المقالات

حقوق الإنسان الغربية: ليست كافية فحسب، بل إنها أيضا خاطئة ومتحيزة

يصعب قبول القراء في العالم بخطاب رافض لحقوق الإنسان، أو التفكير في خطاب بديل لها، لأن نقد حقوق الإنسان يقابل، غالبا بتهم الرجعية والتخلف، والاستبداد. لقد دفعت هذه التهم العديد من المفكرين الى تجنب نقد حقوق الإنسان نقدا جذريا. في الغرب، يقابل نقد حقوق الانسان بتهمة الانتماء إلى اليمين أو اليسار المتطرفين.  في العالم العربي الإسلامي كذلك، لا يمكن نقد حقوق الإنسان دون حشر صاحبه في في خانة اليميني المحافظ، أو اليساري المتطرف، أو الإسلامي المتشدد، لذلك لا تصل انتقادات حقوق الإنسان في العالم العربي الإسلامي وفي الغرب حد رفض هذه المنظومة الحقوقية. يكتفي المفكرون النقديون العرب والمسلمين بنقد ازدواجية معايير حقوق الإنسان، دون المساس بمرجعيات حقوق الإنسان.

يعتبر صامويل مُوين، أكثر نقاد حقوق الإنسان شهرة لأن هذه الحقوق غير كافية في عالم غير عادل، ويمكن القول أيضا، استنادا إلى أعمال بعض المفكرين مابعد الاستعماريين والديكولونياليين مثل محمود ممداني  و بوافنتورا دو سوسا سانتوس: إن حقوق الإنسان ليست كافية فحسب بل إنها أيضا خاطئة ومتحيزة.

لا توفر انتهاكات الكيان الصهيوني لحقوق الإنسان، والقانون الدولي الإنساني أدلة واقعية لنقد ازدواجية خطاب حقوق الإنسان فحسب، بل تشكل لحظة تاريخية وفكرية لمساءلة حقوق الإنسان مساءلة جذرية، فقد كشف العدوان على غزة تحيز منظومة حقوق وتواطؤها، وعجزها البنيوي عن وقف جرائم الإبادة عندما تقترف ضد “الآخر” غير الغربي، وقدمت هذه الحرب أيضا الكثير من الأمثلة الحية الداعمة لحجج بعد المفكرين المسلمين، نقاد حقوق الإنسان، الذين اعتبروا هذه الحقوق قاصرة (ينظر مناظرة إبراهيم الخولي في قناة الجزيرة). دعم العدوان على غزة أفكار الباحثين مابعد الاستعماريين والديكولونيالين حول تحيز هذه الحقوق للإنسان الأبيض، ومنهجيتها الخاطئة، وتورطها في نظام الحداثة/الكولونيالية.

إن نقد حقوق الإنسان من داخل الأكاديميا الغربية بتوظيف أدواتها من موقع متحرر، يعزز بحجج إضافية كثيرة نقد حقوق الإنسان الذي دشنه مفكرون مسلمون. ونعرض هاهنا مثالين عن هذا النقد التحرري، لكل من محمود ممداني  و بوافنتورا دو سوسا سانتوس.

محمود ممداني: حقوق الإنسان فكرة خاطئة

انتقد محمود ممداني حقوق الإنسان في دراساته حالات العنف السياسي، متسلحا بالتاريخ، ونظرية مابعد استعمارية في علم السياسية، انتقد تحديدا الرؤية الخاطئة لحقوق الانسان في التعامل مع العنف السياسي. وتبدو فكرة حقوق الإنسان، في نظر هذا المؤلف، خاطئة، لعدة أسباب:

إخفاء التاريخ

رأى محمود ممداني في كتاب: لا مستوطن ولا مواطن. صنع أقليات دائمة وتفكيكها، بأن “القوى المعرفية صاحبة السلطة في العالم اليوم تسعى لإبعاد التاريخ واستبداله بدافع عالمي جديد، اسمه حقوق الإنسان التي تنكر وجود التاريخ”، لأن حقوق الإنسان تسأل من فعل ماذا، ولمن؟ ولا تطرح سؤال لماذا؟  مستبعدة بذلك السؤال الأهم، أي تواريخ الصراع وملابساته. لا تفيد حقوق الإنسان الغربية شعوب البلدان المستعمرة، والأراضي المحتلة مثل فلسطين لرفع الظلم عنها لأنها تتبنى منهجية خاطئة، لا تولي الاهتمام بتاريخ الصراع السياسي. في المقابل، وعلى سبيل المثال تفيد مؤلفات المؤرخ وليد الخالدي (كي لا ننسى. قرى فلسطين التي دمرتها إسرائيل 1948)، وإيلان بابيه (التطهير العرقي في فلسطين)، شعوب العالم لفهم العدوان على فلسطين أكثر من تقارير الخبير الحقوقي المقيد بمنهجية خاطئة تبحث عن الضحية، وبالمثل يفيد المفكر المتحرر شعوب العالم لفهم العدوان على الإنسان غير الأوربي أكثر من ممثلي المنظمات الدولية. في النظرية النقدية مابعد الاستعمارية، يتجذر العنف في فكرة الدولة-الأمة التي تولدت في رحم الحداثة كما بين ذلك محمود ممداني في كتابه المشار إليه، بينما تخبرنا حقوق الانسان أن العنف يمكن تجنبه دون المس بنموذج الدولة-الأمة القومية. من جهة، تبين النظرية السياسية النقدية، أن تجنب العنف غير ممكن دون استئصال نموذج الدولة-القومية، ما يؤزم فكرة الدولة الحديثة، ومشروع الحداثة السياسية. ومن جهة أخرى، يوضح النقد المعرفي أن العنف متجذر في بنية الحداثة التي صنفت الشعوب وفق سلم هرمي يحتل الإنسان الغربي الأبيض مقدمته. لقد وفر الفكر النقدي مابعد الاستعماري والديكولونيالي والنظرية النقدية عموما حججا مقنعة لطلاب الجامعات الأمريكية للاحتجاج ضد عدوان الكيان الصهيوني على سكان فلسطين أكثر مما وفرته تقارير حقوق الإنسان، ما يبين قصور حقوق الإنسان في توفير حاضنة دولية لحماية حقوق الإنسان.

استبعاد السياسي

ظهرت حقوق الانسان باعتبارها توجها نيوليبرالييا قبل صعود النيوليبرالية، لكون منظومة حقوق الإنسان تستبعد السياسي، وتعتبر العنف السياسي ممارسة فردية؛ أي تستبعد المتورطين في نظام القوة الذين مارسوا العنف نيابة عن الدولة-الأمة، أو دفاعا عنها، ويمثل العدوان على غزة مختبرا للمتورطين في هذا العدوان دون أن تشير إليهم تقارير منظمات حقوق الإنسان من قبيل دول التحالف الدولي الداعمة لإسرائيل بالعتاد والتعاون الأمني، وشركات الأسلحة، والمعلوميات، ومختبرات البحث، ومختلف عناصر البيئة الدولية والإقليمية الحاضنة للعدوان على غزة. خلافا لذلك، لا تنظر حقوق الإنسان لهذه البيئة، فحسب ممداني: “من “هيومن رايتس ووتش” إلى المحكمة الجنائية الدولية؛ الظلم الذي قامت به الدول تم نزع السياسة عنه وإعادة تقديمه على أنه مسؤولية أشخاص محددين ارتكبوا أخطاء أو فوضوا الآخرين بالقيام بالأخطاء”.

عدالة الضحية والبحث عن المنتصر والمنهزم

تقوم حقوق الانسان على عدالة الضحية، أي القبض على الجناة المتورطين في جرائم العنف السياسي وترتيب العقوبات عليهم، لهذا يجتهد طرفا الصراع في تقديم نفسيهما  باعتباره ضحية وإن كان مجرما، كما قام بذلك الكيان الصهيوني نفسه، فرغم كل جرائم الإبادة التي ارتكبها، عرض الحجج في محكمة العدل الدولية لانتزاع صفة الضحية.

رسخت محاكمات نورمبورغ حسب محمود ممداني عدالة الضحية، وتغلغل هذا المنطق في حركة حقوق الإنسان المعاصرة، فقد “حولت مجموعات حقوق الإنسان منهجية نورمبرغ إلى منهجية عالمية، وصاغتها كتسلسل محفوظ عن ظهر قلب، بخطوات محددة بوضوح: اجمع الفضائح وصنفها، حدد الضحايا والمجرمين”، تفصل المحكمة الدولية بين المنتصر، وبين المهزوم فصلا أبديا. بعد الهزيمة فقط، يمكن للضحية أن تتوجه إلى المنظومة الدولية لحقوق الإنسان، ما يبعد إمكانية تجنب الهزيمة والانتصار، ففي منطق حقوق الإنسان، والحداثة يلزم أن يكون هناك دوما منتصر، ومنهزم لتنشغل به منظمات حقوق الإنسان.

يوافنتورا دو سوسا سانتوس: حقوق الإنسان مستعمرة ومتحيزة

يضيف النقد الديكولونيالي، منظورا نقديا لحقوق الإنسان، لخصه دو سوسا سانتوس في كتابه: “لوكان الإله ناشطا حقوقيا: نحو لاهوت حقوقي مناهض للهيمنة” أن “أغلبية سكان العالم لا يشكلون ذواتا لحقوق الانسان، بل موضوعات لحقوق الإنسان”، وأن هذه الحقوق وجدت “لأن تسود فقط في المجتمعات الغربية”.  ويبين العدوان على غزة، أن حقوق الإنسان ليست عاجزة عن حماية أهل غزة فحسب، بل إنها لم توجد أصلا لحماية الإنسان غير الغربي، ما يفسر الضعف البنيوي في أداء منظومة حقوق الإنسان في مواجهة انتهاكات الكيان الصهيوني، وفشلها المصطنع في إيقاف العدوان على شعب يقاوم من أجل نيل حريته.

 وتعتبر حقوق الإنسان متحيزة وقاصرة، حسب بوفنتورا دو سوسا سانتوس لكونها تتغذى من أربعة أوهام هي الغائية والانتصارية، ونزع السياق والأحادية:

الغائية: ويتمثل هذا الوهم في اعتبار حقوق الانسان بشكلها الحالي، النتيجة الحتمية التي يفضي إليها مسار التطور التاريخي، على الرغم من كون العصر الذي نعيش هو العصر الذي ارتكبت فيه أبشع فظاعات انتهاكات حقوق الإنسان، ويخفي هذا الوهم الغائي “نزعة تاريخانية” حداثية مدمرة تبرر أفعالا عنيفة لإعادة تشكيل تاريخي باسم الدفاع على حقوق الإنسان، وتحقيق القيم الكونية.

الانتصارية: يعتبر هذا الوهم انتصار حقوق الإنسان خيرا بشريا، وتتمثل خطورة هذا الوهم “في اعتبار باقي التصورات التي تنافس حول حماية الكرامة الإنسانية أقل مرتبة أخلاقيا وسياسيا”، على الرغم من أن نطاقات حضارية غير غربية، قد أرست ممارسات فضلى لحماية الكرامة الإنسانية، تمنع انتهاك حقوق الإنسان والطبيعة والحيوان. إن نجاح الممارسات ماقبل الحديثة في منع جرائم الإبادة، يبدد وهم انتصار  منظومة حقوق الإنسان الغربية على باقي الـأشكال التي ابتدعتها حضارات قديمة، بل يوضح تخلف هذه المنظومة، وبقدر ما يزيل تزايد انتهاك حقوق الإنسان اللثام عن أوهام حقوق الانسان، تبين هذه الانتهاكات أن انتصار خطابات حقوق الإنسان لا يمكن أن يفسر بشيء آخر سوى  استخدام القوى العالمية الغاشمة لها لتحقيق مصالحها.

