القلب هو الطريق
مسارُ القلبِ غير مسارِ العقلِ التساؤلي التشكيكي الذي لا يهدأ. طريقُ القلب أقصرُ وأسهل وأجمل الطرق إلى الله، وأسرعُها حضورًا في ملكوته، طريقُ القلب يجعل الدينَ مُلهِمًا للمحبة والنور والفرح. هذا طريقٌ يعرفه ذوو التجارب الروحية، وهو منبعُ طمأنينة القلب وسكينة الروح والسلام الذي يعيشونه في حياتهم.
الإيمانُ نورٌ يكشفُ للإنسان وجودَ الله ويوصله به، ويشكّلُ المنبعَ الأغزرَ لمعنى وجود الإنسان ولحياته ومصيره وأمله بالخلود، وهو حالةٌ يعيشها الإنسانُ وحقيقةٌ يتذوقها، هذه الحقيقة أمرٌ وجوديٌ، وهي تختلف عن التصور الذهني أو الشعور النفساني. الإيمانُ نورٌ ينعكس فيه تجلي الإلهي في البشري، وشهودُ البشري للإلهي، “وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ”. يقول خافيير زوبيري: “كلُّ وجود انساني هو تجربةٌ للألوهية… العقلُ يعجز لوحده عن الادراك المباشر لله، فلا يُتمثَل اللهُ عن طريق العقل وحده، لكن أيضا عن طريق التجربة”. “أقوى برهان على وجود الله هو إمكانُ تجربته وإدراك حضوره. الله معطى تجريبي، ومضمون محسوس للتجربة، وحالة روحانية”، حسب تعبير المتصوّف الهندوسي رادها كريشنان.
الإيمانُ ليس فكرةً نتأملها، أو معرفةً نتعلمها، أو معلومةً نتذكرها. الإيمانُ حالةٌ للروح نعيشها، وتجربةٌ للحقيقة نتذوقها، ثمرةُ الإيمانِ تُعرف بمقدار إثرائه للسلام الباطني. تبتهجُ للإنسانِ الأرضُ لحظةَ يبتهجُ قلبُ الإنسان بأنوار الإيمانِ. الإيمانُ يختزنُ كنوزَ الله في القلب، أجملُ وأرقّ لغة يتجلى فيها الإيمانُ هي لغةُ القلب. لغةُ القلب تتسعُ لحالاتٍ لا تتسعُ لها الكلماتُ، إنها أعذبُ لغة مشتركة بين كلِّ الناس في كلِّ زمان ومكان.
يحتاج الناسُ إلى من يتعلمون منه كيف يستمعون الى نداء قلوبهم. القلبُ هو الطريقُ إلى الله، مادام القلبُ يحتضنُ الإيمانَ فلا جدوى من تكرار محاججات المتكلمين غير المنتجة لطمأنينة القلب وسكينة الروح.كلُّ دليلٍ على الله لا يمكن أن يوصلنا إلى الله بالشكل الذي يوصلنا فيه القلبُ إلى الله، يعجز الدليلُ خارج القلب عن كشف الصلةِ الوجودية للخلق بالحق، ولا تنكشفُ في مثل هذا الدليل تجلياتُ جمال الله في الوجود، ولا يمكن أن تشرق بواسطته أنوارُه على القلوب.
ورد في دعاء عرفة المروي عن الإمام الحسين “ع”: “اِلهى تَرَدُّدى فِى الآثارِ يُوجِبُ بُعْدَ الْمَزارِ، فَاجْمَعْنى عَلَيْكَ بِخِدْمَة تُوصِلُنى اِلَيْكَ، كَيْفَ يُسْتَدَلُّ عَلَيْكَ بِما هُوَ فى وُجُودِهِ مُفْتَقِرٌ اِلَيْكَ، اَيَكُونُ لِغَيْرِكَ مِنَ الظُّهُورِ ما لَيْسَ لَكَ، حَتّى يَكُونَ هُوَ الْمُظْهِرَ لَكَ، مَتى غِبْتَ حَتّى تَحْتاجَ اِلى دَليل يَدُلُّ عَليْكَ، وَمَتى بَعُدْتَ حَتّى تَكُونَ الاْثارُ هِىَ الَّتى تُوصِلُ اِلَيْكَ”. مَنْ يحاول الاستدلالَ على الله بمخلوقاته، كمَنْ يحاول الاستدلالَ على النور خارج النور، النورُ يكشفُ عن نفسه، وينكشفُ فيه كلُّ شيء غيرَه. “اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ”، “أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ”. اللهُ هو الدليلُ على اللهِ، لا دليلَ أجلى منه عليه، ولا طريقَ أقرب منه إليه، هو القريبُ في بُعده، البعيدُ في قُربه. الكلُّ مدعوون للقاءِ الله، لا البُعد يُقصيهم، لا القُرب يُدنيهم. ما أكثف شذرة النفري وأغناها وهي تكشف للإنسان عن توهمه بوجود مسافة وبُعد مكاني يبعده عن الحقّ: “القُربُ الذي تعرفه مسافةٌ، والبُعد الذي تعرفه مسافةٌ، وأنا القريبُ البعيدُ بلا مسافة”. ويرسم جلال الدين الرومي صورة بهيجة لشهوده لله: “هو الذي توطّن مدينةَ القلب فأين أُسافر. هو الذي سكنَ حدقةَ العين فإلام أنظر”. أما عبد الحق بن سبعين فيوبخ الإنسانَ المستريب: “يا هَذَا، غُضّ بَصَرَ إدراكِكَ عن غيرِ اللهِ، ثم قُلْ لنفسِكَ: يا خَسِيسَةَ المنزلة، متى ثَبَتَ سِوَاهُ حَتَّى تستريبي فيه، وتَغُضِّي بَصَرَكِ عنه؟! هو الله! فلا هو إلا هو، ولا يمكن غيرُ ذلك”.
اللهُ هو الدليلُ على اللهِ، يُعرَف هذا الدليل على وجود الله ببرهان الصِّدِّيقين. أول مَنْ صاغ هذا البرهانَ ابنُ سينا، وهو من أطلق عليه هذه التسمية، وأعاد بيانَه فلاسفةٌ مسلمون، وفلاسفةٌ مسيحيون، مثل: توما الأكويني، وفلاسفةٌ يهود، مثل: موسى بن ميمون. وأخيرًا أعاد بيانَه بتصويرٍ جديد ملا صدرا الشيرازي، وواصل بيانَه ملا هادي السبزواري، ومحمد حسين الطباطبائي.
الإيمانُ كما يعيشُهُ ويتذوقُهُ أصحابُ التجارب الروحية المضيئة مسعىً أبدي لاستبصارِ تجلياتِ الحبِ والخير والجمال في كلماتِ الله التدوينية والتكوينية. الإيمانُ ظاهرةٌ تفشلُ وسائلُ الكشفِ العلمي المتاحة عن إدراك كنهها وتحليلِ جوهرها، وإن كانت تدرسُ آثارَها المتنوعة في حياة الفرد والمجتمع. الإيمانُ من جنس الحالات الوجودية، و”قوالب الألفاظ والكلمات لا تتسع لمعاني الحالات”، حسب تعبير محيي الدين بن عربي.
الإيمانُ تجربةٌ روحية، كلُّ تجربةٍ روحية هي تجربةٌ وجودية تفشل اللغةُ في التعبير عنها، وإن تحدثت عنها فإنها تخون دلالتَها في التوصيل والإيضاح، لأنها لا تستطيع أن تتحدث عنها إلا بكلمات وعبارات ضبابية مبهمة غامضة. الرموزُ أشدُّ دلالةً على الإيمان، وعلى كلّ تواصلٍ وجودي مع الله والغيب، بل إن الكلماتِ والعبارات عندما تتحدث عن الله أو الغيب تستعير دلالةَ الرموز، لأنها تشير إلى ما هو مجرّد عن المادة وآثارها، الغيبُ لا يتمكن الإنسانُ أن يتواصل معه بالمعاني الظاهرة للغة القاطنة في فضاء الزمان والمكان والحواس.
الطريقُ العقلي إلى الله لا جذوةَ فيه، ولا ينتج سكينةَ الروح وطمأنينةَ القلب. لا يتمسك فلاسفةٌ مشاهيرُ بطريق العقل، ويرون أنه يخذلنا ولن يوصلنا إلى الله، أمثال: إيمانويل كانت، وسورين كيركيگورد، وغيرُهما. ولا يعبأ عرفاءُ في مختلف الأديان بطريق العقل، أمثال: محيي الدين بن عربي، وجلال الدين الرومي، ومايستر إكهارت، وغيرُهم. يقول جلال الدين الرومي: “إن قدمَ أصحاب العقل والاستدلال قدمٌ خشبيةٌ مهزوزة غير ثابتة”. و”يروى أن الفخرَ الرازي مرَّ في الطريق وحوله أتباعه وتلامذته الكثيرون، فرأته عجوز مؤمنة في جانب الطريق فسألت: من هذا؟ فقالوا: هذا الفخر الرازي، الذي يعرف ألف دليل ودليل على وجود الله تعالى، فقالت: لو لم يكن عنده ألف شك وشك لما احتاج إلى ألف دليل ودليل، فلما سمع الفخر الرازي بذلك، قال: اللهم ايمانًا كإيمان العجائز”.
الإيمانُ حالةٌ روحية متسامية، الإيمانُ جوهرةٌ كيفية لا تخضع لقياسات كمية مادية، إنه شروعٌ في سفر وجودي للعروج نحو الحقّ. حينما لا يحيا الإنسانُ الدينَ كصلة حيّة متوثبة بالحق، بل يُقدّم للمرء بوصفه مقولات ومفاهيم وأفكارًا وشعارات، يجب أن يعتنقَها الكلُّ، ويحفظَها الكلُّ، ويتطابقَ فيها الكلُّ، فلن يرتوي القلبُ بالإيمان ولن يبتهج بلذة وصال الحق. يصير العقلُ مستودعًا يختزن مجموعةَ محفوظات، هي بمثابة مومياءات محنطة مفرّغة من أية شعلة روحية متوهجة. يكتب محيي الدين بن عربي: “إن الإيمان نور شعشعاني، ظهر عن صفة مطلقة لا تقبل التقييد، والمؤمنون فيه على قسمين: مؤمن عن نظر واستدلال وبرهان، فهذا لا يوثق بإيمانه، ولا يخالط نورُه بشاشةَ القلوب، فإن صاحبَه لا ينظر اليه إلا من خلف حجاب دليله، وما من دليل لأصحاب النظر إلا وهو معرّض للدخل فيه والقدح ولو بعد حين، فلا يمكن لصاحب البرهان أن يخالط الإيمان بشاشة قلبه، وهذا الحجاب بينه وبينه. والمؤمن الآخر الذي كان برهانُه عينَ حصول الإيمان في قلبه، لا أمر آخر، وهذا هو الإيمان الذي يخالط بشاشة القلوب، فلا يتصور في صاحبه شك، لأن الشكَ لا يجد محلًا يعمره فإن محله الدليل”.
الإيمانُ لايتحقّق بالنيابة، خلافاً للفهم والمعرفة، ففي عملية الفهم يمكن أن يتلقى الإنسانُ معارفَه من شخص آخر، أو يقلّد غيرَه في آرائه، الإيمانُ تجربةٌ تنبعثُ في روح الإنسان، إنه صيرورةٌ تنبعثُ بها الروحُ وتتوهجُ.
كما أن القلبَ هو الطريقُ إلى الله، هو أيضًا بوصلةُ بناء وترسيخ أثرى العلاقات الإنسانية في الحياة وأخصبها، وأغناها بالحميمية والتراحم،كعلاقات الأمهات والآباء بالأبناء، وكلِّ العلاقات الإنسانية في إطار العائلة الواحدة.كلُّ علاقة إنسانية أصيلة لا يمكن أن تنمو وتتغذّى وتتجذّر إلا بعواطف ومشاعر نبيلة تستقى من القلب.