سيرة كاتب أوقف حياته للقراءة والكتابة
قرأت كتاب “مسرات القراءة ومخاض الكتابة” للدكتور عبد الجبار الرفاعي فقرأني،كأن نصوصه كتبت لي، هكذا حالي كلما اقرأ نصا فيه. أتذوقه بشهية كبيرة، أتأمله وأتدبره وأتحسس كيفية قراءة وكتابة مؤلفه. أقف عنده، لا أود مغادرة أية صفحة أقرأها، على الرغم من شعوري أن القادم ربما يكون أجمل. هذا كتاب يقرأ القارئ نفسه من خلال سيرة كاتبه. استوقفني في المقدمة رأي للكاتب يقول فيه: “لو فرضت عليّ الأقدار أن اختار العيش مع الكتب أو البشر لاخترت العيش مع الكتب”، يالها من ومضة تلامس الوجدان، وتبهج القلب لفرط عمقها وجمالها. الكتب خاصة ما يكتبه الكاتب بحبر روحه، ويرسم فيها تجربته الثرية،كتب تخاطب العقل مرة، وتلتفت للوجدان مرات، ثم تعرج على الروح لتبث فيها السكينة، وتشبع القلب بالضوء والجمال، هكذا أقرأ كتاب “مسرات القراءة ومخاض الكتابة”.
كيف لي ان أغادر الصفحة الاولى، وكل كلمة وعبارة تسحرني، فترحل بي إلى عالم المعنى. أقف بإجلال هنا أمام هذه العبارة: “أنا كائن لا أطيق العيش بلا منبع للمعنى في حياتي”. يالهول الحياة،كل زخرفتها وزركشتها ومتعها وملذاتها تقف حائرة امام الحاجة لإشباع ظمأ الإنسان للمعنى. ما أدق هذه الكلمات، ما زلت بالصفحة الاولى فرأيت الرفاعي يقول: “بعد هذه الخبرة في القراءة أصبح القارئ كاتبا، غير أن القراءة مازالت تلازمه وتفرض حضورها كأولية على الكتابة”. إن هذا النوع من الكتب نحتاج نقرأها عدة مرات لا مرة واحدة.
عدد صفحات الكتاب ١٨٢ إلا أن كل صفحة منه تسقي عطش ذاتي، وتروي روحي، وتغذّي قلبي، وتنقلني إلى عالم الضوء والجمال. مكاسب القراءة والكتابة كما يوجزها الرفاعي: “بالقراءة والكتابة استطعت أن أفكر خارج الأطر المغلقة، أحترم كل رؤية عقلانية”.كلوحة فنية تفجر ذائقة الجمال الكامنة في عمق روحي وتثير انبهاري، كما رأيت في هذا النص: “تعلمت من الكتابة ما هو أبعد مدى وأدق من القراءة، استطعت أن أصنع من كلمات مبعثرة معاني ملهمة لحياتي، تعلمت من الكتابة الوضوح، ورسم الحدود بين الأشياء، واكتشاف جغرافيا المفاهيم وخرائطها”، ويضيف الرفاعي: “صار ذهني لا يتطلع للتوقف في المحطات قدر شغفه للسير في الطريق، همه المضي في رحلة اكتشاف، صار الطريق فيها غايته لا المحطة”. وهو يكتب يعلمنا الكاتب دروسا ملهمة، إذ يقول: “لم تعبث قراءتي وأسئلتي المتواصلة بأخلاقي، ولا بسكينة الروح، ولا بطمأنينة القلب”.
كم أود ألا أطيل وأختصر، لكن الجمال الذي تنثره كلمات الرفاعي في نفسي يشدني للوقوف بإجلال واحترام وتقدير لهذه التجربة الغنية، يدلنا الكاتب على طريق الكتابة النوعية بقوله: “الكتابة الحقيقية عملية إبداعية تتطلب موهبة، وشخصية صبورة، مضافا إلى قراءات نوعية متواصلة، وتفكير هادئ، وجلَد على تكرار تمارين الكتابة المملة، وعدم التعجل بالنشر، والتضحية بكثير من متع الحياة الحسية الآنية”، ويضيف: “إذا ازداد علم الإنسان أدرك ان مجهولاته لا حصر لها، وتوالدت تبعا لذلك أسئلته المتنوعة، وتنوعت وتعمقت إجاباته”.
أخبروني ان هذا الكتاب بإمكاني قراءته بليلة واحدة، قرأت مقدمته فقط، مقدمة بست صفحات، كل عبارة تفتح بعقلي وقلبي وروحي وضميري نوافذ للإلهام، وابوابا لتذوق الجمال الكامن فيها، وللدروس البليغة الحكيمة. احتجت بعد هذه المقدمة وقت لهضم المعاني الكبيرة التي ملأت عقل وتشبع بها قلبي، وتفاعلت في ذهني ثم عاودت لأكمل القراءة.
“يكتب الرفاعي بلغة الشذرات” هكذا وصف كتابته الناقد المعروف الدكتور ناظم عودة في مقالته عن كتاب الدين والظمأ الأنطولوجي، وانا عندما اقرأ كتابات الرفاعي أشعر كأني اقرأ قصيدة نثر. هكذا يركب الرفاعي الكلمات المبعثرة، ليهبنا عبارات ساحرة، وعلامات ترشدنا في درب الحياة للجميل والجمال. ذكرتني هذه النصوص بكلام زميل لي أيام دراستي الدكتوراه في فلسفة القانون العام “كلية الحقوق بجامعة النهرين ببغداد” قبل سنوات عندما كان يقرأ كتاب الدين والظمأ الأنطولوجي للرفاعي، إذ قال لي: انا أقرأ صفحة كل ليلة، ليس لضيق الوقت، لكن أخشى إن أنهيت قراءتي للكتاب من وحشة فراق عبق نصوصه التي تحلق بي في عالم المعنى، وتروي ظمأ روحي، وتغدق على قلبي الجمال، لكل ذلك لا أود مفارقة هذا الكتاب”. هكذا هو حالي مع كتاب “مسرات القراءة ومخاض الكتابة”، لشدة ملامسته لروحي، والتصاقه بشغاف قلبي، وتلقي ذهني لبذوره الممتلئة، اتنقل بين صفحاته بفرح غامر، ووجل خشية أن ينتهي الكتاب، أتقدم بصفحاته وأنا مشتاقة لما مضى منها.
“الوقوع في اسر الكتب، القراءة العشوائية، تبذير العمر بقراءة كتابات تفقر العقل، أن نكتب يعني أن نختلف” وغير ذلك، هي عناوين فصول اشتملها الكتاب، وانضوت تحتها كلمات نسجها الرفاعي من خلاصة تجربته الثرية، وقدمها على طبق من ذهب لقرائه، ليتزودا وينهلوا من معانيها أشهى غذاء. لنقف هنا مع كلماته: “العمر قصير، استنزافه بكتب رديئة يثير الأسى والحسرات حين نستيقظ لاحقا… الكتاب الذي يستلب الوعي يثير الحزن، ويطفئ بداخل القارئ شغف القراءة ومتعتها.كتابات قليلة، وربما نادرة توقظ العقل، وتحدث وعيا علميا بالطبيعة الإنسانية، ورؤية عميقة للعالم”. يهبنا الرفاعي خبرته فينسج كلماته ليصنع هذه اللوحة المضيئة في فصل: “الكتابة بوصفها تجربة وجود” العنوان الذي انضوت تحته عبارات مكثفة، منها: “من يعيش الكتابة ويتذوقها بوصفها تجربة وجود تتحقق ذاته بفعل الكتابة بطور أعمق، الصدق في التعبير عن الذات هو البداية الحقيقية للكتابة”.
كأني مع هذا الكتاب أفتح خزانة جواهر، كلما وقعت عيني على ما بداخلها جذب طرفها الآخر ناظر قلبي لأقف باندهاش ونشوة. لأقرأ بتمعن وتأمل ما صاغه الرفاعي عنوانا لافتا في فصل: “غواية الكتابة” كلمات يحذرنا فيها من الكتّاب الزائفين، ممن يؤذون القراء، يهدرون الوقت والعمر في كتابات بائسة، ويزحفون ليحتلون مواقع الكتّاب المحترفين ويصادرونها في كل المنصات. يقول الرفاعي محذرا من هذه الظاهرة الكثيرة اليوم: “صار الهوس بالكتابة والنشر، بلا موهبة، ولا قراءة مكثفة، ولا تفكير صبور،كهوس تكديس الشهادات العليا بلا تكوين أكاديمي”. حين أتنقل بين صفحات الكتاب تارة أتلمس الحس الاخلاقي ودروسه، وتارة أخرى أتلمس الحس الروحي والجمالي فأنتشي بخطابه، وتارة ثالثة يحرك عقلي فيثير المكنون من الأسئلة المطمورة.
“الكتابة بوصفها امتحانا للضمير الاخلاقي” شذرات تختزل دروسا أخلاقية تدعو لضرورة حضور الضمير الأخلاقي للكاتب حالة الكتابة. عنوان آخر يشي بتواضع الكاتب: “أنا مدين لمن يقرأ كتاباتي “. أشعر كقارئه انني مدينة لهذا الجمال والنور والمعنى الذي تتزوده روحي وعقلي وقلبي من هذا الكتاب.
“لا نتعلم الكتابة إلا بالكتابة” يقدم لنا هنا الرفاعي بهذه العبارة التي سطرت كعنوان ضمني وسط صفحة في الكتاب وصفة تغني عن أي دورة لتعلم الكتابة. يختم كتابه بألم الكتابة وجروحها، في فصل بعنوان: “مواجع الكتابة”، وكيف تعرض هو لمرات متعددة من “الأعداء المتطوعين” حسب تعبيره، فيقول: “اتخذت قرارا منذ سنوات طويلة،كان اتخاذه شديدا على نفسي، أن أمزق رسائل الأذى وكتابات الازدراء والهجاء الورقية لحظة تصلني، وأمحو كل ما يزعجني من رسائل إلكترونية.كل شيء يمكن ان يورث كراهية أتخلص منه عاجلا”. قراءة هذا الكتاب علاوة على أنها ممتعة، أراها ضرورية للقارئ والكاتب.كتاب “مسرات القراءة ومخاض الكتابة” كأنه لوحة بديعة لفنان معروف، تحكي سيرة قارئ متمرس وكاتب شهير، أوقف حياته للكتابة وقراءة الكتب.