يتنوّع التديّن بتنوّع الإنسان والواقع
الدينُ أبديٌ، إنه موجودٌ بوجودِ آدمَ الأوَّلِ وسيبقى حتى آدم الأخير، الدينُ موجودٌ في عصرنا كما كان موجودًا على الدَّوام في كلِّ عصر. يتمكَّنُ الإنسانُ في هذا العصرِ من تجديد مناهجِ فهمهِ للدِّين، وتجديدِ أدواتِ تفسير نصوصِه، في ضوء متطلّبات هذا الواقع، كما فعل الإنسانُ في الماضي.
الدينُ كائنٌ حي، ينمو ويتطوَّر ويمرض، وقد يصاب بداءٍ مزمن. فربّ ديانةٍ منفتحة انغلقتْ، وربّ ديانةٍ مغلقة انفتحتْ. مفسّرو النصوص المقدسة تتحكمُ في فهمِهم للدين وتفسيرِهم لنصوصه؛ رؤيتُهم للعالَم وثقافتُهم ونمطُ نشأتهم وتربيتُهم وتكوينُهم المعرفي، وأحكامُهم المسبقة، وآفاقُ انتظارهم من الدين.
من هنا تأتي الحاجةُ لتتابعِ النبوَّات، وظهورِ المجدِّدين، والضروراتُ الأبدية لإصلاحِ الأديان وتجديدِ فهمها وإعادة تفسير كتبها المقدسة. تشتدُ الضرورةُ إلى تجديد الفكر الديني في كلّ عصر يحتجب فيه اللهُ عن العالم، من أجل تحريرِ فهم الدين من التعصُّب الأعمى، وبعثِ الإيمان، وحمايةِ الاعتقاد من الاستغلال فيما ينهك الحياة.
دراسةُ أثر كلّ دين وأنماطِ التديُّن التي تتشكّلُ في فضائه تتطلّبُ أن يعتمدَ الدارسُ معادلةً مثلثةً للفهم، إذ لا بدّ أن يعاينَ الدارسُ ذلك الدين بوصفه نصًّا مقدّسًا أوَّلًا، ويتعرّفَ ثانيًا على شخصيَّة الإنسانِ المُعْتَقِد بهذا النصِّ فَرْدًا ومُجْتَمَعًا، ويكتشفَ طبيعةَ الواقع الذي يعيش فيه هذا الإنسانُ وكلَّ ما يحفل به عصرُه ثالثًا. هذه العناصرُ الثلاثةُ تشكِّل توليفةً متفاعلةً يؤثّر كلٌّ منها بالآخر ويتفاعل معه. لذلك تختلف أنماطُ التديّن تبعًا لاختلافِ النَّاس أفرادًا ومجتمعاتٍ، واختلافِ واقعهم وعصرِهم وثقافتهم، وطريقة عيش الإنسان ونمط العمران، واختلافِ كيفية تلقِّي النصوص المقدَّسة. ربما يكون التديُّنُ دافئًا، ليِّنًا، رقِيقًا، رحيمًا، كما لدى القليلِ من الأشخاص الذي يُولدون في واقعٍ يستمعون فيه إلى صوتِ المَحَبَّة والعطف والشفقة والتَّراحم، ويحظون بتربيةٍ وتعليمٍ سليمَين. وربما يكون التديّنُ شديدًا، قاسيًا، عنيفًا بلا رحمة، كما نجد لدى معظم الأشخاص الذين يتعرَّضون إلى اضطهادٍ وعنفٍ في العائلة والمجتمع والسلطة السياسية، ولا يحظون بتربية وتعليم سليمَين.
تنشأُ الثَّغراتُ في دراسة الأديانِ من إهمال إحدى أضلاع المعادلة المُثلثة للفهم، لذلك تتطلَّب دراسةُ الأديانِ أنْ يتعاطَى الدَّارسُ مع نصوصِها المقدّسةِ وتراثِها الدينيّ بمنطقِ الباحث الذي يعتمدُ مناهجَ البحثِ العلميِّ، وينشدُ فهمَ المغزى العميقِ لهذه النصوص، ويهمّه التعرُّفُ على دلالاتِ التُّراث في فضاءِ السياقات الخاصّة التي تَشَكَّل فيها، والسعيُ لاكتشاف الآثارِ الروحية والأخلاقية والجمالية التي أنتجتْها نصوصُ هذه الأديان، وكيفياتِ تمثُّلها في الحياة البشرية. ولا أظنُ أن هناك جدوًى من دراسةِ الأديان ومقارنتِها وحوارها؛ لو كان الدارسُ مولعًا بالتبشيرِ بمعتقده ولا يريد إلّا ترويجَه، والحرصِ على إدخالِ المختلف فيه، بوصف معتقدَه هو الحقّ وكلّ ما سواه باطل.
لم تَعُد المناهجُ المكرّرة في دراسة الأديان تضيف للباحث نتائجَ حاسمة، لأن التراثَ فيها ما زال يتحدّثُ للتراث. الواقعُ الذي نَعيشه اليوم يفرض علينا الاهتمامَ بدراسة الدين في سياق مكاسب العقل والعلم والمعرفة والخبرة البشرية المتراكمة، ودراسةَ كيفيةِ نشأته وأنماطِ حضورِه وصيروتِه عبر التاريخ، والانتقالَ في الدِّراسات الدينيَّة من الرؤيةِ التقليديَّة، التي كانت ترى الدينَ ونصوصَه المقدّسة مرجعيةً نهائيةً في تفسير وفهم كلِّ شيء، إلى رؤيةٍ تُخضِع تعبيراتِ الدين وتجلياتِه في الحياة للفهم والتفسير، بوصفها تَمَثُّلاتٍ بشرية، وكلّ ما هو بشري يقع في مداراتِ عقلِ وعلومِ ومعارفِ وخبراتِ الإنسان. إن كانت نصوصُ الدين مقدّسة؛ غير أنَّ تفسيرَها وتأويلَها وفهمَها يتجلَّى فيه الأُفُقُ التاريخيُّ الذي يتموضعُ فيه الإنسان، ولا يمكن أن يكون ذلك الفهمُ عابرًا للإطار المعرفيّ لذلك الإنسان.
إن تطبيقَ المناهجِ العلميَّةِ في دراسة كلِّ الأديان وفِرَقِهَا ومذاهِبِها ضرورةٌ يفرضها التعرّفُ على كيفيةِ ولادتها وصيرورتها التاريخية، والآثارِ المزمنة لها في الحياة البشرية. الأديان تُولد في عصر مؤسِّسيها، لكنها تظلّ تتخلّق وتنمو في صيرورةٍ لا تتصرّم عبر الزمان والمكان، في سياقاتِ نسيجِ المتطلَّبات المتنوّعة لحياة الإنسان فردًا وجماعةً، والعلاقاتِ العضويَّة بين السلطة والمعرفة.
ليستْ هناك ديانةٌ أو نصٌّ دينيٌّ خارجَ طرائق عَيْشِ الإنسان وطبائع العمران، فالإنسان يخضع لمشروطيَّاتٍ تَفْرِضُ عليه نمطَ حياتِه، وتؤثّر في سلوكه، وهي: العقل، اللغة، المشاعر، الغرائز، الجسد، التربية، التعليم، الثقافة، الاقتصاد، السلطة، التاريخ، المكان، الزمان. لا يتجسَّد الدينُ في حياة الإنسان إلّا تبعًا لهذه المشروطيَّات، أي أنَّ فهمَ الدِّين وتفسيرَ نصوصِه يتنوَّع بتنوُّع أنماطِ حياةِ النَّاس وطرائقِ عيشهم.