الانفصال عن السياق: فصل خطاب حقوق الانسان عن سياقات متعددة مثل الثورة ضد المستعمر، ومناهضة الاستبداد. على سبيل المثال، كانت حقوق الإنسان خطابا تحرريا ضد الاستبداد في سياق الثورة الفرنسية، ولكن سرعان ما استغل بونبارت حقوق الإنسان لتبرير استعمار مصر عام 1798. و”منذ ذلك الحين والى حدود اللحظة الحالية فإن حقوق الإنسان طبقت في سياقات جد مميزة ولأهداف متناقضة”، نجملها عموما في حماية الإنسان الأبيض حصرا، وتبرير التدخل الأجنبي في العالم غير الغربي، دون قيود.

– الأحادية: يرتبط هذا الوهم بإخفاء التوتر البنيوي الداخلي بين نظريات حقوق الإنسان، توتر أول: عبارة عن التناقض بين حقوق الإنسان/ والمواطنة يمكن بيانه كما يلي: إذا كانت حقوق الانسان متعلقة بالمجتمع عموما، فإن حقوق المواطنة مرتبطة حصرا بمواطني الدولة، إذ تمنح الأولوية لحقوق المواطنة، على حساب حقوق الإنسان كما تبين ذلك وضعيات المهاجرين في البلدان الغربية. يظهر التوتر الثاني بين الحقوق الفردية/ والجماعية، إذ تعترف أولى مواثيق حقوق الانسان بفاعلين هما: الفرد والدولة، ولا تعترف بالشعوب إلا عندما تتحول إلى دول، وعلى الرغم من إصدار مواثيق عن حقوق الشعوب، يظل التوتر قائما بين الفردي والجماعي من جهة، وبين الدولة والشعب من جهة أخرى، وقد كانت هذه التوترات البنيوية، التي لا يمكن فكها إلا بإصلاح حقوق الإنسان، مصدرا للكثير من انتهاكات حقوق الإنسان.

إصلاح حقوق الانسان إصلاحا جوهريا: أمر ممكن

موازاة مع ارتفاع شعارات حقوق الإنسان، وتصاعد خطابات المنظمات الحقوقية منذ التسعينات إلى الآن سجلت في العالم أبشع انتهاكات حقوق الإنسان لم يشهد التاريخ ما قبل الحديث مثيلا لها. ويبين تصاعد انتهاكات الكرامة الإنسانية، أن حقوق الإنسان بصيغتها الغربية، ليست الطريق الأفضل لحماية الكرامة الإنسانية.

 لقد كشف مفكرون مسلمون قصور حقوق الإنسان منذ مدة، لكن حالت ضغوط سرديات حقوق الإنسان الأكاديمية والإعلامية من مناقشتها مناقشة نقدية. وفي السنوات الأخيرة توصل الباحثون ما بعد الاستعماريين والديكولونياليين إلى أفكار نقدية تجاه منظومة حقوق الإنسان معززة بحجج ودلائل كثيرة، وقد تزامن بروز هذا الخطاب مابعد الاستعماري والديكولونيالي مع اقتراف العدوان الإسرائيلي جرائم مروعة ضد سكان غزة، دون أن تنجح منظومة حقوق الإنسان في ايقافها. ويمكن لهذا الواقع، أن يرخي من قبضة الخطاب الحقوقي الغربي على عقول الباحثين المقيدين بالمركزية الغربية، ليستأنفوا تأزيم حقوق الإنسان، واقتراح بدائل لإصلاحها إصلاحا جذريا. حدد بعض هؤلاء المفكرين سبل إصلاح هذه المنظومة نذكر  منها: رفض منظومة حقوق الإنسان بصيغتها الحالية لأنها وجدت لحماية الإنسان الأبيض دون غيره من شعوب العالم، وإعادة استكشاف تعاليم النطاقات الحضارية غير الغربية في حماية الكرامة الإنسانية التي استبعدها خطاب حقوق الإنسان الغربي،  وتأسيس خطاب بديل لحقوق الإنسان مناهض للهيمنة، خطاب يحرر حقوق الإنسان من الكولونيالية والعنصرية، والأبوية، والابيستيمولوجيا الغربية.

رشيد بن بيه

أستاذ بكلية اللغات والفنون والعلوم في أيت ملول، جامعة ابن زهر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى