أمر لا يمكن اختزاله في العداء للإسلام، حيث إن الحرب كانت ولمدة طويلة، بين المسيحيين فيما بينهم، أو حتى بين المسلمين، اتجاهات ومذاهب وطوائف، فيما بينهم. لقد تشكّل وعي خاطئ، وينهل من الصراع مدعيا واقعية في التحليل، لك يبدو أن الخلل في “الأنا” المتضخمة ل “الغرب” في نموذج تعليمي، أو ربما مستوى التنشئة العامة اجتماعيا وسياسيا الذي يتنافى مع قسمة العيش المشترك، والتي تخوّل شرعية البحث في مكامن التنافي والتضادّ بين الاتجاهات المنتسبة إلى الثقافة الغربية، وتلك المنتسبة إلى الثقافة الإسلامية.[18]
هناك من يرى في مقولة صدام الحضارات أنها لا تعبر عن الواقع الحقيقي للعالم اليوم، وأنّ أصل الصراع سياسي وليس دينيا عقديا، حيث يكشف لنا الواقع أن كثيرا من ظواهر الصراع والصدام سياسي وليس عقديا، حيث يكشف لنا الواقع أنّ كثيرا من ظواهر الصراع والصدام لا ترجع بالدرجة الأولى إلى الاختلاف في الانتماء الديني والحضاري، بل يعود إلى قاعدة سياسية اقتصادية، كما أنّها تدفع باتّجاه صناعة رأي غربي يرفض التّعايش، وهذا يؤدي بدوره إلى اتّخاذ مواقف مجتمعية غربية من المهاجرين من الشعوب والأمم الأخرى، الذين يعيشون في الغرب.[19]
وعلى النقيض من ذلك يرى نقاد هذه النّظرية أن جوهر الصدام والصراع بين الأديان والحضارات إنما يكون في عدم فهم الآخر وضعف الثقة في خطابه وفي الصورة التي يقدمها عن نفسه، وبهذا يتشكل مجال هامشي للمناورة والرصد والتوجس، وهي عوامل التوتر والتصدع واللاتسامح، وفي هذا العمق تنشأ أشكال التصادم وتمثله مظاهر الصراع والاقتتال بين الإثنيات والأديان والدول والحضارات؛ ذلك أنّ الحدود المرسومة بين الأديان والحضارات والتي تُنشئها العوامل الدينية والثقافية والتاريخية التي تقوم بحجز صورة الآخر داخلها وتلوينها بحسب أجندة إيديولوجية ما، فكل هويّة دينية وحضارية عندما تشعر بالتّهديد في قيمها ورموزها الدينية وقدسية اختلافها الديني الذي هو جوهر وجودها فإن نظامها الدفاعي يعزز أشكالا من القوّة والعنف والصدام لإعادة بعث قيمها المحلية والدفاع عن مقدّساتها الدينية. وهذا الجو المشحون بمشاعر الانتقام والإيذاء والثأر يؤول إلى تعريض الآخر إلى كثير التشويه والتزييف والتهوين ونشئ سوء الفهم الذي يؤدي بدوره إلى فقدان الحوار والتسامح وانتشار التطرف والتشدد والغلو وغيرها من أشكال الكره والتّعصّب.[20]
وقد تعالت أصوات غربية تدعو إلى وقف العنف بكلّ أشكاله، وتدعو إلى استتباب السلم والأمن العالميين، وإذكاء روح التعاون بين الشعوب، فنجد مثلا المفكر الفرنسي “جاك ماريتان” ينادي بالتفاعل الإيجابي بين شعوب العالم فيقول: “على كلّ شعب أن يجاهد لكي يفهم نفسية الشّعوب الأخرى وتطوّرها وتقاليدها وحاجاتها المادّية والمعنوية، ويعترف بكرامتها ودورها التاريخي”.[21]
ويأتي مفهوم المصلحة المشتركة كمنطلق مهم وأساسي في التقاء الشعوب وتقاربها وتعارفها، فقد تتمثّل المصلحة المشتركة في التبادل التجاري، أو التعاون السياسي، أو في سنّ قوانين دُوليّة تتيح الالتقاء وتمهّد له، أو حتى في الجوانب الفكرية والثّقافية وقد رأى كثير من مفكّري أوروبا أن التّعارف إنما يكون وفقا للمصلحة المشتركة[22]، فنجد على سبيل المثال أن ” المثقفين في العصر الوسيط الأوروبي ظهروا من خلال الاتصال بالعرب، الاتصال التجاري أولا، الذي كان وراء نشأة المدن وترعرعها، والاتصال الفكري ثانيا الذي كان وراء يقظة العقل الأوروبي وتفتّحه. إن الحركة العلمية التي شهدتها مدن أوروبا في القرن الثاني عشر الميلادي (حركة الترجمة وقيام الجامعات والانكباب على دراسة العلوم والفلسفة العربية/ اليونانية) ((كانت هي الرحم الذي تمخّض عن المثقفين في أوروبا))”[23].
وتحدث المفكر الإنجليزي توماس هوبز (1679م) عن المصلحة المشتركة المترتّبة على اتفاق الناس لإقامة حكومات مركزية؛ فهو يتناول المصلحة المشتركة داخل المجتمع الواحد؛ “إذ يرى أنّ الناس يكونون في حالتهم الطبيعية متساوين، ويسعى كلّ منهم إلى المحافظة على ذاته على حساب الآخرين، بحيث تقوم بينهم حالة حرب بكلّ ضد الكلّ. ولكي يتخلّص النّاس من هذا الكابوس المزعج، يتجمّعون سويّا ويفوّضون قدراتهم الخاصّة لسلطة مركزية”.. فلمّا كان النّاس عقلاء وميّالين إلى التنافس، فإنهم يصلون إلى اتفاق أو ميثاق من صنعهم، يتفقون فيه على الخضوع لسلطة معيّنة من اختيارهم. وبمجرّد قيام مثل هذا النظام، لا يكون لأحد الحقّ في التّمرد، ما دام المحكومون، لا الحاكمون، هم الملزمون بالاتفاق. ولا يحق للناس أن يفسخوا الاتفاق إلا إذا عجز الحكَم عن توفير الحماية التي اختير أصلا من أجلها، ويسمى المجتمع الذي يرتكز على عقد من هذا النوع باسم الدولة القائمة على مصلحة مشتركة commonwealth…”[24] ويؤيد وجهة النظر هاته الفيلسوف الإنجليزي جون لوك، من خلال تفسيره لتطور المجتمع الأول، والحكومة المدنية الأولى؛ بقوله: “في البدء كان جميع البشر أحرارا ومتساوين، ويعيشون (حالة الطبيعة) وبدون حكومة مدنية… وإنّ (حال الطبيعة) تلك لم تكن حالا من حرب مستمرة، فلدى البشر من العقل الطبيعي ما يكفي ليرشدهم إلى عدم إضرار بعضهم البعض، وذلك سواء بالحياة والصحة والحرية، أو الممتلكات. فهناك قانون طبيعي أخلاقي، وهو قانون بسيط وواضح لكلّ إنسان يتمتّع بقواه العقلية. وإنّ للناس طبيعة في الحال المفترضة للطّبيعة، وفي حياتهم وحرّياتهم وممتلكاتهم، وقد وجد النّاس حياتهم محتملة؛ لكنها لم تكن ملائمة أو مريحة بالنسبة إليهم، وكان افتقارهم إلى حَكَم مقبول لدى الجميع يحكم في القضايا المتعلّقة بالممتلكات الخاصّة، قد جعل تمتّعهم بالملكية غير آمن تماما، ومحاطا دائما بالأخطار… ولكن لما كان النّاس غير ملزمين بأن تكون لهم حكومة؛ لذلك باستطاعتهم أن يعقدوا صفقة معها”.[25]
وسار على نفس المنوال الفيلسوف الهولندي اسبينوزا بتأكيده على أهمية المصلحة المشتركة وعلى النتائج المترتبة على تحقيقها في العالم كلّه، بقوله: “ولكن حاجة النّاس بعضهم لبعض استدعت تبادل المساعدة فيما بينهم، وهذا أدّى إلى استبدال الحالة الطبيعية التي كانت السيادة فيها للقوّة، إلى حياة المجتمع المنظم الذي يسود فيه القانون والحقوق، لأن حياة العزلة بعيدا عن المجتمع تثير في النّاس الخوف، كما أنّ الإنسان الذي يعيش في عزلة ليست لديه القوّة الكافية للدفاع عن نفسه وتأمين ضروريات معيشته. وهذا أدّى إلى اتّجاه الإنسان إلى إقامة مجتمع منظم ليحمي نفسه ضدّ الأخطار التي يتعرّض لها… ولا بد من إقامة مجتمع وتبادل المساعدات فيما بينهم…”.[26]
إذا ساعدت المصلحة المشتركة على تطوّر حياة الإنسان من مرحلة الفردية والتّخلّف إلى حياة المجتمع، حيث النظام والاستقرار والقانون والأمن.[27]
ومن هنا وجب التأكيد على أنّ الفكر الأوروبي الذي أنتج هذا النوع من المعرفة القيّمة التي ترسّخ مبدأ التّعارف من خلال تحقيق المصالح المشتركة بين الأمم والشّعوب، هذا الفكر ذاته لم يخل من مفكّرين -وما أكثرهم- آمنوا بالتصادمية والتشاؤمية؛ بل كانت فلسفاتهم إلهاما لكثير من السّاسة الذين آمنوا بهذه الأفكار والرؤى، وكانت الطّامّة الكبرى حين نُفّذت هذه الأفكار، وما هيجل ومن خلفه ماركس وإنجلز، ومن خلفهم لينين وستالين إلا مثالا أليما من عشرات الأمثلة التي آمنت بالصدام واتخذته سبيلا.[28]
وللأسف فساسة الغرب الحديث تبنوا أطروحة الصدام والشقاق والإقصاء ومحاولة عولمة الحضارة الغربية بإكسابها طابع الكونية بالزحف على الخصوصيات الأخرى سيما الخصوصية الدينية والثقافية.[29] وكشفت الأحداث الأخيرة بغزة بعامي 2023 و 2024 زيف ادعاءات التسامح والحقوقية والإنسانية التي يزعم الغرب صونها وبناءها، فعبّر الساسة عن موقفهم الصّريح المعادي لكلّ ما هو إسلامي ولو كانوا أصحاب حق، وتأييدهم لكل معاد للإسلام ولو كان ناهبا للحق، كما سقط القناع عن بعض دعاة التواصل والتعايش ولعل أبرزهم يورغن هابرماس الذي أيّد العدوان الصهيوني والإبادة التي شنّها الغرب بزعامة الولايات المتّحدة الأمريكية، والملاحظ أن هذا الموقف الذي اتّخذه لم يعارضه فيه أيّ مفكر استشراقي ولا فيلسوف غربي مما يحيل على التوافق الفكري والتواطؤ الإجرامي حول قبول المجازر المرتكبة بفلسطين.
فالتوجّه الإسلامي نحو التسامح والتعايش والتواصل كان منذ فجر الإسلام وأُخذ بأصوله في فترات أوجه المسلمين حضاريا وعسكريا وعلميا، وليس منشأه الضعف أو التّخلف الذي لا ينكر مسلم تأخر المسلمين عن الركب الحضاري التطوري، بينما المسلمون هم السباقون ويحتلون مركز الصّدارة من النّاحية الأخلاقية والقيمية، فعالم اليوم يحتاج للائتلاف ومراعاة سنة الاختلاف، أما تكرار أخطاء الماضي والمعاملة وفق سوط القهر والظلم لن ينتج سوى مآسي جديدة تخلّف دمارا وتُزهق أرواحا وترهق دماء وتُذرف دموعا لا طائل منها.
فلا بديل عن التّعقل وتبني التنافس لا التقاتل والتآلف لا التناحر والتحالف لا التخالف، ويتحقق ذلك في جو من الاحترام والتّقدير التامين.
[1] محمد عارف جميل القاسمي المباركفوري، من القيم الإنسانية المشتركة، موقع دار العلوم ديوبند الهند، تاريخ الزيارة: 24/11/2023، 18:33، بتصرف.
[2] حسين عبد الهادي آل بكر، مقال: لتعارفوا؛ خطوة نحو المشترك الإنساني، مقاربات_ العدد الثالث.
[3] محماد بن رفيع، المنهج القرآني في بناء المشترك الإنساني، ص 2-3، بتصرف.
[4] المرجع نفسه، ص 2.
[5] الروم: الآية 22.
[6] محمد عمارة، العطاء الحضاري للإسلام، مكتبة الشروق الدولية، الطبعة الأولى، 2004م.ص: 84-83.
[7] نفس المرجع، ص 88.
[8] ألتشاين، جين بتكي، هل توجد قيم إبراهيمية مشتركة، مجلة التفاهم، العدد 33، 2011، ص 168.
[9] الفراك أحمد، المسلمون والغرب والتأسيس القرآني للمشترك الإنساني، الناشر: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، الطبعة الأولى، 2021.ص 51.
[10] الفراك أحمد، المسلمون والغرب والتأسيس القرآني للمشترك الإنساني، مرجع سابق، ص 52.
[11] علال الفاسي، النقد الذاتي، المطبعة العالمية، ط 1، ص 113-114، بتصرف.
[12] الرفاعي حامد بن أحمد، “الوسطية مرتكز لحوار الثقافات لتحقيق المشترك الإنساني”، الوسطية ابعاد في التراث والمعاصرة، كتاب المنتدى 1، عمان، منتدى الفكر العربي، 2008م، ص 82، بواسطة كتاب المسلمون والغرب، ص 42.
[13] المومنون، الآية 93.
[14] انظر: راغب السرجاني، المشترك الإنساني نظرة جديدة للتّقارب بين الشّعوب، ط 1، 2011، مؤسسة اقرأ للنشر والتوزيع.ص 658، تطرق فيها لأخلاق التعارف في سورة الحجرات.
[15] انظر: المسلمون والغرب والتاسيس القرآني للمشترك الإنساني، أحمد الفراك، مرجع سابق، ص 41-53.
[16] صمويل هنتنجتون، الإسلام والغرب آفاق الصدام، ترجمة مجدي شرشر، مكتبة مديولي، الطبعة الأأولى 1995م، ص 19.
[17] هشام المكي، عن مستقبل الإسلام في الغرب، مجلة المنتدى، منتدى العلاقات العربية والدولية، العدد الأول، ربيع 2015، ص 70.
[18] خالد الشيات، استرجاع الهويات ومستقبل التعايش، مجلة ذوات: التعايش الديني رهان التعددية والهوية الجامعة، مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، العدد 58، سنة 2019، ص 47.
[19] محمد محفوظ، الإسلام والغرب وحوار المستقبل، المركز الثقافي العربي، ط 1، ص 133-134.
[20] بن دنيا سعدية، حوار الأديان والحضارات والصراع على المقدس، مجلة مقاربات فلسفية، نشر جامعة مستنغانم كلية العلوم الاجتماعية، مختبر الفلسفة والعلوم الإنسانية، المجلد 5 العدد 1، 2018، ص 41.
[21] صالح عبد الرحمان الحصين، رؤى تأصيلية في طريق الحرية، مؤسسة الوقف الإسلامي الرياض، 1437ه، ص 161.
[22] المشترك الإنساني نظرة جديدة للتقارب بين الشعوب، مرجع سابق، ص 672.
[23] الجابري محمد عابد، المثقفون في الحضارة العربية “محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد”، المثقفون في الحضارة العربية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط 2، 2000م، ص 28.
[24] برتراندرسل، حكمة الغرب، ترجمة فؤاد زكرياء، الناشر مؤسسة هندراوي، 2021م، ج 2، ص 47-48.
[25] رونالد سترومبرج، تاريخ الفكر الأوروبي الحديث، ترجمة أحمد الشيباني، دار القارئ العربي، ط3، 1994م، ص 129-130.
[26] ول ديورانت، قصة الفلسفة، ترجمة فتح الله محمد المشعشع، مكتبة المعارف بيروت، ط 6، 1988، ص 239.
[27] المشترك الإنساني نظرة جديدة للتقارب بين الشعوب، مرجع سابق، ص 674.
[28] نفس المرجع، 675.
[29] ينظر كتاب: الحق العربي في الاختلاف الفلسفي، لفيلسوف الأخلاق طه عبد الرحمن، الذي ناقش فيه صلة الكوني بالخصوصية.