الرؤيةُ اللَّاتاريخيةُ للدين ترى الأديانَ قارّةً ساكنةً، وكأنَّ الأديانَ تؤثِّر في المُجتمعات وتعمل على تغييرها، من دون أنْ تتغيّر هي أو تتأثَّر. الرؤيةُ التاريخيةُ العلميَّةُ تذهب إلى أنَّ الأديانَ تتأثَّر بطبيعةِ المجتمعاتِ الإنسانيَّةِ المتنوِّعَةِ، تبعًا لتنوُّع الزمانِ والمُحيط والإثنيَّة والجغرافيا والثقافة واللغة والاقتصاد والسلطة، وتشرح كيف أنَّ هناك تأثيرًا وتأثُّرًا متبادَلًا بين الدين والمجتمع، فمثلما يؤثّر الدينُ في المجتمع، ويسهم في إنتاجِ رؤيتِه للعالَم، ويعمل على صوغ نمطِ حياتِه، يعمل المجتمعُ أيضًا على إنتاجِ صورتِه الخاصَّة للدين، وصياغةِ نمطِ التديّن الذي يشبهه. مثلًا لو ظهرت البوذيةُ في الجزيرة العربيّة لأضحتْ مُشَابِهَةً للمجتمع العربيّ، ولو ظهرت الهندوسيةُ في اليونان لأضحت مشابهةً للمجتمع اليوناني، ولو ظهرت المسيحيةُ في الصِّين لأضحت مشابهةً للمجتمع الصيني، وهكذا الحالُ في الأديان الأخرى. كما تؤثّر المجتمعاتُ في الأديان؛ تؤثر الأديانُ في المجتمعات، ما فعلتْه الأديانُ في المجتمعات لا يقلُّ عن فعلِ المجتمعات بالأديان.
الموقفُ الأخلاقي يفرض على أتباع كلّ دين الكشفَ عن أرشيفات الماضي، وإعلانَ كلِّ ما يختبئ فيها، وفضحَ منابع التعصب والكراهية في تراثه مثلما يفضحها لدى غيره، والاعترافَ بأخطائه كما يتحدّث عن أخطاءِ غيره.
ليستْ هناك دينٌ يحتكرُ المحبَّةَ والحرياتِ والحقوقَ واحترامَ كرامة الإنسان، وليس هناك تاريخُ دينٍ مُنَزَّهٌ عن التعصُّب والعنف وانتهاك كرامة الإنسان. ففي ميراث الأديان السماوية مثلًا لا يصحّ نسيانُ مظالمِ الفتوحات، مثلما لا يصح نسيانُ مآسي الحروب الصليبية، وجرائمِ الصهيونيّة في فلسطين.
المعروفُ عن البوذية أنها ديانةٌ غيرُ تبشيرية، وأنها من أكثر الديانات في الأرض سِلمًا، لم يتحدّث لنا التاريخُ عن حروبٍ تم خوضُها أو دماءِ أبرياءٍ سُفكت باسمها،كما هو معروف عن دياناتٍ أخرى، لكن مع كلّ ذلك تناقلتْ وسائلُ الإعلام صورًا ومشاهدَ لأعمالِ عنف مأساويّة ضد مُسْلِمِي الروهينغا في ميانمار عام 2017، قامت بها مجموعاتٌ بوذيّة بتحريضِ رهبان بوذيين متطرّفين.
من الضروري الارتقاءِ بالحوار بين الأديان، والانتقالِ به من الكلام المكرّر إلى اعتماد المناهل الروحية والقيم الأخلاقية المشتركة، والبناءِ عليها بوصفها منطلقاتٍ للبحث في دراسة الأديان والحوار بين أتباعها. وفي ضوء هذا الموقف ينبغي رفض مواقفَ كلّ من يستخفّ بمعتقدات أيّ دين آخر أو يسفهها. التفكيرُ في كلّ ديانة يمتلك حججَه وأدلتَه وقناعاتِه داخل تلك الديانة، ولا تصحّ مناقشةُ هذه الحجج والأدلة والقناعات من دون أن ينخرطَ المناقشُ في أفق تفكير الديانة، ويستوعبَ نصوصَها وتراثَها وخبراتها الروحية.