المقالات

النظرة إلى العالم Worldview

مفهوم “النظرة إلى العالم worldview”[1] أو لفظها الألماني “Weltanschauung”؛ مفهوم شموليّ، يروم وصف العالم -أو الحياة- كما هو، وما الذي ينبغي أن يكون عليه؛ وفق معتقدات، وبنية مفاهيمية؛ مرتكزها المفاهيم الاعتقاديّة، بحسب كل دين، أو فلسفة، أو نسقٍ فكريّ. وهو الخيط الناظم للرؤية الوجوديّة، والمعرفيّة، والجمالية، والخُلقيّة… في زمن من الأزمنة، ومكان من الأمكنة (وهذه صارت مما يعتد به في البحوث النوعيّة المعاصرة Qualitative Research). وقد استند الوصف الغربي في مجملة على المركزية الإنسانيّة، وما يداخلها من تغيّر، ومحايثة، وإنتاجيّة، وانقطاعات بحسب الأزمنة والأمكنة… وما يرتبط بكل نظرية إنسانية من صفات، تقيّدها بوجودها الواقعيّ[2].

        وعلى الضد من هذه النظرة الشمولية المتغيّرة، المحايثة، المُنتجَة… يبيّن “سيد نقيب العطاس” (الفيلسوف الماليزي المعاصر) رؤيته الإسلاميّة لـ “النظرة إلى العالم”، التي أعاد ترجمتها بـ “رؤية الإسلام للكون”؛ فقد ناقشها مناقشة نقد، وتحليل، وتقديم البديل، وتبيين مواضع الإخلال المعرفي، والفلسفيّ، في كتابه “مقدمات لميتافيزيقيا الإسلام Prolegomena To The Metaphysics of Islam[3]. وبـ الدلالة اللفظية والمعنويّة؛ انطلق ناقداً ترجمة مصطلح “Worldview” إلى “النظرة إلى العالم“، إذ “نظر” دال على الاستدلال النظري، وفق طرائق عالم المرئيات، في حين أن الرؤية الإسلامية ليست مجرّد “نظرة ذهنية” للعالم المرئي، أو التاريخ، أو الوجود الإنسانيّ بكل أبعاده. فالتعبير بـ “نظرة الإسلام إلى الكون” غير موفّق؛ للفظ “النظرة”، المنحصر في عالم المرئيات (المنظورات)، في حين الرؤية الإسلامية لا تؤسَّس على تكهنات وفق عالم المنظورات؛ ليُستعمل لها لفظ “النظرة”، وما اتصل به من “نظر”، وأدواته الفلسفية التجريدية، وإنما هي دلالات عقدية مأخوذة من الوحي الإلهيّ، لا نظر عقليّ فلسفيّ. وقد عزى خلل هذه الترجمة في العبارة العربية إلى التأثر بالرؤية العلمانية المعاصرة، التي وقعت في فخ رفع التاريخ الأوروبي، ليصير مقياس المعرفة، والعقل، والطبيعة، ومن ثم مركزية رؤيتهم الكونية لكل الأمم والثقافات، رغم اختلاف منطلقاتهم العقدية، وتجلياتها التاريخية في التاريخ. وهذا قد أدى لمشكلات جمّة، ومردّها إلى “فساد المعرفة” (وسيأتي تبيينها في المقال القادم).

        والأقرب ترجمتها لـ “الرؤية الإسلامية للعالم“، أو “رؤية الإسلام للكون“. وقد انطلق في نقده من الكتاب والسنة، وفق مؤسِّسات معنوية عامّة -كما ذكرها-، منها:

  1. نبذ الفصل بين عالمي الغيب والشهادة: إذ لا اعتداد بثنائية “مقدّس” و”مدنّس”، فالإسلام ليس أسير النظرة الانشطارية الثنائية بين “مقدس” و”مدنس”؛ بل الدنيا وجه يرتبط بالآخرة ارتباطاً عميقاً، وغير قابل للانفصال، فالدنيا أول الآخرة بحسب الوجهة، أو شرط تأهيل لها، فالدنيا وجه تأهيلي للآخرة. والفرق المُعتد به هو فرق الزمن والبعد، من “غيب” و”شهادة”، لا “مدنس” و”مقدّس”. كما أن التركيز على الآخرة هو المُنهضُ للعمل الدنيوي في الإسلام.
  2. نبذ الاكتفاء بالعالم الواقعيّ: وإن كان هذا النبذ ظاهراً في الإسلام، غير أن الترجمة العربية لكلمة “واقعي” أحدثت مشكلة، إذ تُرجمت “الواقعية” بـ “الحقيقة”، في مفارقة بين مستويين وجوديين، فالواقعية كما ترجمت “Reality” ليست هي الحقيقة؛ إذ الواقعية تشير للوقائع (الأحداث)، وهي وجه من وجوه “الحقيقة”، لا كل الحقيقة. كما يشير لفظ “الواقعيّة” إلى أشياء خاطئة، فهو لفظ لا معياريّ، بل وصفي إخباريّ، في حين “الحقيقة” لفظ معياريّ. فالمقابلة بين الحقيقة والواقع كالمقابلة بين الواجب والواقع؛ إذ الحقيقة متعالية، متجاوزة، سابقة، شاملة للكون والوجود. فلا يصح ترجمة الواقعية بالحقيقة؛ إذ توهم الترجمة بالجمع بين العالمين، وعدم الاكتفاء بالعالم المادي، في حين أصلها دال على الاكتفاء به؛ وفق رؤية العلوم الغربيّة.

 وبعد نقد الدلالة اللفظية، والمؤسِّسات المعنوية، والأيديولوجيّة؛ انطلق لتبيين “رؤية الإسلام للحقيقة والوجود”، وفي هذا تقابل بين الواجب والواقع، فالحقيقة معيار، والوجود وصف. وهذه الرؤية ميتافيزيقية (بمعنى متجاوزة)، تخدم العالمين المرئي وغير المرئي، فهي رؤية لكل الحياة. كما أنها رؤية لا تخضع للرؤية الغربية التي ترى الـ “Worldview” متغيرة بحسب الظروف المغيّرة للبرادايم. أمّا مصدر هذه الرؤية فليس الاتساق والانتظام وفق رؤية فلسفية أو علميّة أو منطقية، بل مصدرها “الواجب” و”الفطرة”، إضافة للوحي كما تقدّم. ومن صفاتها: التعالي، التجاوز، الأسبقيّة، الشمول… وذلك كله تحت مبدأ “التوحيد”.

وتتجلى أهم خصائص هذه الرؤية في التاريخ الإسلامي وهي: “الاستمراريّة” لا “الانقطاعية” (أو القطيعة المعرفيّة) في المعرفة، رغم اختلاف التيارات والفرق الإسلاميّة، كذا “الاستمرارية” في صلة عالم الغيب بعالم الشهادة، والآخرة بعد الدنيا. فهذه المؤسسات العقدية الكبرى وحَّدت “الرؤية الإسلامية” عبر تجلياتها التاريخية الممتدة. وعنصر “الثبات” وما يلزمه من “استمرار”؛ من ثمرات مبدأ “التوحيد” في الإسلام، فهو من مميزات “الرؤية الإسلامية للكون”، ومن ثم ارتفاعها عن “التاريخيّ”؛ إلا في تجليته لارتباطه بها. فالرؤية الإسلامية ثابتة، مستمرة معرفياً بلا انقطاعات، وكونياً بلا انفصالات، وإنسانياً بلا فصل بين الروح والبدن. والذي يدخل الاضطراب على الرؤية الغربية هو الانقطاع، والانفصال، والفصل؛ في حين العنصر الإسلامي الأرفع “الثبات”، هو الذي يمنحها تجربة تاريخية ممتدة، أُمتحنت فيها، وأنتجت، وتولّدت المعارف في ظلّها، باقية على استمراريتها.

ويمضي العطّاس مبيّناً أن مرتكز مبادئ الرؤية الإسلاميّة للكون هو “التوحيد”، وبالتوحيد قد بيّن موضع الإنسان في هذا الكون، وأهم المبادئ المتفرّعة، وفق “علاقة الخالق بالمخلوق”؛ إذ من الوحي يعرف الإنسان خالقه سبحانه، وعلاقته به، ويتعرّف على منظومة الخَلق، وعلاقة الخَلق ببعضهم. ولعلّ أهم ما لفت إليه هنا، هو: أن أجلّ دلالات المباينة بين الله سبحانه وتعالى والإنسان هي: “الخالقيّة”، فلا اشتراك في الخالقيّة أبداً، وهذا الأمر يُخرج من إشكاليات جمّة في “علم الكلام الإسلاميّ”، مثل الصفات المقيّدة في حق الإنسان، كـ: “الرحمة”، و”الغنى”، و”القدرة”… فالإنسان مخلوق أبداً، لا حظ له في الخَلق؛ إلا على سبيل المجاز.

وقد شمل التعرّف إلى الخالق سبحانه تعريف الإنسان بـ “الرب” المتعالي، الخالق، المربي للإنسان، والحافظ، والمقدّر للكون، مقابل المخلوق المحدود؛ الكلّ على مولاه. ثم تعريفه بـ “الإله” وفق توحيد الألوهية من خلال الرسل عليهم السلام. وبيّن أن “المعرفة الغيبيّة” هنا هي أوّل ما حمله الإنسان؛ معرفة ربه سبحانه، فأصل المعرفة “الروح”، وهي أشرف ما يشّرف به الإنسان ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي. وقد نزل الإنسان بهذا الأصل المعرفي الشامل، غير المفرق بين غيب وشهادة، ومقدس ومدنس.

وجمع العطاس بين الممارسات العملية للمعرفة والنظريّة، في لفظ “الأدب”؛ ومفهومه: إدراك كل شيء في موضعه في النظام القرآني للكون والحياة. فالمعرفة في أصلها معنوية من الروح، و”الأدب” انعكاس لـ “الحكمة” في “المعرفة”، وانعكاس لـ “العدل” في المعاملات. فمجمل دلالة الأدب “وضع كل شيء في موضعه وفق النظام القرآنيّ”، وعند الإخلال بهذا الوضع يحصل الفساد؛ إنْ في جانب “الحكمة” أو في جانب “العدل”. وعند فساد “المعرفة” تفسد “الرؤية الكونيّة”، ومن ثمّ كل المعارف التي تستند إليها، فلا بدّ أن يلحقها نصيبها من الفساد. وأزمة العالم المعاصر هي “فساد المعرفة”، الذي فَصَلَ المعرفة عن الأدب، أي فصل الروح عن العلم، وهذا الفصل يفضي لوضع كل شيء في غير موضعه، خلاف الحكمة.

ومدخل فساد المعرفة “Corruption of knowledge” هو “اللغة”؛ إذ هي المدخل الوجودي لإبراز واستضافة “الرؤية إلى الكون”، في نظام الفكر للناطقين بها. وإذا حدث الانفصال اللغوي، ونُقلت الألفاظ المترجمة دون النظر في بنية أصلها الفلسفي؛ فإن نظام الفكر يختل، فالمعرفة التي لا تتوخى الحذر في التعبير اللغويّ ستأتي برؤية تتضارب مع التمثيلات اللغوية، ودلالتها للرؤية الكونية الأصلية، لأن “اللغة تعكس الوجود”. ومشكلة الاضطراب في الرؤية الكونية الإسلامية عند المعاصرين، سببها الفساد اللغوي، وذلك عند عدم التدقيق في المصطلحات والمفاهيم المنقولة.

ومن هذا الاضطراب: إشكالية ترجمة: “العلمانية”، و”العلم”، و”الفضائل”، و”الحرية”، و”السعادة”.

وهذه المفاهيم التي اختارها العطّاس، قد التفت لها عدد من الباحثين، وناقشوها مناقشة جيّدة، تفضي للقول بإشكالية “المفاهيم” في حقل “المفاهيم المترجمة”؛ والتي هيمنت على جلّ الكتب العلميّة، في المجالين التطبيقي والإنسانيّ، فضلا عن دخولها للمجالات العلمية الإسلامية الأصيلة، من العلوم الشرعية والعربية.

وعند التدقيق، فمصادر العطّاس الفلسفيّة يتخللها تأثر كبير بالموروث الإغريقي، في مخالطته للتراث الإسلاميّ، بعد التداخل المعرفي عند تدوين وبلورة العلوم، ومن ثمّ فرؤية العطّاس لنظرة الكون الإسلاميّة تؤخذ في أصلها من القرآن والسنة، لكن عبر قنوات فهم التراث، وتأثره الواضح بالغزالي -رحمه الله-. ومن ثمّ فالإشكالية في الترجمة المعاصرة لا تعالج بإشكالية من الترجمة المتقدّمة، بل بالاستعمالات القرآنيّة الأولى لدلالات تلك الألفاظ، والاستئناس بالاستعمالات الإسلامية اللاحقة لا بعدّها المعيار، وإنما أحد تجليات فهم الاستعمالات القرآنيّة.

وفي المقال القادم تبيين لبعض المفاهيم المُشكلة وفق الترجمة المعاصرة، والترجمة السابقة، فيما بعد القرن الثالث الهجري.


[1] أثبتُ ترجمة “النظرة إلى العالم” في العنوان لشيوعها، ولإرادة النفاذ من خلال هذا الشيوع.

[2] انظر: سمير أبو زيد، العلم والنظرة العربية إلى العالم، القسم الأوّل.وسعد القريني، البحث النوعيّ: الإستراتيجيات وتحليل البيانات، الفصل الأوّل: مقدّمة عن البحوث النوعيّة.

[3] كل ما سيأتي من أفكار وتحليلات هي من كتاب سيد نقيب العطاس المذكور، وما تخلل ذلك من إضافات الباحثة فمن فهمها. انظر: Syed Muhammad Naquib Al-Attas, Prolegomena to the Metaphysics of Islām, Introduction.

سوسن العتيبي

باحثة من المملكة العربية السعودية -دكتوراه عن أطروحة "مفهوم الإنسان عند طه عبد الرحمن وأثره في تجديد علم الكلام"، من أصول الدين ومقارنة الأديان، الجامعة الإسلامية بماليزيا. -ماجستير ثقافة إسلامية، من كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود، الرياض -بكالوريس أصول الدين، من جامعة الإمام محمد بن سعود، الرياض. -نشرت عددا من المراجعات والبحوث في مجال العلوم الشرعيّة والإنسانية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى