المقالات

الدين بين حَدّيات المبنى ومَدّيات المعنى

الإسلام روح وجسد، نواة وقشرة، فلا تتم صورته الكاملة إلا بهما معا، إنما البقاء والدوام للروح والنواة التي تشكل الحياة الثابتة، بينما الجسد والقشرة يتعرضان للتغيير والتطور لأجل تجديد هذه الحياة وضمان شروطها المطلوبة.

وإشكالية المعنى والمبنى في التفكير الإسلامي ينبغي أن تجري على هذا المنوال، فالأولوية لبحث المعاني في الدين والتعويل عليها في معرفة قوته وطواعيته للاستمرار، أما القوالب والمباني فهي ليست في مستوى هذه المعاني، فمع أنها وسائل تأخذ حكم المقاصد، فإن تبعيتها لها ينبغي أن تجعلها في المقام الثاني عند التعارض.

سياق هذا الكلام يندرج في إطار الحجاج المتعلق بإمكانية فتح مساحات واسعة من التجديد في الدين، في ظل التحولات التي تطرأ على الإنسان والعمران والوجود، ووفاء للرسالة الخالدة لهذا الدين في تفاعله مع محيطه، من خلال الإجابات التي يقدمها للأسئلة التي تعن للأفراد والجماعات، بل وللإنسانية في تاريخها الطويل.

لكن كيف يتم تحقيق هذه الرؤية من خلال جدلية اللغة والدين، بالارتباط مع إشكالية المعنى والمبنى، للخروج من أزمة القراءة النمطية والتاريخية للدين والدخول في القراءة بالضمائم المعرفية، التي تتجاوز حدود اللغة وتنفتح على ممكنات العصر؟

اللغة بين التقديس والتدوين

يعُد صاعد بن أحمد التغلبي الأندلسي (ت 462) في كتابه “طبقات الأمم” العرب ضمن أمم العالم الكبرى الثمان، ويرجع ذكرهم ضمنها إلى اشتهارهم بصنف ما في العلوم والفنون وإسهامهم في رفد الحضارة الإنسانية بخدمة جليلة أحدثت تقدما في مسيرتها.

ويستند الكثير من العرب في حجاجهم ودفاعهم عن اللغة العربية أمام خصومهم غير العرب بكون لغتهم لغة السماء، ما يجعل منها لغة مقدسة، وتقديسها قادم من قداسة الرسالة التي أنيطت بتبليغها، ويحتدم الدفاع عن هذه اللغة ليس أمام الأمم الغربية التي تعتنق ديانات غير إسلامية، بل يقع هذا الدفاع عند الخصام مع الروافد غير العربية التي تعتنق الإسلام أو مع العرب المسيحيين.

وقد يذهب بعضهم إلى القول بأن العربية هي لغة أهل الجنة، وبعضهم يقول بأن حفظ القرآن من حفظ لغته العربية، الناقل الأمين لمضمونه معنى ولفظا، بحسب الارتباط الوثيق بين التعبير والدلالة في الوحي، مع أن الفرق واضح بين التعبير باللغة العربية، وبين ما يشر إليه القرآن نفسه من استعمال “اللسان العربي المبين”، فاللغة ليست هي اللسان، والإبانة التي أضيفت إلى اللسان قيمة خاصة بالقرآن نفسه، لأنه هو الذي أضفاها على اللسان وارتقى بفضلها إلى مستوى العالمية والإعجاز حتى لعباقرة العربية ومنكري الرسالة أو مدعيها، وأفهم من الإبانة أنها جملة من الخصائص الفريدة التي احتواها القرآن، حتى استطاع لمّ شتات تعابير القبائل العربية وقد يخرج عن تركيبتها ويحملها معان جديدة، ثم أضاف إليها لغات أخرى غير عربية وأدخلها في تركيبته الخاصة، بما يدل على هيمنته وقدرته على التكيف والاستيعاب.

ومادامت العربية مرتبطة بالنص القرآني بالأساس، لأن الحديث النبوي هو كذلك مروي ومكتوب باللغة العربية، فإن هذه اللغة تحمل معها دائما طاقة محفزة تضفي عليها الإجلال والإكبار، وفي الوقت نفسه تمنع عنها التغيير والتطور والتكييف مع تحديات ومجريات الواقع.

أمام هذا التبجيل المبالغ فيه للعربية لدى حامليها، ينهض مشكل عويص يتعلق بمدى قدرة العرب على تطويرها ومزامنتها مع التطورات الهائلة في زمن التكنولوجيا وانفجار المعرفة، حيث تتدفق باستمرار قضايا لغوية ومعرفية جديدة، تحتاج إلى عقل لغوي ومعرفي لمواجهتها، من حيث إيجاد البدائل اللغوية للمستجدات في حقول المعرفة المتعددة، والقدرة على إنتاج المعرفة الجيدة بلسان العرب، وتقريب المحصلات المعرفية في المشترك الإنساني إلى العربية.

وينتفض سؤال آخر متعلق بمدى كفاية اللفظ العربي وحده في فهم النصوص الدينية، دون توظيف المناهج المعاصرة في اللغة واللسانيات وتحليل النصوص وفهم السياقات المرتبطة بالنص.

انطلاقا من كون الوحي مَعين للمعاني المتعددة والممتدة في الزمان والمكان، ولا تحدها القوالب اللغوية والسياقية الظرفية، وإلا بقي النص الديني نصا تاريخيا ووثيقة محسوبة على الماضي، وليس في مستطاعها الحركة نحو المستقبل واستشراف مكنوناته.

لقد جاء القرآن في أحضان أمة لغوية بامتياز تجل الشعر وتعتبره ديوانها، واعتبر القرآن معجزة النبي الأولى في مواجهة واقع يشهد صراعات حضارية وثقافية كبيرة، ومع ذلك استطاع هذا الكتاب ترويض العقول وإعادة صياغتها ضمن محدداته الخاصة، بعيدا عن تقاليد العرب القدامى في الاستعمال، انطلاقا من منهج التصديق والهيمنة على تراث العرب في التداول المعرفي واللغوي.

ولما دوَّن العرب علومهم في مجال الدين واللغة، حاولوا في ذلك صيانة علومهم من الضياع أمام توسع فتوحاتهم وكثرة أجناس أمتهم، مع ما شهده الاستعمال اللغوي من اضمحلال مع ظهور اللحن وغير ذلك.

فقعّد أئمة اللغة قوانين للغة وكيفية توظيفها بناء على ما جرى به الاستعمال خلال عهد النبوة ولحظة العصر الراشدي، إيمانا منهم بالارتباط الوثيق بين علوم اللغة وعلوم الشريعة من صلات وعلائق في التفسير والبيان.

فظهرت علوم النحو وغريب اللغة والمعاجم والإعراب وغيرها من فنون اللغة العربية، وكان الغرض هو حسن فهم القرآن والحديث النبوي، لرفع الالتباسات الواقعة فيهما، وإزالة التعارض في الأفهام، ومحاولة الارتقاء بالفهم في تفسير نص عُلوي ومعجز في لفظه ومقصوده.

وقد استثمرت هذه العلوم في كتب التفاسير وعلوم القرآن، وكذا في شرح الحديث ومتون السنة كالصحاح والسنن والمسانيد وغيرها، وقد ساهمت هذه الإنجازات في تقوية الصلة بالوحي وتجويد الفهم عنه وفقا للسياق الزمني حينئذ، لأن العالم في ذلك الوقت لم يشهد طفرة المعارف التي حصلت في المنجز العلمي الحديث والمعاصر.

الوحي ليس ظاهرة لغوية وحسب

لم يكن سقف التأويل للقرآن يتجاوز حدود اللغة العربية في ارتباطها بحدود الاستعمال الظرفي، فظهرت التفاسير مليئة بالتنظير اللغوي في تقريب لغة القرآن وتحديد معانيه، وأثقلت هذه المصنفات بتفسير الأحكام أساسا، ولم يتم الاهتمام أكثر بالقَصص القرآني وتاريخ الأمم وتجاربها مثلا، أما الآيات المتعلقة بالظواهر الكونية والمجال العلمي المحض فكان التعامل معه في حدود ما تتيحه اللغة، أو ما جاء فيه من أثر نبوي أو غيره.

وظهر نوع من التفسير المرتبط بالحروف والآيات على حدة، وكأنها قطع مستقلة عن بعضها بعضا، في غياب رؤية كلية للآيات والسور، وفي غياب فهم هذه الآيات ضمن نسق كلي يرتبط برسالة الإسلام وفهم مقاصد البعثة، فتغولت قراءة العِضِين وأهملت القراءة التي تنظر في السنن التشريعية إلى جانب السنن الكونية.

ثم وضع النص القرآني في سياق ضيق مرتبط بزمن التنزيل وحيثياته الظرفية، دون إدراك للمعاني المستقبلية التي يستشرفها القرآن، مع أنه خطاب إلى الناس وليس إلى العرب أو جماعة المؤمنين الأُول، وهكذا كُبحت جوامح الامتداد فيه وصودرت فيه خاصية الاكتناز، مع إيمانهم بقولهم: “العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب”.

فالسبب لئِن كان عنصرا في فهم سياق التنزيل، فهو لا يلغي طواعية النص في اكتساب الصلاحية في مواضع أخرى وفق ما يتيحه عموم اللفظ، وما تقتضيه المصلحة في كل زمان ومكان وتغير في الأحوال والعوائد والنيات.

فمعطيات لحظة التنزيل هي حيثيات معرضة للتبديل والتطور، مما يقتضي تطورا ملازما في الفهم والوعي، فأسباب النزول حين تزاحمها أسباب أخرى تتعلق بتغير المناط وتحول في حال الواقع والمكلفين، حينها تفرض الظروف الجديدة تكييفا جديدا للنص في علاقته مع الواقع تأثيرا وتأثرا.

فجدلية النص والواقع، أو الأصل مع العصر، حالة لا تتوقف عن توليد صورها وأشكالها في سيرورة الزمن، ويَنظم هذه العلاقة المصلحة التي يبتغيها الدين في وضع الخلائق في موضع الصلاح والفلاح في الدارين، وهذه المصلحة تُستخلص بتوظيف آليات البحث والاجتهاد في النص والواقع معا، لأنها صفة وعلة تحتاج إما إلى تنقيح حين تشوبها مصالح أخرى شبيهة، أو إلى تحقيق حين تخفى على الأنظار وجوهها المخصوصة.

والقرآن قد سلك في تثبيت الأحكام منهجا فريدا، بحيث دائما ترِد الأحكام التكليفية مصحوبة بعللها وآدابها ومقاصدها، فتجدُ في نهاية الحُكم عبارات من مثل: لعلهم يفقهون، ولكم في…، ولعلهم يرشدون، إلخ…

ولعل ما يفسر هذا التوجه هو أن إرداف الأحكام بعللها من شأنه أن تكون قريبة للأفهام بل إلى الامتثال، ولذلك نجد أن أصول العبادات بل إن أركان الإسلام كلها معللة بحِكم تلازمها، لكي يفهم منها المكلف أنها ليست فقط تكاليفا للامتثال، بل لأنها تحقق غايات في الحياة الدنيا والآخرة.

وهكذا تم ربط إقامة الصلاة بكونها تنهى عن الفحشاء والمنكر، أما الزكاة فإيتاؤها سبيل إلى طهارة النفوس، وجعلت التقوى غاية من تشريع الصيام، بينما الحج موضوع للخلائق لكي يشهدوا فيه منافعهم.

فإذا جرى تعليل أصول العبادات والشريعة، فهل يبقى لنفاة التعليل حجة بعد هذا المنهج؟ وهو ما يدفع إلى مزيد من البحث عن غايات التشريعات في تفاصيلها وآحادها، بغية توضيح مرامي الشرع في أوامره ونواهيه، ولكي يكون الناس على بينة في تدينهم بالارتباط مع ما يَعِن لهم من نوازل وأقضية.

وإذا كان شيخ المقاصد أبو إسحاق الشاطبي قد اشترط للمجتهد في الشريعة أمرين هما: معرفة أسرارها، ثم معرفة اللغة العربية حد الكفاية، فإن ضمور الشطر الأول من هذه القاعدة قد أسهم في شلل الدرس الفقهي لقرون عدة، حيث دخل منطقة التقليد ولم يخرج منها، بفعل كثرة الانشغال بالشروح والمختصرات والمعتصرات والحواشي والمنظومات.

وكل ذلك راجع إلى تغليب المبنى وإيلاء العبارة واللغة العناية الكبرى، دون الالتفات إلى الغايات والمقاصد، بالارتباط بالأصول المرجعية ومراعاة سياقات تأليف المدونات الفقهية، ثم بذل الجهد في فتق المعاني من الوحي والواقع معا، دون الانغلاق على التراث والتاريخ.

فإذا كانت مرحلة تنزل الوحي خلال 23 سنة وفي إطار حيز جغرافي معين قد شهدت تحولات عدة، بحيث عرفت حركية في التشريع والتفاعل مع الواقع، في حوار جدلي مثمر، ألا يدفع هذا الأمر إلى الاقتناع بضرورة ممارسة التجديد في الوعي، وبناء علاقة ندية لا ضدية بين الأصل والعصر، بحيث يضطلع الدين بأدوار طلائعية في تحقيق المصلحة البشرية، بينما ينهض الواقع سبيلا إلى تنمية المدارك العلمية والعملية في تأهيل الحقل الديني وعيا وممارسة.

ومن شأن هذا المسلك أن تكون الشريعة معقولة في معانيها ومُيسرة إلى حسن فهم طبيعتها، لأنها شريعة قيم ومبادئ كبرى ترمي إلى تحقيقها وتحصيلها في الأنفس والعلائق والوجود، فمن خلالها يمكن إدراك كلياتها وأصولها تمييزا لها عن فروعها، والفصل بين الثابت منها والمتغير، وتوسيع مدارك الاجتهاد فيما يسع الاجتهاد فيه، وبالخصوص فيما يتعلق بمنطقة العفو، حيث تنشط المصلحة المرسلة في تعزيز النظر العقلي فيما يجدّ من القضايا.

ومن هذه الزاوية ستنفتح آفاق جديدة في العمل الديني تنظيرا وممارسة، حيث ستظهر المباحث الفلسفية في نواحيه التي غيبت زمنا طويلا، وستنتعش قراءة إناسية للوجود في علائقه الجدلية بين الإنسان والغيب والطبيعة، حيث لا استلاب فيها للقراءة الميتافيزيقية ولا للتفسير المادي، فيتفاعل المقتضى الغيبي مع المعتبر الطبيعي عبر توسطات بشرية، فتقوم الحياة على نهج سوي وعادل بقراءة واعية في الكتاب المسطور والكتاب المفتوح (الوحي والواقع)، مما ينجم عنه من استحثاث على الاجتهاد والإبداع والنظر في كل ما يجلب للإنسان سعادته ويرفع عنه ضنك العيش، ويساهم في تخليق وتجويد العيش المشترك بين الأمم، حيث يتموضع العالم الإسلامي في حوار وجوار مع العوالم الأخرى، قائم على قيم العدالة والحرية والتضامن بدل الاستكبار والقطيعة والصدام.

العربي إدناصر

باحث وإعلامي مغربي، حاصل على الدكتوراه من كلية الشريعة، له العديد من الدراسات والمقالات والمشاركات العلمية المنشورة داخل المغرب وخارجه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى