السوسيولوجيا والنيوليبرالية: التاريخ المفقود
تسعى هذه الورقة لدراسة الدور الذي لعبته السوسيولوجيا في صعود الفكر النيوليبرالي، هذا الدور الذي طالما تمّ إهماله، مستعرضةً الجذور التاريخية والمعرفية للنيوليبرالية، في علاقتها وتماسّها بعلم الاجتماع.
ترجمة: فؤاد ريّان
نضع بين أيديكم نصّاً مترجماً، لدراسةٍ أعدّها الباحث “نيكولاس غاين” كانت قد نُشرت في العام 2014. تسعى هذه الورقة لدراسة الدور الذي لعبته السوسيولوجيا في صعود الفكر النيوليبرالي، هذا الدور الذي طالما تمّ إهماله، مستعرضةً الجذور التاريخية والمعرفية للنيوليبرالية، في علاقتها وتماسّها بعلم الاجتماع. وتنطلق الورقة من نقد الأشكال التفسيرية والوضعية للسوسيولوجيا الكلاسيكية التي ساهمت في تطوير نظرية معرفةٍ اقتصاديةٍ تُعطي السوق الدور الأكثر مركزيةً في تشكيل السياسة والفكر والعلوم الاجتماعية.
*****
يتنامى الاهتمام السوسيولوجي بالنيوليبرالية في أعقاب الأزمة المالية الأخيرة؛ وهي، أيّ النيوليبرالية، شكلٌ من أشكال الحكم التي تسعى إلى حقن مبادئ السوق التنافسية في جميع مناحي المجتمع والثقافة. ومن أجل فهم النيوليبرالية كشكلٍ مجرّدٍ من أشكال الاقتصاد السياسي، وكنمطٍ من أنماط الحكم التي لها تأثيراتٌ فعليةٌ على أرض الواقع، فقد تحوّل الكثيرون إلى نبش الماضي من أجل استكشاف الظروف التي نشأت فيها، والمسارات التي تطوّرت عبرها في وقتٍ لاحق. هناك مجموعةٌ متزايدةٌ من الكتابات التي تشير إلى أنّ النيوليبرالية ذات تاريخٍ طويلٍ ومعقدٍ، وهو ما يُمكن تتبّعه إلى مرحلة تراجع الليبرالية الكلاسيكية في نهاية القرن التاسع عشر، ومحاولة صياغة ليبرالية جديدةٍ أو “نيو-” ليبرالية في سنوات ما بين الحربين العالميتين، [1] وإلى تسوية ما بعد الحرب العالمية الثانية، [2] وحشد أفكار حرية السوق من خلال جمعية “مونت بيليرين” (Mont Pèlerin Society) منذ العام 1947 فصعوداً، [3] فضلاً عن “إعادة صياغة مبدأ عدم التدخل الحكومي” من قبل علماء اقتصاد مدرستي “فرايبورغ” و”شيكاغو”، [4] و”تكتيكات الصدمة” سيئة السمعة من قبل “صبيان شيكاغو” في أمريكا اللاتينية خلال السبعينيات. [5]
وبقراءة هذه الأحداث مجتمعةً، تعطي هذه التواريخ لمحةً قيّمةً عن كيفيّة نشوء وتطوّر المنطق النيوليبرالي ضمن مجموعةٍ من البيئات السياسية والجغرافية. ومع ذلك، على أيّة حال، فهي تُهمل نقطةً أساسيةً، وهي أنّ النيوليبرالية، كمشروعٍ سياسيّ وإبستيمولوجي على حدٍّ سواء، انبثقت خارج الاشتباك النقدي مع السوسيولوجيا الكلاسيكية. وفي حين حظيت سياسات النيوليبرالية باهتمامٍ نقديٍّ كبير، إلا أنّها نادراً ما أخضعت الالتزامات الإبستيمولوجية الضمنيّة للفكر النيوليبرالي للتدقيق النقدي، إلّا مع بعض الاستثناءات. ولهذا السبب، قد أُهمِل الدور الذي لعبته السوسيولوجيا في صعود الفكر النيوليبرالي بشكلٍ كبير. هذه المقالة هي محاولةٌ لدراسة هذه الفجوة، وتجادل بأنّ الأسس الإبستيمولوجية للفكر النيوليبرالي قد تطوّرت بدايةً خارج نقد السوسيولوجيا حيث مضت قدماً عبر جبهتين: من خلال تشكيل إبستيمولوجيا اقتصاديةٍ أخذت بكتابات “ماكس فيبر” المنهجية كنقطة بدايةٍ، ومن خلال نقدٍ سياسيٍّ أكثر وضوحاً للسوسيولوجيا الوضعية عند “أوغست كونت” وأتباعه. وسنتطرّق كذلك إلى نقاط التّماس هذه بين السوسيولوجيا الكلاسيكية وبدايات الفكر النيوليبرالي من أجل وضع الأسس الإبستيمولوجية التي بُني عليها المشروع النيوليبرالي موضع التساؤل. وسنناقش، في القسم الختامي لهذه المقالة، وحيث أنّ النيوليبرالية تطوّرت خارج نطاق الحقل المعرفي [السوسيولوجيا]، كيف يمكن للسوسيولوجيا أن تكون في موضع قوةٍ للردّ النقدي على الأسس الفكرية للفكر النيوليبرالي في الماضي، وربما أيضاً في الحاضر.
“ماكس فيبر” وإبستيمولوجيا الاقتصاد النيوليبرالي
يُعتبر “لودفيج فون ميزس” شخصيةً مهمةً، لكن مهمَلةً، في تاريخ الفكر النيوليبرالي؛ [6] ففي عام 1922، أيّ في الوقت الذي وصلت فيه السوسيولوجيا الكلاسيكية إلى نهاية، نشر “ميزس” مؤلفه “الإشتراكية: تحليل اقتصادي وسوسيولوجي”، وقد وصف “فريدريش هايك” هذا الكتاب بأنّه صاحب “الانطباع الأكثر عمقاً عن جيلنا”. وجاءت حجّة هذا العمل متوافقةً مع وجهة نظر “فيبر” [7] في التشكيك في إمكانية وجود آلية تسعيرٍ فعّالةٍ في ظلّ الاقتصادات الاشتراكية. وطوّر “ميزس” محاججة “فيبر” القائلة بـ”استحالة وجود الفعل الاقتصادي العقلاني في غياب المال والمحاسبة المالية” [8] إلى هجمةٍ أوسع على فكرة الاقتصاد المُخطَط. وبذلك، يميّز بين الليبرالية والاشتراكية من حيث مقارباتهما المختلفة لـ”التصنيف السوسيولوجي” للملكية. وفي حين كان “ميزس” متعاطفاً بشدّةٍ مع “فيبر”، فإنّه يتّخذ موقفاً معارضاً بشدّةٍ لـ”ماركس” معلناً أنّ “كلّ من يرغب في وجود وتطوّر المجتمع يجب أن يقبل أيضاً، دون قيدٍ أو تحفّظ، بالملكية الخاصة على وسائل الإنتاج”. [9] وهذا النداء للدفاع عن الملكية الخاصة، الذي يوجد أيضاً في قلب النصوص النيوليبرالية اللاحقة مثل مؤلف “هايك” “دستور الحرية”، هو أيضاً ثيمة رئيسة في مؤلف “ميزس” “الليبرالية”، الذي يطالب فيه بوجوب وجود الملكية خارج متناول الدولة أو الحكومة، [10] ويعتبرها الأساس الذي تُبنى عليه كلّ الحريات الفردية الأخرى.
إذا كانت كتابات “ميزس” المبكِّرة، مثل كتابه “الاشتراكية”، وأيضا كتاب “الليبرالية”، تسعى إلى إرساء الأسس السياسية لتطوير نوعٍ جديدٍ من الليبرالية -تلك المعارِضة للتفكير اليساري حول مسائل الدولة والاقتصاد-فإنّ مؤلّفه لعام 1933 “قضايا الاقتصاد المعرفية” يعالج مجموعةً مختلفةً من المسائل السوسيولوجية. ففي عمله هذا، الذي يضع الأسس المنهجية لـ”ليبراليةٍ جديدة”، يعالج “ميزس”، بالإضافة إلى قضايا أخرى، “برنامج السوسيولوجيا والسعي نحو قوانين تاريخية”، و”المفهوم الأساسي للفعل وشروطه المطلقة”، و”معنى الحيادية فيما يخص الأحكام القيميّة”، و”علاقة السوسيولوجيا بالتاريخ”-أيّ كل القضايا التي تناولها “فيبر” بالتفصيل في الصفحات الافتتاحية لمؤلفه “الاقتصاد والمجتمع”. ولعلّه ليس من المستغرب انجذاب “ميزس” إلى هذه الجوانب في عمل “فيبر”، حيث وُلدت السوسيولوجيا التفسيرية عند “فيبر” من نزاعاتٍ سابقةٍ حول المنهج (ما يُسمّى بـ”ميتودنشترايت” (Methodenstreit) [أو نزاع المنهج] في سبعينيّات القرن التاسع عشر) بين المدرسة التاريخية الألمانية ومدرسة الاقتصاد الحدّي النمساوية. وقد قدّم منهج “فيبر” حلّاً لهذا النزاع من خلال محاولة دمج التحليل التاريخي مع استخدام الأنماط المنطقية والمنهجية التي طوّرها الاقتصادي النمساوي “كارل منجر” والذي أشاد به “هايك” لاحقاً. [11] بينما أصبحت تفاصيل “الميتودنشترايت” معروفةً جيداً الآن، [12] لم يُعطَ أيّ اهتمامٍ للموقف الإبستيمولوجي الذي طوّره “ميزس” بدوره استجابةً لـ”فيبر”.
ربّما كان هذا بسبب الكثافة النظريّة لكتاب “ميزس”، “مسائل إبستيمولوجية”، الذي يفتتحُه بتأمّلٍ حول الرابط بين المفاهيم ودراسة الخبرة، إذ يُعتبر موقف “ميزس” الأساس ذو توجّهٍ “نيو-كانطي”في الغالب؛ أيّ “أنّ المفاهيم تأتي منطقياً دائماً قبل فهم الفرد”. [13] يقول “ميزس”: “ما نعرفه عن أفعالنا في ظروفٍ معينةٍ ليس مشتقّاً من التجربة، لكن من العقل”. [14] فالجوهر، أو المفهوم الافتراضي العام، هو الذي يأتي قبل الخبرة، والذي بدوره يمكّننا من فهم العالم الإمبريقي الذي نحن جزءٌ منه، وهو ما يسميه “ميزس” بالفعل البشري.
للوهلة الأولى، تبدو هناك نقاط تقاربٍ بين مفهوم “فيبر” عن الفعل الاجتماعي ومفهوم “ميزس” عن الفعل البشري. يقول “ميزس” إنّ الأفعال الاجتماعية هي أعمالٌ متعمّدةٌ ولذلك هي دائماً ذات أساسٍ عقليّ. [15] لكن عدا عن نقطة البداية هذه، فهناك اختلافاتٌ واضحةٌ. فبالنسبة لـ”ميزس”، ليس السؤال حول تعريف شكلٍ من أشكال الفعل، الذي هو اجتماعيٌ بقدر ما هو بين-ذواتيّ (intersubjective)، والذي كان محور اهتمام “ألفريد شوتز” (الذي عرفه “ميزس” جيداً)، ولكن تحديد شكلٍ من أشكال العقلانية الحسابية التي تكمن خلف كلّ الأفعال البشرية. فرأي “ميزس”، أنّ الفعل لا يقسّم إلى أنواعٍ مختلفةٍ (مثل أدائي، أو قيَمي-عقلاني، كما يفعل “فيبر” في المسار المنهجي)، فجميع الأفعال تسترشد بالقيم والغرض المنوي منها، ويُنظر إليها على أنّها اقتصاديةٌ وليست اجتماعيةً في المقام الأول.
مثال “ميزس” الرئيس هو الفعل المسترشد بالحسابات النقديّة، والأهمية العملية التي، كما يقول، “لا يُمكن المبالغة في تقديرها”. ويوضح: “إنّه وحده يُتيح لنا الأساس لإطلاق حكمٍ سياسيٍّ نهائيٍ على جميع أنواع الاشتراكية والشيوعية والاقتصادات المخططة …” [16] وفي هذه النقطة تحديداً، يُظهر “ميزس” عداءً واضحاً لـ”فيبر”؛ فهو يصفه بأنّه مؤرخ، “لا هو اقتصادي ولا هو سوسيولوجي”، [17] ويجادل بأنّ منهجه المثالي النمطي، الذي عارض بناء قوانين سوسيولوجيةٍ، [18] أغفل احتمالية صياغة السوسيولوجيا كعلمٍ بقوانين عن الفعل البشري—ذلك الذي يأخذ العقلانية الاقتصادية الأساسية للحياة البشرية كحقيقةٍ أوّليةٍ حول قوانين اقتصاديةٍ أخرى “صالحةٍ لكل زمان ومكان“. [19] وخلافاً لـ”فيبر”، يؤكّد “ميزس” على ما يلي: “كلّ الأفعال تسعى إلى الاقتصاد باستخدام الوسائل المتاحة لتحقيق الغايات المرجوة. وقانون الفعل الأساس هو المبدأ الاقتصادي، حيث يقع كلّ فعلٍ تحت تأثيره”. [20] وهكذا يقدّم هذا النصّ غير المعروف عن الإبستيمولوجيا أساساً لبديلٍ اقتصاديٍ للسوسيولوجيا، ولا يركّز على الفهم التفسيري للفاعلين الاجتماعيين، بل على العقلانية الاقتصادية التي تقوم عليها جميع الأفعال البشرية. هذه هي نقطة البداية الإبستيمولوجية لتحرّرية “ميزس”؛ أنّ الإنسان ذو جوهرٍ اقتصاديٍ وليس اجتماعياً، وهذا مبدأٌ أوليٌ غير قابلٍ للتشكيك.
أُعيد إنتاج العديد من المحاججات الأساسية في كتاب “قضايا الاقتصاد المعرفية” بإسهابٍ أكثر في عمل “ميزس” الضخم، ذي الثلاثة مجلدات، “الفعل البشري”، الذي نشر أوّل مرةٍ في عام 1949. يشير “فوكو”، في محاضراته عن السياسات الحيوية، إلى هذا الكتاب كنقطة تحوّلٍ في مشروع النيوليبرالية؛ حيث يحاول تطبيق نموذج الكائن الاقتصادي (homo economicus) ليس فقط على النشاطات الاقتصادية ولكن أيضاً “على كلّ فعلٍ اجتماعيٍّ عموماً”. ويجادل “فوكو” أنّ هذا المنهج، الذي يُمكن الكشف عنه بوضوحٍ في أعمال “ميزس” المبكّرة، أثّر على النيوليبرالية الأمريكية عند مدرسة “شيكاغو”، والتي بدورها سعت إلى “تطبيق التحليل الاقتصادي على سلسلةٍ من الأشياء؛ من مجالات السلوك أو التصرّف التي لم تكُن من أشكال السوق في السلوك أو التصرف…إلى الزواج، وتعليم الأطفال، والأعمال الإجرامية، على سبيل المثال لا الحصر”. [21]
إحدى السمات البارزة في كتاب “الفعل البشري” والتي غفل عنها “فوكو”، على أيّة حال، هي انفصالها عن السوسيولوجيا، على الأقل من ناحية الاسم، من خلال تشكيل حقلٍ دراسيٍّ جديدٍ، الذي يُطلق عليه “ميزس” اسم البراكسيولوجيا [22] (praxeology). يجادل ميزس أنّ البراكسيولوجيا هي علمٌ يمكن تطويره خارج أشكال الاقتصاد الليبرالي الكلاسيكية من خلال توسيع ما كان سابقاً تركيزاً ضيقاً على ظواهر السوق إلى “نظرية عامة عن الاختيار البشري”. [23] يوضح “ميزس” أنّ البراكسيولوجيا هي “علمٌ لكلّ أنواع الفعل البشري؛ الاختيار يحدّد كلّ القرارات البشرية. عندما يختار الإنسان فهو لا يختار بين موادٍّ وخدماتٍ مختلفةٍ فقط فحسب، فكلّ القيم البشرية معروضةٌ كخيارٍ”. [24] وكلّ شيءٍ، بما فيها الحياة نفسها، تصبح مفتوحةً على نمط الاختيار في السوق. وفي الواقع فإنّ “ميزس” يصرّح مبدئياً أّنّه لا شيء “يبقى خارج هذا الترتيب”. لهذا السبب، فقد جاء القسم الأطول من مؤلّف “الفعل البشري” [25] متحدثاً عن فرعٍ من فروع البراكسيولوجيا يُطلق عليه “ميزس” اسم “كتالاكتكس” (catallactics)؛ وهو، ببساطةٍ، علم ظواهر السوق الذي يتمركز حول الأفعال القائمة على أساس الحسابات النقدية. [26] وفي سياق كتاباته عن “الكتالاكتكس”، يعالج “ميزس” مبدأ المنافسة، ويقوم بذلك من خلال التمييز بين المنافسة البيولوجية؛ والتي تشير إلى المنافسة بين الحيوانات على الموارد اللازمة للعيش (مبدأ البقاء للأصلح)، وبين المنافسة كشكلٍ من أشكال التعاون الاجتماعي؛ والتي “تستبدل العدائية بالشراكة والعلاقات التبادلية. [27]
وبالنسبة لـ”ميزس”، فالسوق هو الذي يضمن هذا الشكل من أشكال العلاقات الاجتماعية؛ حيث أنّ السوق يعمل كمجالٍ للصراع بين البائعين والمشترين، وكذلك يجب أن يكون هناك دائماً تعاونٌ بين المشاركين من أجل أن يكون هناك توافقٌ حول الأسعار. لذلك يُنظر إلى المنافسة على أنّها قوةٌ تكامليةٌ. ولهذا السبب يقف “ميزس” ضدّ فرض القيود عليها بأيّ ثمنٍ كان، وتحديداً إذا كانت هذه القيود من قبل “تدخّل الحكومة والنقابات العمالية”. [28] وسّع “فريدريش هايك” ونقّح العديد من هذه المحاججات في كتاباته في الثلاثينيّات والأربعينيّات، وكان لديه، مثله مثل “ميزس”، اهتمامٌ كبيرٌ بأعمال “فيبر”، وقد شارك في أوّل محاولةٍ لترجمة الفصلين الأولين من كتاب الأخير “الاقتصاد والمجتمع” إلى اللغة الإنجليزية. [29] لكنّ “هايك” انفصل بطرقٍ مغايرةٍ عن الأسس الإبستيمولوجية لكلٍّ من أعمال “فيبر” و”ميزس” التي تتماشى مع تقاليد الاقتصاد النيوكلاسيكي الذي يضع الذات البشرية في قلب الاقتصاد والفعل الاجتماعي. يشكّك “هايك” في العديد من المبادئ الأساسية للنظرية النيوكلاسيكية التي طوّرتها سابقاً شخصياتٌ مثل “ليون والراس” و”ستانلي جيفونز”، بما فيها أفكار نقطة توازن السوق والمنافسة التامة. [30] [31] ولكن، تكمن نقطة خلافه الأساسية في موقفه المختلف تماماً فيما يخصّ عقلانية الأسواق والمشاركين فيها.
يجادل “هايك” أنّ خطأ الاقتصاد النيوكلاسيكي، والمداخل السوسيولوجية التي تتشارك في نفس أسس الإطار الإبستيمولوجي، تضع ثقة عاليةً جداً في مثالية الكائن الاقتصادي-وهو بناءٌ يُلقي باللوم على التأثير المؤذي للعقلانية الفرنسية على الليبرالية الكلاسيكية. موقف “هايك”، خلافاً لذلك، هو أنّ هناك حدوداً واضحةً في الممارسة فيما يتعلق بالجهات البشرية الفاعلة وقدرتها على المعرفة-وبالتالي، الهيئات الحكومية-حيث لا يمكن معرفة التعقيد الكبير للعالم التجريبي من قبل عقلٍ واحدٍ (وهذا أيضاً امتدادٌ للنيو-كانطية)، فالمعرفة البشرية هي بالضرورة ناقصة. والسؤال التالي، وهو بالنسبة لـ”هايك” الإشكال الأساس لكلّ العلوم الاجتماعية، هو “كيف يمكن للجمع بين شظايا المعرفة الموجودة في أذهانٍ مختلفةٍ تحقيق نتائج، حيث إذا ما أردنا تجميعها مع بعضها بشكلٍ قصدي، سيتطلّب ذلك معرفةً حول العقل الموجِّه الذي لا يمكن لعقلٍ واحدٍ امتلاكه؟”. [32] بالنسبة لـ”هايك”، إنّه السوق الحرّ الكفيل بإنجاز هذا العمل، حيث يمكنه جلب المعرفة لكلّ الأفراد الفاعلين على صيغةٍ واحدةٍ، ألا وهي السعر. لذلك يُنظر إلى السوق على أنّه المعالج الشامل لكلّ المعلومات. وبحسب “هايك”، إنّه “أعجوبةٌ”. [33]
انطلاقاً من النقطة الإبستيمولوجية هذه، يطرح “هايك” مجموعةً من التعهّدات السياسية التي يُمكن مقاربتها مع أفكار “ميزس” لكن بشكلٍ غير متطابقٍ، ومن أبرزها: التعارض مع تخطيط الدولة للاقتصادات، ونقاشه للسوق كقوة تكاملٍ اجتماعيّ، ودعوته للحشد السياسي لفتح المنافسة في المؤسسات الاجتماعية حيث كانت محظورةً في السابق. لكن بينما يأخذ “ميزس” موقفاً “ليبرتارياً”- تحرّرياً يسعى لحماية الحرية والخيار الفردي من سلطات الحكومة الشمولية. يجادل “هايك”، بمزيدٍ من الدقّة، أنّ الحكومة والدولة ذات أهميةٍ حاسمةٍ؛ يُمكن توظيفها للعمل في خدمة السوق. وكما لاحظ “فوكو” في محاضراته عن السياسات الحيوية، وتحديداً فيما يخصّ بزوغ الأوردوليبرالية [أو الليبرالية النظامية] في ألمانيا بعد الحرب العالمية، أنّ المهم في هذا التحوّل هو أنّه أدّى إلى إعادة تعريف دور الدولة، والذي هو الآن ليس ضامناً للسوق فقط بل يعمل بشكلٍ فاعلٍ على دعم المنافسة في الفضاءات الاجتماعية التي لم يكُن باستطاعة السوق الوصول إليها في السابق. [34] في كلمته الافتتاحية في الاجتماع التدشيني لجمعية “مونت بيليرن” (Mont Pèlerin Society)، صرّح “هايك” أنّها “الأطروحة العامة الأولى التي سنمتلكها وتَعتبِر أنّ المنافسة يمكن أن تكون أكثر فاعليةً وفائدةً من خلال نشاطاتٍ حكوميةٍ محدّدةٍ ممّا يُمكن أن تكون عليه من دونها”. [35] ومن خلال هذه الدعوة لإعادة التفكير في الطرق التي يمكن أن تكون فيها “الأنشطة الحكومية” ذات فائدةٍ للسوق ومشروع النيوليبرالية، أخذتْ تتشكّل كشيءٍ متميّزٍ عن كلٍّ من الليبرالية الكلاسيكية وأشكال الفكر التحرّري، سواءً من الناحية الفكريّة أو على أرض الواقع.
النقد النيوليبرالي للوضعية
لا يقف العمل الإبستيمولوجي الذي يسند هذا المشروع عند ذلك الحدّ على كلّ حال. استمرّ “هايك”، من بداية الأربعينيّات حتى الخمسينيّات، في الكتابة بكثافةٍ حول الأسس الإبستيمولوجية للعلوم الاجتماعية. في الواقع، فقد طوّر خلال هذه الفترة أُسس الاقتصاد الليبرالي الذي أخذ التقاليد الكلاسيكية للسوسيولوجيا كنقطة انطلاقٍ ونقطة فراق.
يبدأ هذا المشروع، كما هو مذكورٌ أعلاه، بإعادة النظر، وفي نهاية المطاف بنقدٍ لمبادئ الاقتصاد النيوكلاسيكي الذي يؤطّر سوسيولوجيا “فيبر” التفسيرية، ويتوسّع خلال الأربعينيّات والخمسينيّات إلى رفض التقاليد الموجودة في الطرف الآخر من الطيف الإبستيمولوجي: أيّ الوضعية. يُمكن العثور على إحدى الإشارات المبكّرة لعدم رضى “هايك” عن النماذج السوسيولوجية الوضعية في مقالته لعام 1942، “حقائق العلم الاجتماعي”، [36] حيث يجادل أنّه من الخطأ الاعتقاد أنّ العلوم الاجتماعية تصبح أكثر علميّةً عندما تتمركز على ملاحظة الأشكال الجماعية مثل الدولة أو المجتمع بدلاً من تحليل الفعل الفردي.
يجادل “هايك” أنّ وجهة النظر هذه عبارة عن “وهمٍ محض”، مضيفاً أنّ الحقائق الاجتماعية (على نحوٍ محتملٍ كما في المعنى الدوركهايمي) هي أكثر من كونها مجرّد “نماذج ذهنيةٍ”. [37] وعلى هذا الأساس، فإنّ “هايك”، مثله مثل “ميزس”، يقيّم الحالة الإبستيملوجية للسوسيولوجيا بعلاقتها بتخصّصاتها التابعة. فهو يجادل أنّ دور السوسيولوجيا هو تشييد نظريات، والتي يجب أن تكون، منطقياً، قبل علم التاريخ، بحيث يمكن بدورها أن تشرح “المصطلحات التي يجب أن يستخدمها علم التاريخ”. [38] ، مضيفاً أنّه لا يمكن للنظرية الاجتماعية صياغة قوانين “بمعنى القواعد التجريبية حول سلوك الأشياء التي يمكن تعريفها من الناحية المادية”، ولكنّها مع ذلك ذات قيمةٍ لغرضٍ مختلفٍ: “إعطاء تقنيةٍ للعقل تساعدنا على ربط الحقائق الفردية…” [39] رسالة “هايك” واضحةٌ: يجب على العلم الاجتماعي إعطاء الأولوية في المقام الأول إلى الفعل الفردي، بدلاً من البدء بما يُطلق عليه “الكل”.
طوّر “هايك” نقده للوضعية بإسهابٍ أكثر في مؤلَف “الثورة المضادة للعلم”، والذي يتناول في الفصل الافتتاحي فيه تأثيرَ العلوم الطبيعية على العلوم الاجتماعية، منتقداً بشدّةٍ ميْل الأخيرة إلى تقليد الأولى في مناهجها بدلاً من روحيّتها”. [40] ويجادل “هايك” بأنّ أولئك الذين يدعون إلى تبنّي العلوم الاجتماعية مناهجَ العلوم الطبيعية هم أنفسهم نادراً ما أسهموا في تطوير معرفتنا بالعلم نفسه، ولهذا يجب التشكيك في أحقيّتهم في الكلام عن هذا الموضوع. المستهدف الرئيس لنقد “هايك” هنا هو “كونت”، وهو انتقادٌ لا أساس له من الصحة إلى حدٍّ كبير؛ نظراً لأن “كونت” كان شخصيةً رئيسيّةً في ظهور البيولوجيا في شكلها الحديث. [41] ومع ذلك، يتّهم “هايك” “كونت” بالعلموية (scientism)، أو ما يُصطلح عليه بـ”التقليد الوضيع لمنهج ولغة العلم”، [42] مجادلاً بأنّ مشكلة مثل هذا النهج تكمن في “تطبيقه الميكانيكي غير النقدي لطرق التفكير لحقولٍ معرفيةٍ مختلفةٍ عن تلك التي تشكّلت منها”. [43] كما يحاجج، امتداداً لهذا الموقف، أنّه من الخطأ أن تفرض العلوم الاجتماعية مخططاتٍ مفاهيميةً أو منهجيةً محدّدةً مسبقاً ذات توجهٍ “جمعي” على دراسة العالم. إنّه يتساءل، على وجه الخصوص، عن نزوع هذه العلوم للانفصال عن الفهم الحسيّ الفطريّ فقط لاستبدالها بأشكال جديدةٍ من التصنيف الخارجي الذي يرفع من شأن الأفكار ذات التوجه الجماعي على ما هو “فردي”.
وقد فصّل “هايك” موقفه هذا في مؤلّفه حول علم النفس “النظام الحسّي”، حيث يعالج مسائل التجربة ما قبل الحسّية و”التجريبية البحتة”، التي تعامل العقل مثل السوق؛ أي كشبكة اتصالاتٍ لا مركزيةٍ “تُتيح التنسيق المعقّد”. [44] كما يجادل، في جزءٍ رئيسٍ من مؤلّفه “الثورة المضادة للعلم”، الذي نُشر في نفس العام الذي نُشر فيه “النظام الحسي”، أنّ المشكلة في المناهج “العلمية”، بما فيها كتابات “كونت” و”دوركهايم” الاجتماعية العلمية، هو ميلُهم إلى تأكيد خصائص أو بنىً خارجيةٍ على العقل الفرديّ: “عندما يشدّد العالِم على أنّه يدرس حقائق موضوعيةً يعني أنّه يحاول دراسة الأشياء باستقلاليةٍ عمّا يعتقده الإنسان أو يفعله حولها. الآراء التي يحملها الناس عن العالم الخارجي هي بالنسبة له مرحلةٌ يجب دائماً تخطّيها.” [45]
اعتبر “هايك” مثل هذا المنهج خاطئاً لأنه يعتبر بيانات العلوم الاجتماعية ذات طابعٍ موضوعيّ. ولهذا السبب، يجب على السوسيولوجيا السعي إلى تحليل الفعل الفرديّ، ليس من حيث الصفات الخارجية للناس والأشياء بل من خلال معالجة ما يعنيه العالم المادّي للفاعلين الذين نحاول فهمهم. [46] وللقيام بهذا، يجادل “هايك” أنّه من الضروري أن نأخذ منهجاً مغايراً لـ”المنهجية الجماعية” عند “كونت” [التي ترى أنّ المعرفة الأفضل في العلوم الاجتماعية تُشتقّ من خلال الدراسة الجماعيّة للمؤسسات والقوى والمشاكل..إلخ] ، أو نظرية “دوركهايم” عن الحقائق الاجتماعية. بدلاً من دراسة الكيانات، مثل المجتمع أو الرأسمالية، كمعطياتٍ “كليّةٍ”، والقوانين التي يُفترض أن تُكتَشف من خلال الملاحظة، فمن الضروري، بدل ذلك، توظيف منهجيةٍ تشمل على الكلّيّات من خلال ربط العناصر الفردية معاً بحيث يمكن بعدها أن تتّخذ شكل نموذجٍ. في الواقع، فإنّه من خلال مثل هذا العمل فقط يصبح ممكناً فهم كيف “تستطيع أفعالٌ مستقلةٌ لأناسٍ كثُر إنتاج كليّاتٍ متّسقةٍ وبنىً متماسكةٍ من العلاقات التي تخدم أغراضاً بشريةً هامةً من دون أن تكون قد صُمّمت أصلاً من أجل هذه الغاية”. [47] ومرةً أخرى، لا يتزحزح “هايك” عن رأيه: “على العلوم الاجتماعية ألّا تبدأ من “الكلّيّات”، التي تُعطى شكلاً من أشكال العقل، ولكن يجب أن تبدأ من الداخل؛ من التجربة الحسّية للفاعلين و”تفاعلات الجهود الفردية”. [48]
على كلّ حال، فإنّ جوهر إبستيمولوجيا “هايك” مسألةٌ سياسيةٌ. فهو يجادل بأنّ أيديولوجيّة التخطيط الاقتصادي المركزي مرتبطةٌ بشكلٍ مباشرٍ بـ”الأفكار العلمية” للوضعية؛ فأفكار “الهندسة” الاجتماعية أو “التخطيط” مبنيةٌ على أساسٍ من “أوضاعٍ نمطيّةٍ معرّفةٍ حسب حقائق موضوعيةٍ”، وعلى هذا النحو لا تعالج مشكلة “كيفية معرفة الموارد المتاحة أو ماهية الأهمية النسبية للاحتياجات المختلفة”. [49] ويجادل “هايك” أنّ مثل هذه “العلموية” ليست فقط ذات هدفٍ سياسيٍ مبطّن “تقود مباشرةً إلى الشمولية السياسية”، [50] ولكنّها تشكّل أيضاً انتهاكاً للعقل؛ تلك التي يمكن أن تُعزى إلى سوسيولوجيا “سان سيمون” و”كونت”. وليس مفاجئاً أن يكون “كونت” هو المتسبّب الرئيس في هذا التطوّر. وقبل بضع سنواتٍ من ذلك، وفي مؤلّفه “الفعل البشري”، وضع “ميزس” “كونت” “في نفس الخطّ مع الكتّاب اليوتوبيّين” الذين سعوا إلى “الدكتاتورية إمّا لأنفسهم أو لرجالٍ سيضعون خططهم بحذافيرها موضع التنفيذ”، [51] وبالتالي الدفاع عن “ثورةٍ ضد العقل”. ويصف “ميزس” “كونت” بداعية “الطغيان المتعصّب”، [52] مضيفاً:
لقد كان يعرف بالضبط ما يخبّئه المستقبل للجنس البشري. وبالطبع، فقد اعتبر نفسه المشرّع الأعلى. على سبيل المثال، فهو يعتبر بعض دراسات علم الفضاء بلا فائدةٍ وأراد منعها، وخطّط لاستبدال المسيحية بدينٍ جديد، واختار سيدةً في هذه الكنيسة الجديدة لتحلّ محلّ مريم العذراء. يُمكن تبرئة “كونت”، حيث أنّه كان مجنوناً بالمعنى المرضيّ الكامل لهذه الكلمة. ولكن ماذا عن أتباعه؟ [53]
يوسّع “هايك” نقد “ميزس” لـ”كونت” من خلال معالجة عمله كامتدادٍ لـ”الاشتراكية السلطوية” لكتابات “سان سيمون” عن الفردانية. يجادل بأنّ صياغات “كونت” المبكّرة عن “النظام الوضعيّ” هي أكثر من كونها “إعادة صياغةٍ” لعمل “سان سيمون”، بما فيها طرحه حول الفيزياء الاجتماعية التي تهدف إلى “اكتشاف القوانين الطبيعية والحتميّة لتقدّم الحضارة، والتي هي أساسيةٌ تماماً مثل قانون الجاذبية”. [54] بالنسبة لـ”هايك”، ينفصل “كونت” عن “سان سيمون”، في كتاباته في خمسينيّات القرن التاسع عشر، عندما سعى إلى تحويل الوضعيّة إلى دينٍ جديدٍ للبشرية. ويصف “ميزس” هذه المرحلة من أعمال “كونت” بالمجنونة، ولكن كان لدى “هايك” رأيٌ آخر: أنّ هذا الجنون “موجودٌ في أفكار “كونت” منذ البداية”. [55] ولذلك، وبالنسبة لـ”هايك”، فإنّ السوسيولوجيا في صيغتها الكونتية، هي في أحسن الأحوال، إساءة استخدامٍ للعقل، وفي أسوأ الأحوال، “علمٌ” يجلس على حافة الجنون.
في القسم الأخير من كتاب “الثورة المضادّة للعلم”، وتحديداً في فصلٍ معنونٍ بـ”علم الاجتماع: كونت وخلفاؤه”، يُعيد “هايك” ويوسّع العديد من انتقاداته السابقة للعلموية. ويتكئ عداؤه لعمل “كونت” على الأسس التالية: أنّها تدعونا إلى وحدة العلم من خلال تطبيق المنهجية الوضعية ولكنها لا تخبرنا ممَّ تتكوّن هذ المنهجية بالضبط، [56] وتعرِّف السوسيولوجيا بأنّها دراسة الجمود والحركية الاجتماعية، وفي الممارسة “لديها القليل لتقوله” عن الأولى، [57] وتجادل بأفضلية السوسيولوجيا على علومٍ أخرى لم يعرف “كونت” عنها الكثير، وتحديداً علم الاقتصاد. [58] إنّ قراءة “هايك” لـ”كونت” مغرضةً بوضوح حيث أنّ “كونت” عالج موضوع الجمود الاجتماعيّ، والحالات الاجتماعية المختلفة للشرِك بالله، والميتافيزيقيا و”الوضعية” بشكلٍ مفصّلٍ جداً من خلال أعماله المختلفة. [59] إنّه أيضاً موضع جدالٍ فيما إذا كان “كونت” لا يعرف الكثير عن الاقتصاد؛ حيث أنّ نظريته عن تقسيم العمل (الذي ردّ عليها دوركهايم لاحقاً) كانت مبنيةً على أعمال “آدم سميث”، الذي ظهرت أعماله، هو و”ديفيد هيوم”، بارزةً على رزنامة الوضعية. لكنّ هذه الانتقادات لـ”كونت”، والتي لم تتطوّر بشكلٍ مفصّلٍ في أيّ مكانٍ آخر في “الثورة المضادّة للعلم”، هي انحرافاتٌ عمّا هو مهم هنا: أيّ، سؤال ما إذا كان ينبغي للحكومة الحدّ من الحريات الفردية من أجل الصالح العام. وقد لخّصت “ماري بكرينج” موقف “كونت”، الذي حُذف من موقف “هايك”، على النحو التالي:
لتجنّب انتشار الاغتراب وانهيار البناء الاجتماعي، فإنّ من الضروري وجود حكومةٍ ذات قوةٍ ماديةٍ وأخلاقيةٍ. لم يعُد بالإمكان حراسةٌ بسيطةٌ للنظام، ستتدخّل الحكومة بشكلٍ فاعلٍ لضمان عمل الأفراد من أجل هدفٍ مشتركٍ هو سيادة الخير العام. بهذه الطريقة القسرية فقط سيقود تقسيم العمل إلى تعاونٍ اجتماعيٍ أفضل. [60]
لا يتطرّق “هايك” إلى موقف “كونت” من الحكومة بشكلٍ مباشر، ولكنّه يعمل مجدداً على خطوطٍ إبستيمولوجيةٍ من خلال التشكيك في أسس “منهجه الجماعي”. فلديه مشكلةٌ، بشكلٍ خاص، مع نظرية “كونت” حول قانون المراحل الثلاث (الثيولوجية، والميتافيزيقة، والوضعية)، تلك الإبستيمولوجيا التي يصفها بـ “ساذجةٌ بشكلٍ مثيرٍ للقلق وعدم الرضى”. فالمشكلة بالنسبة لـ”هايك” هي، مرةً أخرى، فكرة أنّ القوانين الطبيعية قابلةٌ للتطبيق على الظواهر الاجتماعية. ويتذمّر قائلاً: إنّ مقولة أنّ كلّ الظواهر تخضع لقوانين طبيعيةٍ لا متغيّرةٍ لا معنىً لها إلا إذا أُعطيت لنا بعض التوجيهات حول الأحداث الفردية التي يجب اعتبارها كنفس تلك الظواهر”. [61] ويجادل “هايك” أنّ فشل “كونت” في التطرّق لهذه المشكلة أدّى إلى “تأكيده العجيب” على أنّه يُمكن معرفة الكلّ الاجتماعي أفضل من معرفة أجزائه، وهي مسلّمةٌ يقال أنّها “غير قابلةٍ للنقاش” وهو افتراضٌ مسبقٌ كان الأحرى أن يفسّره لنا.
المشكلة الرئيسة بالنسبة لـ”هايك” في مثل هذا المنهج أنّه يعامل ظاهرة العقل، وما يمكن أن يسمّى بالفرد، كأشياء موضوعيةٍ يمكن أن تخضع لنفس عمليات الملاحظة والتحكّم كالظاهرة الفيزيائية، بالإضافة إلى “القانون” العام للتطوّر، مجادلاً أنّ هذا الطابع الخارجي للعقل يعطي سلطةً جديدةً للعالِم (الاجتماعي)، ويفتح الطريق أمام شكلٍ جديدٍ من “الحكومة الفكرية” التي “ستسمح فقط للعلماء الأكفّاء بالتقرير حول الأسئلة الاجتماعية الصعبة”. [62] يتعامل “هايك” مع سوسيولوجيا “كونت” على أنّها تسلّطيةٌ في أساسها. وبالفعل، فهو يجادل بأنّ العديد من تصريحاته في أعماله الأخيرة-على سبيل المثال، بأنّ “الحقوق الفردية ستختفي وسيكون هناك فقط واجبات”، أو أنّه “سوف لن يكون في المجتمع الجديد أشخاصٌ خاصّون [قطاع خاص] بل فقط موظّفو دولةٍ بوحداتٍ ورتبٍ متعددةٍ”-مطابقةٌ لتلك التي قالها “المنظّرون الألمان الذين وضعوا الأسس الفكرية لعقيدة الرايخ الثالث”. [63] هذا الادّعاء-أنّ هناك خطّاً واصلاً بين “إساءة استخدام العقل” في المنهجية الجمعيّة عند “كونت” ورعب الاشتراكية الوطنية-ليست أكثر من إعادة إنتاجٍ لفكرة “ميزس” المبكّرة أنّ جذور الفاشية يمكن أن تُعزى إلى الاعتداءات اليسارية على مبادئ الليبرالية الكلاسيكية. [64] تمّ هذا الانتقال، من الإبستيمولوجيا إلى السياسة، من دون أيّ محاججةٍ أو تحليل. يصرّح “هايك” ببساطةٍ، مثله مثل “ميزس”، أنّ الحكومة التسلطية هي النتيجة المباشرة والحتمية لتبنّي منهجٍ جمعيّ لدراسة المجتمع.
يقدّم “ميزس” نقداً لعمل “دوركهايم” الذي يسير عبر خطوطٍ مماثلةٍ. فإشارات “ميزس” المبكّرة إلى “دوركهايم” موجودةٌ في كتابه “الاشتراكية”، حيث يشكّك في تقسيم العمل كمبدأ من مبادئ التنمية الاجتماعية. [65] يجادل “دوركهايم”، في مستهلّ كتابه “في تقسيم العمل الاجتماعي”، أنّ أتباع “آدم سميث” مخطئون في تعاملهم مع تقسيم العمل باعتباره مسألةً اقتصاديةً في المقام الأول، فضلاً عن أنّه يشكّل مصدراً رئيسياً للتضامن الاجتماعي. بالنسبة لـ”دوركهايم”، فهذه هي النقطة الأهم التي قدمها “كونت”؛ الذي “كان أوّل من أشار إلى أنّ في تقسيم العمل شيئاً آخر وغير مجرّد ظاهرةٍ اقتصاديةٍ بحتة”، فقد رأى فيه “الشرط الأهم للحياة الاجتماعية..” [66] من غير المستغرب أن تكون لـ”ميزس” إشكاليةٌ مع هذا الموقف، وبالتالي مع نقد “دوركهايم” لـ”سميث” والنزعة النفعية أيضاً. يردّ “ميزس”، في حاشيةٍ مطوّلةٍ، على “دوركهايم” مباشرةً ويقول إنّه أغفل حقيقة أنّ التخصّص في تقسيم العمل ممكنٌ فقط لأنّه يجعل العمل أكثر إنتاجيةً، يقول: “يأتي رفض “دوركهايم” لنظرية أهميّة الإنتاجية الأكبر في تقسيم العمل من خلال ربطٍ زائفٍ للفكرة الجوهريّة للنفعيّة وقانون إشباع الرغبات”. [67] وبدلاً من النظر إلى تقسيم العمل كمصدرٍ من مصادر التضامن الاجتماعي، يجادل “ميزس” أنّ له “أثراً متمايزاً” كنقطةٍ مركزيّةٍ لـ”المزيد من تنمية المواهب الفردية”. [68] وبهذه الشروط يتمّ تثمين تقسيم العمل ليس لأنه يجلب المزيد من التكامل المجتمعيّ، ولكن لأنّه يولّد المنافسة بين الأفراد، وهذا شيءٌ صحيّ من أجل الاقتصاد.
هذا التشديد على البعد الفردي بدلاً من الاجتماعي أو الجماعي، الذي يتمّ استنساخه في نقد “هايك” لـ”كونت”، هو موضوعٌ ثابتٌ في أعمال “ميزس”. ففي كتابه اللاحق “النظرية والتاريخ”، يرفض الأخير أطروحات “دوركهايم” و”مدرسته” في التعامل مع “العقل الجماعي كما لو كان ظاهرةً حقيقيةً، وفاعلاً متميزاً، تفكيراً وفعلاً” ورؤية الجماعة بدلاً من الأفراد كموضوعٍ للتاريخ. [69] ويوسّع “هايك” هذه المحاججة في عمله اللاحق “القانون، والتشريع، والحرية”، ويشكّك في التفكير بدمج النشاطات الفردية في النظام الاجتماعي الكامن. ويصرّح “هايك”، في رسالةٍ حادّةٍ إلى “دوركهايم”، أنّ “المجتمع العظيم لا علاقة له، وفي الواقع لا يمكن التوفيق بينه وبين “التضامن” بالمعنى الحقيقي للترابط في السعي من أجل الأهداف المشتركة المعروفة”. [70] في حين أنّه ليس من الواضح لماذا “في الواقع” هذا هو الحال؛ فقد اتّهم “هايك” “دوركهايم” بارتكاب خطأ أساسي في الخلط بين الأخلاق والإيثار الفردي. ويقول “هايك” أن “دوركهايم” يسيء استخدام هذه المصطلحات من خلال استخدامها “لوصف أيّ عملٍ بغيضٍ أو ضارٍّ للفاعل ولكنّه مفيدٌ للمجتمع”. [71] وفي المقابل، يجادل “هايك” بعكس ذلك، أيّ أنّ الأنانية الاقتصادية، أو ما يسمّيه “المكاسب المالية”، على أساس أنّه يمكن أن يكون لها عواقب ضارّةٌ على الأفراد الآخرين؛ فهي السبب في زيادة الثروة العامة حتى يتسنى للجميع الاستفادة في نهاية المطاف. ولهذا السبب، يقول إنّ “المجتمع المفتوح”، الذي تغذّيه الهياكل التنافسية لرأسماليّة السوق الحرّة، لا يتّسم بالانحدار الأخلاقي؛ وهي حجّةٌ يمكن العثور عليها في نموذجٍ سابقٍ من عمل “آدم سميث”.
يقع سؤال الأخلاق هذا في قلب سوسيولوجيا “دوركهايم”، التي تتوقّع الكثير من الجدالات للأشكال اللاحقة للليبرالية الاقتصادية وتأخذ موقفاً مغايراً تماماً، كما يلاحظ “تالكوت بارسونز” في مؤلّفه “بنية الفعل الاجتماعي”: ” لن تكون الدولة ذات العلاقات التعاقديّة البحتة دولة نظامٍ بل دولة تفسخٍ اجتماعي؛ أيّ فوضى”. [72] وهذه النقطة على وجه التحديد هي المحكّ في كتاب “تقسيم العمل”، التي يصرّ “دوركهايم” من خلالها على أنّ الإيثار هو الأساس الجوهريّ للحياة الاجتماعية. وعلى النقيض من المجادلات اللاحقة لكلٍّ من “ميزس” و”هايك”، يصرّ “دوركهايم” على أنّ “الناس لا يستطيعون العيش مع بعضهم البعض والارتباط أحدهم بالآخر بطريقةٍ متينةٍ ودائمةٍ دون تقديم تضحياتٍ متبادلة”. ويضيف، “لأنّه لا يوجد فردٌ مكتفيٌ بذاته، فإنّه من المجتمع فقط يتلقّى كل ما هو في حاجة إليه، تماماً كما للمجتمع الذي يعمل فيه”. [73] لا يشتبك “ميزس” مع هذا الموقف بالتفصيل لكنّه يرفضه، معتبراً، في سياقٍ مماثلٍ لنقد “هايك” لـ”كونت”، أنّه لا يساهم إلّا في إحياء شبح “الفولكجايست” (Volkgeist)، [أو الروح الوطنية]، وبذلك يفتح الباب أمام الشمولية وحتى الدكتاتورية. [74] هذا الادّعاء -أنّ هناك علاقةً ضروريةً بين التضامن الجماعي ووجود الحكومة الاستبدادية -يتمّ مرةً أخرى من دون أيّة أدلةٍ داعمةٍ أو حتى تفسيرٍ أو حجّة، ممّا يدفع أحدهم إلى السؤال: أين هي “إساءة استعمال العقل” هنا؟ عند “كونت” و”دوركهايم”، أم بالأحرى عند “ميزس” و”هايك”؟
ملاحظات ختامية
تقدّم هذه المقالة نظرةً جينيالوجية [أنسابية] عن الفكر النيوليبرالي مختلفةً تماماً عن الأعمال الموجودة حول هذا الموضوع، [75] والتي تأخذ نقطة انطلاقها من نقد الأشكال التفسيرية والوضعية للسوسيولوجيا الكلاسيكية التي ساندت تطوير إبستيمولوجيا اقتصادية، والتي ترتبط بدورها ارتباطاً وثيقاً برؤيةٍ جديدةٍ لسياسةٍ يقودها السوق. هذه المواجهة النيوليبرالية مع السوسيولوجيا بدأتْ مع نقد “ميزس” الاقتصادي لسوسيولوجيا “فيبر” التفسيرية، والتي تطوّرت بدورها إلى نظريةٍ أعمّ في البراكسيولوجيا والكتالكتس (praxeology and catallactics)؛ تلك التي تستبدل التصورات الكلاسيكية عن الكائن الاقتصادي بشكلٍ آخر من العقلانية التي تجذّر القيمة الجوهرية للفعل البشري بقدرة الفرد على الاختيار في الأسواق المتحرّرة من سيطرة الدولة. وقد ذهب “هايك” أبعد من ذلك مشكّكاً في مبادئ الاقتصاد النيوكلاسيكي التي دعّمت الالتزامات الإبستمولوجية لمفكّرين من أمثال “فيبر” و”ميزس”، حيث هناك نموذج “الاجتماعي العقلاني” (فيبر) و”الفاعل البشري” (ميزس) التي تقع في قلب كلّ الحياة الاقتصادية. ويقدّم “هايك” بدلاً من ذلك محاججةً نيوكانطية لعدم إمكانية معرفة عالم المعقولات من خلال إصراره على أنّ العالم الإمبريقي معقّدٌ بشكلٍ لا محدود حيث أنّ المعرفة البشرية هي دائماً، بحكم التعريف، ناقصة. ولهذا السبب، فإنّ الحقيقة، إن كان هناك وجودٌ لشيءٍ من هذا القبيل، لا تأتي ممّا هو إنساني أو اجتماعي ولكن من البعد الاقتصادي، أو بشكلٍ أكثر دقةٍ من نظام التسعير في السوق: هذه “الأعجوبة” التي تنسّق المعرفة الكامنة لكلّ الفاعلين في بُعدٍ “واحد”. ينفصل “هايك” هنا عن تعهّدات “ميزس” الليبرتارية، بينما يتشارك معه في نظرته إلى المعرفة الحكومية على أنّها بالضرورة ناقصة، ويجادل أنّه مع ذلك فإنّ الحكومة أو الدولة مفيدةٌ لأنه يمكنها تدعيم عمليات السوق “الحرّ”. وهذا، كما يلاحظ “فوكو” (2008) في محاضراته عن السياسات الحيوية، أدّى إلى ظهور تكوينٍ جديدٍ للدولة والسوق حيث تخدم الدولة فيه مصالح السوق وتعمل، في نهاية المطاف، كضامنٍ له.
لكنّ ما فات “فوكو”، على أيّة حال، هو أنّ هذه المحاولة لإعادة تعريف دور الحكومة والدولة ترافقت مع مشروعٍ إبستيمولوجي يهاجم التصوّرات الوضعية للشكل الاجتماعي كشكلٍ جماعي؛ أيّ كشيءٍ أكثر من كونه المجموع الكلّي “للحريات” الفردية التي يمكنها التحقق من خلال التنافس في السوق. موقف “هايك” هو أنّ العلوم الاجتماعية يجب ألّا تبدأ أبداً من افتراض أنّ هناك شيئاً من قبيل “الكلّ” الاجتماعي، ولهذا السبب فمن الخطأ تطبيق منهجٍ استدلالي. وبحسب “هايك” هذا يعني، ومع وجود هذه العقلانية والسلطة، بأنّ إضفاء “العقل الاجتماعي” على الملكيات أو الهيئات الجماعية، مثل الحكومة والدولة، يعني أن تصبح في وقتٍ لاحق غير خاضعةٍ للمساءلة فيما يخصّ اهتمامات ومصالح الأفراد.
لهذا السبب، يجادل “هايك” أنّ كلّ أشكال “المنهجية الجماعية” هي بالضرورة تسلّطية، وعلى هذا الأساس يرفض مصطلح “الاجتماعي” كأكثر من كونه “كلمةً مراوغة”. [76] ما يقترحه بدلاً من ذلك هو المنهج الذي يركّز على عملياتٍ تلقائية التنظيم التي تنشأ من تصرّفات الأفراد وتجدُ تعبيراً ملموساً من خلال أعمال التبادل والمنافسة في الأسواق. إنّ هدف “هايك”، على ما يبدو، هو استبدال “علموية” “كونت” بنوعٍ مختلفٍ من “العلم” (مساوٍ له إن لم يكُن أكثر علميةً) الذي يدعو للتحقّق من موقفٍ سياسي: يجب على الدولة أن تخدم مصالح الحرية الفردية من خلال تحويل كلّ شيءٍ “اجتماعي” إلى سوق. بالنسبة لـ”هايك”، كما بالنسبة لـ”ميزس”، المنافسة القائمة على السوق هي أساس كلّ أشكال التعاون الفردي وليست تهديداً للأشكال الكلاسيكية مثل التي عرّفها “دوركهايم” كتضامنٍ اجتماعي.
ولكن يجدر بنا، وعند هذه النقطة، أن نتوخّى الحذر. إنّ النيوليبرالية مشروعٌ معقّدٌ ومتعدّد الأوجه، وسيكون من الخطأ اختزالها إلى موقفٍ ابستيمولوجي أو تعهّدٍ واحد. من المهم ملاحظة أنّه في حين كان رفضُ “هايك” للوضعية أساسياً في الإبستيمولوجيا الكامنة وراء الفكر النيوليبرالي في أوروبا ما بعد الحرب العالمية، لم تكُن هذه الخطوة التي اتخذها زملاؤه على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي، ولا سيّما “ميلتون فريدمان” (الذي يعامل عموماً باعتباره رائداً في الاقتصاد النيوليبرالي في الولايات المتحدة الأمريكية على الرغم من أن النيوليبرالية ليست مصطلحاً تبنّاه صراحة). ليس من الممكن معالجة عمل “فريدمان” بأيّ تفصيل في المقال الحالي، [77] ولكنّ كتابه الأساسي “مقالاتٌ في الاقتصاد الوضعي”، الذي نُشر في عام 1953، حاول صياغة نوعٍ من الاقتصاد، والذي كان من حيث المبدأ إن لم يكُن بالضرورة في الممارسة العملية، “مستقلّاً عن أي موقفٍ أخلاقي معينٍ أو حكمٍ معياري”، [78] وسعى إلى تطوير النظريات والفرضيات التي “يمكن أن تسفر عن توقّعاتٍ صحيحة وذات مغزى … حول الظواهر التي لم تُلاحَظ بعد”. [79]
يأخذ “فريدمان” موقفاً منهجياً قريباً من تعهّدات “فيبر” لسوسيولوجيا خاليةٍ من القيم وبعيدةٍ عن فردانية “هايك” الإمبريقية. وممّا يثير الدهشة أنّ الأساس الإبستيمولوجي لهذه المسارات المختلفة للفكر النيوليبرالي قد أفلتت إلى حدٍّ كبير من الاهتمام السوسيولوجي، على الرغم من أنّه في حالة “هايك” ومرشده “ميزس”، فإنّ فلسفة المنهج تطوّرت عندهم خارج النقد المباشر للأساس الإبستيمولوجي للسوسيولوجيا الكلاسيكية (فريدمان، من جانبه، يعلن أنه مدينٌ أكثر لأعمال كارل بوبر). صياغة “هايك” الأولية للنيوليبرالية، والتي استجابت لها بفاعليةٍ شخصياتٌ مثل فريدمان، [80] تعتمد على رفض الالتزامات المعرفية لـ “فيبر” و”كونت” و”دوركهايم”-التزاماتٌ استمرّت في تشكيل الجدالات المنهجية للحقل المعرفي حتى اليوم-ولكن يبدو هناك القليل، إن وُجد أصلاً، من الردّ السوسيولوجي عليها. وهذا يتركنا مع سؤالين: لماذا نادراً ما أخذ علماء الاجتماع النقد النيوليبرالي لحقلهم المعرفي على محمل الجد (جنباً إلى جنب مع المجادلات الإبستمولوجية لشخصياتٍ رئيسيةٍ مثل “هايك”)، وما الذي يمكن القيام به لتصحيح هذا الوضع؟ هذه أسئلةٌ معقّدةٌ لا يمكن تناولها هنا إلا بإيجاز.
أولاً، هناك لغزٌ، من الناحية التاريخية، وهو لماذا لم تكُن هناك محاولةٌ للدفاع عن التقليد الكلاسيكي ضدّ هجوم النيوليبراليين أمثال “هايك”؟ ناهيك عن صياغة نوعٍ من الردّ عليهم. ولنأخذ مثال “ماكس فيبر”، أصبح هناك الآن كمٌّ هائلٌ من الدراسات الثانوية عن حياته وأعماله ولا يكاد يذكر فيها اسم “ميزس” أو “هايك”. لا توجد إجابةٌ سهلةٌ عن سبب ذلك، ولكن يُمكن العثور على فكرةٍ عن ذلك في كتابات “فيبر” الخاصة عن السوق. ففي مستهلّ كتيّبه، الذي أصدره عام 1894، عن “البورصات المالية والسلع”، يرى “فيبر” أنّ الفهم السوسيولوجي المفصّل لأسواق الأسهم والسلع لا يمكن أن يتحقّق من قبل أولئك الذين يرفضون قيمة هذه الأسواق على أسسٍ أيديولوجية. فهو يُعطي مثالاً على “مفهوم غاية في الخطورة”؛ أنّه “أينما واجه المرء مؤسسةً اجتماعيةً ليست “اشتراكيةً” بشكلٍ صارم (حيث أنّ التبادلات ليست كذلك) فإنّ المرء يتعامل مع منظمةٍ يُمكن الاستغناء عنها بالكامل”. [81]
ولعلّ شيئاً مماثلاً يمكن أن يُقال عن السوسيولوجيا ونهجها تجاه النيوليبرالية؟ إحدى الإجابات عن هذا اللغز هي أنّه نظراً لقلّة من تعاطف علناً مع سياسة المشروع النيوليبرالي من داخل تخصّص السوسيولوجيا وأسسها الفكرية (ناهيك عن الإبستيمولوجية) فقد استُبعدت إلى حدٍّ كبير. وقد ثبت هذا، كما قد يكون “فيبر” قد تنبّأ، أنّها استراتيجيةٌ خطيرة؛ لأنّها سمحت لهذا المشروع أن يتطوّر وفق شروطه الخاصة. وبسبب هذا، غاب إلى حدٍّ كبير عن الاهتمام السوسيولوجي والنقد خلال سنوات تكوينه: من التصوّر الفكري للنيوليبرالية في عمل “هايك” منذ أواخر الثلاثينيّات وما بعدها، إلى نشره في أمريكا اللاتينية في أوائل السبعينيّات. [82]
لقد دخل مصطلح النيوليبرالية إلى قائمة المفردات السوسيولوجية في الثمانينيّات فقط، مع ظهور [83] التاتشرية (Thatcherism) والريغانية (Reaganism)، وحتى ذلك الحين كانت تميل إلى استخدام المصطلح بازدراءٍ للإشارة إلى أيديولوجيّة اليمين السياسي. ولكن مرةً أخرى، فالخطر في رفض النيوليبرالية كونها مجرّد أيديولوجية، كشيءٍ لا حاجة إلى أخذه على محمل الجدّ في حدّ ذاته، هو أنّه يعفي هذا الشكل من التفكير من التدقيق النقدي المستمر. وحتى لو كانت النيوليبرالية تصنَّف على أنّها شكلٌ من أشكال الأيديولوجيا، فإنّ الأيديولوجيات، كما لاحظ “مايكل فريدن”، ليست أشياء بسيطة، لأنّها “تشكيلاتٌ مميزةٌ للمفاهيم السياسية” التي تعمل كـ”طرقٍ لتنظيم الواقع الاجتماعي”. [84] ولتحليل الطرق التي تنظّم بها النيوليبرالية تصوّرها الخاص عن الواقع الاجتماعي وإمكانية التعامل معه، يجب أوّلاً أن تعامَل النيوليبرالية كمشروعٍ فكريّ جدّي، وهذا يعني إيلاء اهتمامٍ مفصّلٍ ليس فقط لسياساتها، ولكن أيضاً لأُسسها المعرفية، وإلى الحلقة التي تربطهما معاً-وهو ما حاولت هذه المقالة دراسته، ولكن كغزوةٍ افتتاحيةٍ صغيرةٍ فقط في حقلٍ تاريخيٍ معقّد.
ثانياً، هذه المقالة هي دعوةٌ للعودة إلى النقد الإبستيمولوجي والسياسي للسوسيولوجيا الكلاسيكية الذي شكّل الفكر النيوليبرالي في بدايته، والذي لا يزال تخصّصاً في معظمه بحاجةٍ إلى ردود. وبالنظر إلى أنّ النيوليبرالية تعرّف نفسها في البداية من خلال الابتعاد عن المبادئ المنهجية الأساسية للنظرية الاجتماعية، فإنّ هذا قد يضع السوسيولوجيا في موضعٍ فريدٍ لفهم هذا الشكل الجديد من الاقتصاد السياسي والردّ عليه. هناك العديد من المصادر السوسيولوجية التي يمكن تجييشها لهذا الغرض، ولكن، نظراً لأنّ الإبستيمولوجيا الأوّلية للفكر النيوليبرالي ظهرت من خارج نقد السوسيولوجيا الكلاسيكية، فقد تكون هذه نقطةً واضحةً للبدء منها. وتتمثّل المهمة الأكثر إلحاحاً هنا في التشكيك في الميْل النيوليبرالي إلى رفع مكانة الوضع الاقتصادي على المستوى الاجتماعي، وإن كان الأخير يصدُق عليه الفكر النيوليبرالي باعتباره قائماً أصلاً. إحدى الطرق للمضيّ قدماً هي العودة إلى ما يُطلق عليه “فريدن” (Freeden) “المفاهيم السياسية” التي يقوم عليها المشروع النيوليبرالي وفتحها للمحاججة السوسيولوجية؛ كتمرينٍ يُمكن من خلاله الاستفادة من كتابات “فيبر” و”دوركهايم” (وغيرهم ممّن لا يمكن تغطيتهم هنا، مثل كارل بولاني)، مع أنّهما يعملان ضمن إطاراتٍ إبستيمولوجية مختلفةٍ تماماً.
ويُمكن، على سبيل المثال، استخدام كلٍّ من “فيبر” و”دوركهايم” للتفكير تاريخياً ونقدياً حول العلاقة بين الاقتصادي والاجتماعي، سواءً في الماضي أو الحاضر. “فيبر” ليس ذو فائدةٍ لأنّه فقط يذكّرنا أنّ الاجتماعي هو شيءٌ أكثر من الطبقة الاجتماعية، [85] أو ما يسمّيه “حالة السوق”، ولا يُمكن تفسير الاجتماعي ببساطةٍ من حيث الملكية، أو من حيث مجموعةٍ من القيم الاقتصادية الأساسية؛ وبسبب هذا قد “يُعيق استكمال مبدأ السوق”. [86] ويجادل “فيبر”، أنّ الاجتماعي ليس فقط حول المنافسة ولكنّه حول العلاقات التواصلية الموجّهة من خلال قيمٍ ثقافيةٍ و”أنماط الحياة”. وبهذه الشروط، التي تخرج من حدود الاقتصاد النيوكلاسيكي بطريقةٍ مختلفةٍ عن “هايك”، فإنّ السلوك الاجتماعي أكبر بكثيرٍ من أن يُختزل إلى مبدأ اقتصاديّ بهذه البساطة.
ويذكّرنا “دوركهايم”، في الوقت ذاته، وبطريقةٍ مختلفةٍ، أنّه ليست هناك أشكالٌ من التضامن الاجتماعي لا يمكن لأي فرد أن يستغني عنها فحسب، ولكنّ الأشكال الناشئة من النزعة الفردية تصحبُها أشكالٌ جديدةٌ من الترابط الاجتماعي، وأنّ النزعة الفردية – على شكل السوق -هي في حدّ ذاتها مؤسّسة. إنّ التحدي الذي تواجهه سوسيولوجيا “دوركهايم”، وما تمثله للنيوليبرالية، هو التفكير مرةً أخرى في أساس “الترابط الاجتماعي” والتضامن الاجتماعي، مثله مثل “فيبر”، إلى تصوّر الاجتماعي كشيءٍ أكثر من كونه مبدأ اقتصادياً، وكشيءٍ أكثر من مجرّد منافسةٍ في السوق. لم يكتب “دوركهايم” كثيراً، على عكس “فيبر”، عن الأسواق. ومع ذلك، ففي الكتاب الثالث من مجلّده “عن تقسيم العمل الاجتماعي”، يصف الانتقال من المجتمعات الإقطاعية ما قبل الصناعية، حيث “هناك العديد من الأسواق الاقتصادية بعدد القطاعات المختلفة”، إلى العالم الحديث “المنظّم”، حيث هناك “اندماج جميع الأسواق في سوقٍ واحدة، والتي تحتوي تقريباً كلّ المجتمع”. [87] قد نسأل اليوم عن حدود هذه العملية، أو، لنستخدم مصطلحاً “دوركهايمياً” مختلفاً: ماذا يتبقى مقدّساً في مواجهة عمليات التسليع المستمرة للمجتمع والثقافة؟ وماذا تبقى من البعد الاجتماعي في عالمٍ تبدو فيه قوى السوق مكتسحةً لكلّ شيء؟ هل هناك تعريفٌ مفاهيمي أو شكلٌ إمبريقي للبعد الاجتماعي الذي ينبغي أن يسعى علماء الاجتماع إلى (إعادة) تحريكه أو الدفاع عنه؟ هذه المخاوف تقع في صلب تقاليد السوسيولوجيا الكلاسيكية، وفي عالم ما بعد الأزمة اليوم، فإنها تتطلّب اهتماماً متجدّداً.
*****
الهوامش:
[1] Gane, (2014).
[2] Jones, (2012).
[3] Mirowski and Plewhe, (2009).
[4] Peck, (2008).
[5] Fischer, (2009); Klein, (2007).
[6] Gane, (2014).
[7] Hayek (1978[1922) pp 104–7.
[8] Mises, (1981[1922]) pp 475.
[9] مرجع سابق، ص 469.
[10] Mises, (2005[1927]), pp 44.
[11] Hayek, (1992), pp 61–107.
[12] Holton and Turner, (1989), pp 30–67.
[13] Mises (1960[1933]), pp 1.
[14] مرجع سابق، ص 13.
[15] مرجع سابق، ص 53.
[16] مرجع سابق، ص 157.
[17] مرجع سابق، ص 74.
[18] اُنظر: Weber, (1978[1922]) pp 4–22.
[19] اُنظر: Mises, (1960[1933]), pp 85–6.
[20] (1960[1933]: 80).
[21] (2008: 268).
[22] Mises, (2007[1949], pp 22.
[23] مرجع سابق، ص 2-3.
[24] مرجع سابق، ص 3.
[25] مرجع سابق، ص 232–688.
[26] لتحليلٍ سوسيولوجي لنظرية “ميزس” عن “الكتالاكسي”، اُنظر: Sayer, (1995), pp 70–4.
[27] Mises, (1949[2007]), pp 273.
[28] مرجع سابق، ص 279.
[29] Swedberg, (1998), pp 302.
[30] Hayek, (1948), pp 33–56.
[31] مرجع سابق، ص 92–106.
[32] مرجع سابق، ص 54.
[33] مرجع سابق، ص 57.
[34] Gane, (2012a, 2012b), pp 72–94.
[35] Hayek (1948), pp 110.
[36] مرجع سابق، ص 57–76.
[37] مرجع سابق، ص 69.
[38] مرجع سابق، ص 72.
[39] مرجع سابق، ص 73.
[40] Hayek (1952a), pp 21؛ وهو موقفٌ أيّدته بدورها شخصياتٌ نمساويةٌ مؤثرةٌ أخرى مثل “فريتز ماكلوب”.
[41] :للحصول على لمحةٍ مفصّلةٍ عن تأثير “كونت” على هذا العلم، اُنظر (Pickering, 1993: 588–604).
[42] Hayek, (1952a) pp 52.
[43] مرجع سابق، ص 24.
[44] D’Amico and Boettke, (2010), pp 359.
[45] Hayek, (1952a) pp 39.
[46] مرجع سابق، ص 59–60.
[47] مرجع سابق، ص141.
[48] مرجع سابق، ص 152.
[49] مرجع سابق، ص 168.
[50] مرجع سابق، ص 161.
[51] Mises, (2007[1949]), pp 72.
[52] Mises, (2006[1962]), pp 111.
[53] Mises, (2007[1949]), pp 72–3.
[54] Hayek, (1952a), pp 254–5.
[55] مرجع سابق، ص 258; 323.
[56] مرجع سابق، ص 336.
[57] مرجع سابق، ص 342.
[58] مرجع سابق، ص 348.
[59] Pickering, (1993), pp 624–31.
[60] مرجع سابق، ص 349.
[61] Hayek, (1952a), pp 329.
[62] مرجع سابق، ص 352–3.
[63] مرجع سابق، ص 354.
[64] Mises, (2005[1927]), pp 47–51.
[65] Mises, (1981[1922]), pp 259–61.
[66] Durkheim, (1984), pp 23.
[67] Mises, 1981[1922]), pp 260.
[68] مرجع سابق، ص 260.
[69] Mises, (2005[1957]), pp 127–8.
[70] Hayek, (2013), pp 271.
[71] مرجع سابق، ص 499; 2013: 527.
[72] مرجع سابق، ص 499; 527.
[73] Durkheim (1984), pp 173.
[74] Mises, (2005[1957]), pp 161.
[75] E.g: Burgin, (2012); Foucault, (2008); Stedman Jones, (2012).
[76] Hayek, (1988), pp 114–17.
[77] :لعرضٍ تفصيلي اُنظر Burgin, (2012), pp 152–213.
[78] Friedman, (1953), pp 4.
[79] مرجع سابق، ص 7.
[80] :عن تحوّلات التركيز الفكريّ لجمعية “مونت بيليرن” تحت قيادته، اُنظر *Burgin,( 2012), pp 123–51.
[81] Weber (2002 [1894], pp 305.
[82] Fischer, (2009).
[83] Laclau and Mouffe, (1985).
[84] Freedn, (1996) pp 3.
[85] Gane, (2005).
[86] Weber, (1978[1922]), pp 930.
[87] Durkheim , (1984). pp 305.
المراجع:
Burgin A (2012) The Great Persuasion. Cambridge, MA: Harvard University Press.
D’Amico D and Boettke P (2010) Making sense out of The Sensory Order. Advances in Austrian Economics 13: 357–81.
Durkheim E (1984) The Division of Labour in Society. Basingstoke: Macmillan.
Fischer K (2009) The influence of neoliberals in Chile before, during, and after Pinochet. In: Mirowski P and Plehwe D (eds) The Road From Mont Pèlerin. Cambridge, MA: Harvard University Press.
Foucault M (2008) The Birth of Biopolitics. Basingstoke: Palgrave.
Freeden M (1996) Ideologies and Political Theory: A Conceptual Approach. Oxford: Clarendon.
Friedman M (1953) Essays in Positive Economics. Chicago, IL: University of Chicago Press.
Gane N (2005) Max Weber as social theorist: ‘Class, status, party’. European Journal of Social Theory 8(2): 211–26.
Gane N (2012a) The governmentalities of neoliberalism: Panopticism, post-panopticism and beyond. Sociological Review 60(4): 611–34.
Gane N (2012b) Max Weber and Contemporary Capitalism. Basingstoke: Palgrave.
Gane N (2014) The emergence of neoliberalism: Thinking through and beyond Michel Foucault’s lectures on biopolitics. Theory, Culture and Society.
Hayek F (1948) Individualism and Economic Order. Chicago, IL: University of Chicago Press.
Hayek F (1952a) The Counter-Revolution of Science. Indianapolis, IN: Liberty Fund.
Hayek F (1952b) The Sensory Order. Chicago, IL: University of Chicago Press.
Hayek F (1960) The Constitution of Liberty. London: Routledge.
Hayek F (1988) The Fatal Conceit: The Errors of Socialism. London: Routledge.
Hayek F (1992) The Fortunes of Liberalism. Chicago, IL: University of Chicago Press.
Hayek F (2013) Law, Legislation and Liberty. London: Routledge.
Holton R and Turner B (1989) Max Weber on Economy and Society. London: Routledge.