الكراهية ليست طارئة
“أكرهك”! ليست المرة الأولى التي أتلقى فيها أمثالَ هذه الكلمة المؤذية في رسائل على الخاص. طالما أتت الرسائلُ من حسابات شبحية، يعمل المرسلُ حضرًا بعد إرسال هذا الكلام الجارح، لئلا أتعرّف عليه. في الحياة من الشرّ أكثر من الخير، ومن الكراهية أكثر من المحبّة. علّمتني جروحُ الحياة أن الإنسانَ يحتاج الكراهيةَ كما يحتاج المحبّة، وربما يحتاج الكراهيةَ أشدّ من المحبّة أحيانًا. الطبيعة الإنسانية ملتقى الأضداد، هناك حاجةٌ دفينة للكراهية في النفس كحاجتها للمحبة.
مَن يريدُ أن يعرفَ شيئًا عن الحضور المخيف للكراهية والشرّ في الأرض عليه أن يراجعَ أرشيفاتِ الاسترقاق للأفراد والمجتمعات في الماضي والحاضر، ويقرأ تاريخَ الاستبداد والاستعباد الذي مارسه ومازال يمارسه الحكّامُ الطغاة، وانتهاكَهم لكرامة الإنسان وترويعَه في السجون الكئيبة والزنزانات المرعبة، وينظر في جرائم الاستعمار والاحتلال الشنيعة أمس واليوم لمختلف بلدان العالم، ويرى المجازرَ في غزة والأرض المحتلة.
شخصيةُ الإنسان مركبةٌ مكوّنة من طبقات. الإنسان كائنٌ لا يمكن اختزالُ دوافع سلوكه بعاملٍ واحد. رأيتُ شيئًا من تعقيد شخصية الإنسان في مواقفِ الصعاليك وغرابةِ سلوكهم، إذ كنتُ ألتقط الصعاليكَ في مرحلة الشباب من حياتي وأتحمل تطفلَهم وعبثَهم وفوضويتَهم، وأتولى تأمينَ احتياجاتهم المتنوعة والمتواصلة، لم يبادر أحدٌ منهم بالشكر، كانوا يشعرون بأن ما أقدّمه لهم حقُّهم عليّ وعلى غيري، لذلك لا يتطلب منهم الإعرابَ عن الامتنان والتقدير.كنتُ أندهش مما يمتلكون من تهورٍ ووقاحةٍ في التعبير عن كثيرٍ من التناقضات المكبوتة لدى الإنسان. حاولتُ الابتعادَ عنهم منذ ثلاثين عامًا، لحظة صرتُ لا أطيق مَن يعشق دورَ الضحية في الحياة، والصعلوك أبرع مَن يمثّل هذا الدور، ويتفنّن في إخراجه بأساليب ذكية ووسائل مختلفة.
السلطةُ والشغفُ بالتسلّط والتملّك من أعمق الدوافع العدوانية للإنسان، حتى الصعلوكُ ينشدُ بمواقفه وسلوكه التسلّطَ عليك وتطويعَك لخدمته مجانًا، فيستعمل بمهارةٍ فائقة وبطريقته الخاصة كلماتِه، وتعبيراتِ وجهه ولغةَ جسده، ولباسَه، وبؤسَ مأواه، وغير ذلك؛ لتنقاد إليه وتلبي رغباتِه وطلباتَه بحماس، وتصبر على مواقفه الغرائبية مهما تمادتْ في خروجها على الذوق العام والأعراف والتقاليد والقيم والأخلاق. أكثرُ الكراهيات تنشأ من الشغفِ بالتسلّط على الغير وإخضاعِه، والاستئثار بالمال والثروة والسلطة، وهو سلوكٌ يمارسه الإنسانُ بحدود الفضاء الذي يعيشُ فيه ويمارسُ حضورَه وتأثيره. الأبُ يمارسه في العائلة الأبوية، والأمُ تمارسه في العائلة عندما يضعف دورُ الأب أو يختفي بالموت وغيره، المعلّمُ يمارسه مع تلامذته، الرئيسُ في المؤسسات الإدارية ومؤسسات السلطة، حتى الشرطيُ يمارسه في حدود ما تسمح له سلطُته.كلُّ إنسان يفعلُ ذلك بحدود طاقته، وحسبما هو متاح له من وسائل تمكّنه من ذلك، وحين يعجزُ الغيرُ عن المقاومة والدفاع عن النفس. ليس بالضرورة أن يلجأ الإنسانُ المتسلّط لتوظيف وسائل عنيفة أو مثيرة أو مباشرة بغية بلوغ هدفه، المتسلّطُ يستثمرُ القيمَ السائدة في العائلة والقبيلة والمجتمع،كما يستثمرُ العلاقاتِ المختلفة ويوجّهها في سياقٍ يكرّس سلطتَه، ويعملُ على استعمال اللغة وتغذيتها باستمرار بدلالاتٍ تنتج التسلّطَ وتمهّد للاستعباد.
الإنسان غير الروبوت، ليس هناك قواعد ميكانيكية أو معادلات رياضية صارمة تتحكم بالإنسان، الإنسان الذي يكون كالروبوت في كلِّ أقواله وسلوكه ومواقفه ليس طبيعيًا. التناقض في الآراء والمواقف حالةٌ بشرية لا يكاد يسلم منها كليًا إنسان. التناقض البغيض هو أن يقول الإنسان الشيءَ ونفيَه في موضوعٍ واحد ووقتٍ واحد. هذا التناقض ينتجه أحيانا الإشفاقُ والمداراةُ والرفقُ بالآخرين، وأحيانا ينتجه الخوفُ من إعلان المواقف الصريحة، وأحيانا تنتجه مصالحُ عاجلة، وأحيانا عقدٌ نفسية كامنة في اللاشعور منذ الطفولة، وربما يعود التناقضُ إلى النفاق، أو اضطراباتِ الشخصية والمرضِ النفسي.
الإنسانُ أعقدُ من قدرتنا على فهم كلِّ شيءٍ في أعماقه. الإنسانُ أعقدُ الكائنات في الأرض، وأغربُها في تناقضاتِه[1]، وتقلّبِ حالاته. تناقضاتُه لا تنتهي، لأنها تتوالد باستمرار، مالم يفلح بالتغلّب عليها بمزيدٍ من تكريسِ الإرادة، ووعي الحياة، واكتشافِ مسالكها الوعرة، والخلاصِ من ضغائنها، والعملِ على الاستثمار في منابع إلهام الحُبّ، ونحوٍ من الارتياض النفسي والروحي والأخلاقي والجمالي الذي يسمو به في مراتب الكمال.
أحلامُ الإنسان لا تكفُّ عن فرض رغباتٍ وأعباء تفوق طاقتَه، الرغباتُ والأحلام تثير الآخرين وتستفزّهم، لشعورهم بأن صاحبَها يصطاد فرصَهم في الحياة، ويستحوذ على مواقعهم، وذلك ما يصيّر الحياةَ حلبةَ صراع، تراها كأنها سلسلةُ حلولٍ لمشكلات، تبدأ منذ وقتٍ مبكر من عمر الإنسان ولا تقف إلا بالموت. الإنسانُ الحكيم يستطيعُ تفهمَ هذه الحالة وإدارتَها بذكاء. إنه يدرك أن الجمعَ بين الأضداد متعذّر، كما يدرك إمكانيةَ تفسير ذلك التضادّ ومعالجته، بوصفه حالةً ليست طارئةً أو استثنائية. يمكّنه هذا التفسيرُ من العمل بالتدريج، على خفضِ ما يرهقه ويستنزف حياتَه من صراع الأضداد في باطنه، بإيقاظِ صوتِ الله في روحه، والمحبةِ في قلبه، وتغذيتهما وتكريسهما ليصيرا مكونًا ثابتًا لكينونته الوجودية.
الإنسانُ كائنٌ غامضٌ جدًا في الوقت الذي يظهر لنا واضحًا جدًا، ما يجري من قوانين في الطبيعة تنطبق أكثرُها على جسده، لكن لا ينطبق كثيرٌ منها على نفسه وعواطفه وروحه وقلبه وعقله. تظل الطبيعةُ الإنسانية عصيةً على فهم كلّ طبقاتها بشكل واضح، حتى على الخبراء المتخصصين. لا يمكن أن ينتهي علمُ النفس إلى مواقف نهائية حاسمة في الكشف عن كلّ أسرار النفس الإنسانية، وذلك ما يؤشر إليه الاختلافُ الواسع الذي يصل حدَّ التهافت في بعض الحالات في مدارسِ علم النفس المتعدّدة، ومواقفِها المتنوعة في تفسيرِ سلوك الإنسان واكتشافِ الدوافع الخفية لمواقفه في مختلف أحواله. لم يجد علمُ النفس إجاباتٍ نهائية للأمراض والاضطرابات النفسية، إلا أنه كأيّ علمٍ ما يزال يواصل تنقيباتِه، ليكتشف المزيدَ مما هو مختبئٌ في النفس، ويعمل باستمرارٍ على نقد نظرياته وتمحيص آراء العلماء والمختصين ويغربلها ويعلن أخطاءَها ويرمّم ثغراتِها، ويواصل بجدية أبحاثَه ونتائجَه الجديدة[2]. المواقف المتضادّة لدى إنسانٍ واحد، في أزمنةٍ متوالية وحتى في يومٍ واحد، ليست غريبةً على طبيعة الإنسان. الإنسانُ الذي يمتلك عقلًا يقظًا مسكونًا بالتفكير العميق والأسئلة الوجودية الكبرى، يمكن أن يمتلك قلبًا متقدًا. الإنسانُ كائنٌ لا يشبه إلا ذاتَه. الإنسانُ كائنٌ شديد الغموض، ربما تراه غارقًا في الغربة الوجودية، وغارقًا في المحبة في وقتٍ واحد.
لن يختفي الشرُّ الأخلاقي ما دام الإنسانُ إنسانًا، مادام الإنسانُ يكذبُ ويراوغ وينافق ويكيد ويمكر ويسفك الدماء. الثقافاتُ والقوانين والعقوبات والأديان تهدفُ إلى خفض وتيرة الشرّ إلى أدنى مستوى ممكن، ولولا ذلك لتحوّل الناسُ إلى أكلة لحوم البشر. الإنسانُ ليس كائنًا بريئًا أو محايدًا، بعضُ الأصدقاء لا ينقل لك من الأخبار العامة وما يخصّك الا ما يؤذيك، إنما يفعل ذلك بدافع التشفي الذي يلبي حاجةً عميقة تفرغ فيها نفسُه ألمَها، وتعيد تقديرَها لذاتها؛ بإشعارِ الغير بأنه غيرُ جدير بالثقة والتقدير.
لا وصفةَ نهائية تتطابق وكلَّ الاحتياجات المتنوعة للبشر في مراحل حياتهم المختلفة، حتى الفرد الواحد تختلف احتياجاتُه في مراحل عمره المتعدّدة، ربما تقوده عواطفُه للتعلّق بشخصٍ أو أيّ شيءٍ آخر في مرحلةٍ من عمره، غير أنه قد ينفر منه في مرحلةٍ أخرى. الإنسانُ كائن يمكن أن يختلف يومُه عن أمسه، الإنسانُ يتغيّر تبعا لتنوّع صلاته الوجودية بما حوله من بشرٍ وأشياء، وتتجدّد بعضُ احتياجاته ومصالحه، وتندثر احتياجاتٌ ومصالحٌ في المراحل المختلفة من عمره، وتضاف أخرى.
يختلف كلُّ شيء باختلاف زاوية النظر إليه، وهذا ما يُصطلح عليه في الفلسفة قديما بـ (الحيثية)، يقال: “لولا الحيثيات لبطلت الفلسفة”، بمعنى أن كلَّ زاوية نظر تقودنا إلى نتيجة، ومن مجموع زوايا النظر تتعدّد وتتنوع المواقفُ الفلسفية في المعرفة والوجود والقيم، وهكذا يختلف تفسيرُ الحقائق وتختلف طرقُ الوصول إليها وإدراكها. باختلاف زاوية النظر يمكن للإنسان ملاحظةُ صور كثيرة بعضُها متضادّ في إنسان واحد. أحيانا تختلط المحبّةُ بالكراهية فتتناوبان، عندما تتصارع زاويةُ النظر الواعية لإنسانٍ مع زاوية النظر اللاواعية في باطنه. تراه لحظةً يحُبّ إنسانًا، ولحظةً أخرى يكره هذا الإنسان، وهو لا يدري كيف يحدث ذلك، مثل أن ترى المرأةُ في رجلٍ واحد صورًا متضادّة، أو يرى الرجلُ في امرأةٍ واحدة مثلَ هذه الصور. في بعض حالات حبِّ الرجل للمرأة وحبِّ المرأة للرجل، يحدث تناوبٌ للحبِّ والكراهية باضطرادٍ مُضجِر. أظنه يعود إلى أن المرأةَ تكره صورةَ الرجل الأعمّ من هذا الرجل وغيره؛ إثر ما يستفيق من مواجعَ جروحٍ كامنةٍ في اللاوعي لحياةٍ زوجية عاشتها أمس مع رجلٍ عنيف، ختمتْ بعد سنواتٍ من الصراع المرير بطلاق، وإن كانت هذه المرأةُ تحب الصورةَ الشخصية لهذا الرجل النبيل الذي تزوجته بعد الطلاق. الرجلُ أحيانًا يكره صورةَ الأنثى الأعمّ من هذه المرأة وغيرها في شخصِ هذه المرأة؛ إثر ما يستفيق من مواجعَ كامنةٍ في اللاوعي من حياةٍ زوجية مشاكسة مع غيرها أمس، لكنه يحُبّ الصورةَ الشخصية لهذه المرأة المهذّبة التي هي زوجته اليوم. وأحيانًا يكون التناوبُ عكسيًا في الحالتين.
[1] التضاد والتناقض ليس بالمعنى المعروف في المنطق والفلسفة، أعني بالتضاد والتناقض هنا ضرب من المفارقة.
[2] الرفاعي، عبد الجبار، الدين والكرامة الإنسانية، ص 70، ط 2، 2022، مركز دراسات فلسفة الدين، بغداد، ودار الرافدين، بيروت.