هل كان عبد الوهاب المسيري منتحلا؟
أثير نقاش بين مثقفين ومهتمين بقضايا الفكر الإسلامي حول المشروع الفكري للمفكر المصري عبد الوهاب المسيري، رحمه الله، (1938-2008)، وعن حدود الجدة والإبداع فيه، وهل يمثل مدرسة جديدة في الفكر الإسلامي المعاصر؟ ( وبالمناسبة فقد نشر المسيري بحثا بعنوان: معالم الخطاب الإسلامي الجديد، نشرته مجلة المسلم المعاصر،القاهرة، في العدد86، بتاريخ 10نونبر1997). وذهبت بعض الآراء إلى أن المسيري كان يؤسس لأطروحة جديدة في الفكر الإسلامي. وأنه ينقل هذا الفكر من مضايق المنظورات التراثية، ومن سطوة المنظور الحركي السياسي، إلى مقاربات ذات تأسيس معرفي. (نشر المسيري في مجلة الفكر الإسلامي المعاصر التي ينشرها المعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن، دراسة بعنوان: في أهمية الدرس المعرفي. المجلد 5،العدد20/ 2000). وتناقلت مجلات إسلامية أخرى الدراستين، وتم الترويج لهما ربما أكثر من كتب المسيري التأسيسية، والتي تبرز أطروحته الفكرية ومعالمها المنهجية وسياقاتها الوظيفية. وتم الزج بأطروحة المسيري، بأبعادها المعرفية والمنهجية، في سياق سجالي، ضيع الكثير من معالم الجدة والإبداع فيها. وذهب آخرون يسائلون هذه الجدة ذاتها ويشككون فيها، وهل هي حقيقية أم مصطنعة؟ وقد أثير النقاش في هذا السياق، وذهب البعض إلى أن المسيري لم يكن إلا مقلدا، وأن أغلب أفكاره كانت منقولة، من دون إحالات، عن رموز نقاد الحداثة في الغرب. وأن الكثير من المفاهيم التي استعملها، مثل : النماذج المعرفية، والمفاهيم التفسيرية، والصلابة، والجماعة الوظيفية، والخرائط الإدراكية، ومجموعة من الاستعارات، والمجازات… ليست إلا منتوجات لأصحابها تعمد عدم ذكرهم، وأخفى مصادره ومراجعه، عند تحرير أبحاثه منذ بحث الماجستير في جامعة كولومبيا، وبحث الدكتوراه في جامعة روتجرز، وفي موسوعته عن اليهود واليهودية والصهيونية، وفي نقد الحداثة، وفي نقد العلمانية، وفي نقد العديد من الأنساق الفكرية الغربية… ثم إنه، عند البعض، ليس مفكرا إسلاميا، لمانع معرفي وهو عدم تمرسه على هذا الفكر في نصوصه المرجعية وفي مدوناته الكلاسيكية، ولمانع تخصصي وهو عدم توفره على شهادة عليا، أو على تكوين علمي منتظم في حقل من حقول الفكر الإسلامي المعاصر، وفي عدم انتسابه لجامعة إسلامية كلاسيكية، أو حديثة. فهو ينحدر من حقل دراسات الأدب الإنجليزي المقارن. فما هو وجه الحقيقة في الموضوع؟ ذلك ما أحاول تقديمه، من خلال مقترح متواضع للمشاركة في مناقشة الموضوع، وباعتباري من المهتمين بفكر المسيري، وممن عرفوا المسيري، رحمه الله، عن قرب.
لقد اهتم العرب في بداية عصر التدوين، تدوين القرآن (جمع القرآن الكريم) والحديث النبوي الشريف، وتدورين اللغة، والشعر، بمصطلحين أساسيين، وهما: الانتحال والنحل. فالأول عندما يسطو الراوي على كلام الآخرين وينسبه لنفسه، والثاني عندما يضع كلاما ويلقيه في الناس وينسبه إلى آخرين لم يقولوه. فهل ينطبق هذا الأمر على عبد الوهاب المسيري؟ موضوع الانتحال والنحل ارتبط بلحظة تأسيسية في التاريخ العربي وبناء الدولة الناشئة، وكان التشدد مع المنتحلين والناحلين سواء، لأن النصوص المدونة ذات حساسية مرجعية، فهي إما مصادر تشريع (القرآن والحديث) أو أدوات للفهم والتفسير(اللغة والشعر). وكان أغلب المنتحلين والناحلين كذبة ومدلسين، وفي أحسن الأحوال واهمين ومتوهمين.
رجحت الانطلاق من هذه الوضعية، وهي تحتاج على كل حال إلى تفصيل ليس هنا مجاله، لأشير إلى أن البحث الفكري اليوم ينبغي أن يكون متحررا من سياقات تاريخية لم تعد تناسب وضعنا الفكري والمنهجي، بل ولم تعد ممكنة، وتعميق الإبداع الفكري. فما ينتجه مفكر ضمن مدونة تصنيفية واسعة الأطراف والموضوعات، من الصعب البحث عن كل ما يحصل فيها من توارد، وتناص، ومصادفة، وتوثيق ذلك. وأنا أتكلم هنا عن مفكر مبدع يتأسس إبداعه على (التوليد)، و(التأمل العميق)، و(التخيل)، و(الحدس)، و(التركيب) . فهذه الفعاليات العقلية تتيح للمفكر إنتاج نص نرى ظاهره، ولكنه في حقيقته طبقات بعضها تحت البعض. فالنص الفكري خبرة وأرض تم تسميدها ورعايتها في رحلة العمر، عبر قراءات وحوارات وسماعات… استوطنت الشعور واللاشعور والذاكرة العميقة. والنص الفكري ليس هو النص الأكاديمي/ أو الجامعي المسيج بمقتضيات منهجية وتقنيات بحثية سيعرض أمام لجنة مختصة ستختبر صاحب النص وصاحب البحث في قدرته أو قل في قدراته: في الاستشكال، والاستدلال، والتحليل، والاستنتاج، والمقارنة، بل وفي الصياغة، بتفاصيلها وشكلانيتها، وفي الإحالة وفي التوثيق، وفي توزيع المعلومة والفكرة بين المتن والهامش، وفي الإخراج حتى… هذه مقتضيات أساسية ملزمة في سياق تعليمي نظامي، ندرسها في الجامعة في وحدات مناهج البحث، ونتشدد فيها مع الطلبة والباحثين، ولكن ليس من أغراضها بناء المفكرين وأصحاب مشاريع فكرية، ولكن نريد إنتاج خريجين وفق هذه المقتضيات المعمول بها في المؤسسات الجامعية مثلا. لذا لا تطبع أغلب الأطروحات الجامعية ولا تخرج للقراء، على قيمتها الأكاديمية الشكلية، فقط لأنها لا تتوفر، بالضرورة، على أطروحة فكرية، وحتى أصحابها لا يكونون مقتنعين بها لتكون مادة فكرية للتداول العام، ولو كانوا حصلوا بسببها على أعلى الدرجات والميزات والشهادات عند تخرجهم.
وعليه لم يكن المسيري بدعا من عدد هائل من المفكرين ومن أصحاب الأطروحات والأنساق والمذاهب ممن نقرأ كتبهم الضخام مع قلة الإحالات، بل وانعدامها عند كثيرين، فكم عدد إحالات إيمانويل كانط مثلا في مدونته النقدية؟ وماركس في موسوعته الاجتماعية الاقتصادية؟ وماكس فيبر في مدونته الفكرية؟ وغيرهم كثير، في الغرب وفي الشرق. الفكرة في المشروع الفكري توليد مركب وليست معلومة تحتاج إلى توثيق. ومسؤولية القارئ النبيه أن يكتشف مقدار التفاعل بين الأفكار في النص الواحد، وأن يكتشف أنه نص من طبقات، وفكرة تستبطن داخلها أفكارا أخرى، تدعمها، وتستدل عليها، وتجادلها، وتدافعها. بل في النص الواحد ينبغي للقارئ ولمحلل الخطاب أن يدرك بذكائه تزاحم الأفكار وتنافسها لتطفو على سطح النص، وهي عملية تركيبية معقدة تحصل في ذهن الكاتب/المفكر.
وأما ماتعلق من هذا الموضوع بعبد الوهاب المسيري، رحمه الله، فهو لم يدع يوما أنه يقدم أطروحة في الفكر الإسلامي، ولم يكن ذلك من اهتماماته. وقد سعى البعض إلى إدماجه في أنساق حركية، خصوصا في التجربة المصرية، مرتبطة بسياقاتها الخاصة، وفي إطار تنافس محموم بين (الإسلاميين) و(العلمانيين) على الشارع وعلى السلطة، تعاملوا مع نصوصه بانتقائية كبيرة. وقد حاول أن يحتفظ بمسافة واحدة من كلا الطرفين، وأقدم على الخطوات نفسها تجاه الطرفين. لذلك قاد حركة (كفاية) المعارضة لنظام مبارك، وكان منسقا لها، وكانت ذات هوى يساري، ثم انتمى إلى حزب الوسط الإسلامي في مصر، أو قل حضر مؤتمره التأسيسي وكتب ورقته المذهبية. و ارتبط هذا السلوك من المسيري بتاريخ تشكل شخصيته هو من البداية، فقد مر بشكل مرن عندما كان يافعا بتجربة قصيرة في الإخوان، في قريته في دمنهور( كما ذكر في سيرته)، ثم انتمى، في تجربة نقيض، إلى الحزب الشيوعي المصري، قبل أن يغادره. وحمل معه هذا الإزدواج التكويني المدني في ذاكرته وفي شخصه، ودخل جامعة كولومبيا في الولايات المتحدة، وتشبع بأطروحة روادها، من مختلف دول العالم، خصوصا من أمريكا اللاتينية، ومن الشرق العربي، ومن آسيا، تشبع بالدراسات الثقافية، والنظرية النقدية، وبنقد مابعد الاستعمار، وبالسوسيولوجيا النقدية. فكل هذه المرجعيات إذن، هل كان على المسيري توثيقها في بحوثه والإحالة عليها؟ وكأن الآخرين كانوا يفعلون ذلك، مع أن كتب المسيري بالإنجليزية فيها توثيق كبير للمعطيات، بخلاف كتبه بالعربية. وأنا أتصفح بعض كتب رواد مدرسة مابعد الاستعمار، مثل إدوارد سعيد، وهومي بابا، وطلال أسد، وغيرهم، فأجدها متخففة من الإحالة، على سهولة إدراك التفاعلات النصية الموجودة في النص الواحد لهؤلاء الرواد.
وتقاطعت تجربة المسيري المدنية في مصر مع أطروحات رواد نقد مابعد الاستعمار مع نقد مابعد الحداثة، وتفاعل مع كتابات كثيرة، كما تفاعل معها إدوارد سعيد، وكما تفاعل الفكر الأمريكي نفسه، سواء كان فكر مابعد كولونيالي، أو ديوكولنيالي، أو مابعد حداثي، مع فكر مابعد الحداثة الأوروبي. لهذا فإن الدخول في سياق نصوص النظرية النقدية ونقد مابعد الاستعمار، وهي النصوص التي ينتجها المسيري، هو دخول في محيط نصي متلاطم الأمواج يحتاج إلى قارئ نبيه ومدقق للوقوف على التفاعلات النصية والتناصية فيه.
والمسيري نفسه لم يكن يخفي مراجعه بل كان يصرح بها، ويعرف المتمرسون في قراءة نصوصه أن قوته في الاستيعاب وفي التوليد والتوليف والتركيب. وكان يناقش مع تلامذته، وفي العلن في المؤتمرات مصادر أفكاره. وقد تيسر لي حضور أكثر من مؤتمر عن أعمال المسيري، في مصر وفي غيرها بحضوره، كانت تقدم فيها أبحاث مقارنة بينه وبين غيره، وتحفر في ما أخذه من هذا المفكر ومن ذاك، وكان يتدخل في المناقشة ليشرح حدود تأثره والتعديلات التي أحدثها في هذا المفهوم أو ذاك، من دون حرج. وصدر كتاب هو أعمال مؤتمر عن المسيري بعنوان: (في عالم عبد الوهاب المسيري: حوار نقدي حضاري) سنة2004، فيه دراسات عن أخذه مثلا مصطلح (النموذج المعرفي) من توماس كون. وصدرت أعمال مؤتمر آخر، بحضور المسيري، حول أعمال المسيري بعنوان: (عبد الوهاب المسيري في عيون أصدقائه ونقاده)، سنة 2007. تضمن دراسات عن مراجع المسيري وتفاعلها مع مدارس نقدية، في الفصل الثالث بعنوان: (في المسيري والفكر المعاصر: تداخلات وتقاطعات)،. وتضمن دراسات عن استلهامه لمجموعة من الأفكار والمفاهيم من: النظرية النسوية، وزيغمونت باومان، وغادامر، وكافين رايلي، ونيتشه… وأنجز أحد الباحثين المتخصصين في فكر المسيري ومن المقربين منه وهو الدكتور حجاج أبوجبر درسات وأبحاثا حول (استمدادات المسيري) من كثير من مفكري مابعد الحداثة. وكان يجري الحوارات مع الكاتب، ويزوده بالمراجع، ويحيله على مصادره. وقد توجها بأطروحة بعنوان: (نقد العقل العلماني: دراسة مقارنة لفكر زيغمونت باومان وعبد الوهاب المسيري)، تحت إشراف عبد العزيز حمودة، رحمه الله، انتهى منها سنة2008، وصدرت في كتاب، ضمن منشورات المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات،2017. وقال الكاتب في المقدمة: ” منذ أوائل 2006، كان المسيري يعلم أنني أتتبع أثر زيغمونت باومان في رؤيته إلى الحداثة والعلمانية. وهو يقدم إلي منذ ذلك الحين سبل العون كلها، ومنحني فرصة العمل معه والتتلمذ على يديه.”(ص10). لم يكن إذن المسيري متحرجا من ذكر مراجعه، وقد ذكر باومان في أكثر من مكان، في السيرة، وفي كتاب: العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، مثالا. ولكن الذين تحرجوا من كتابات حجاج أبو جبر هم كثير من محبيه من الإسلاميين ومن غيرهم، وكانوا يتجنبون نشر مقالات أبوجبر في منابرهم، وهم يفهمون أبحاثه وكأنها كشف للسرقات الفكرية للمسيري. وكان المسيري، رحمه الله، يقلق من هذه التصرفات الخارجة عن منطق الفكر والبحث والمقارنة. وكان كتاب أبوجبر استقصائيا في المقارنة بين المسيري وباومان، على مستويات: النماذج والمجاز، فقد عالج النموذج عند توماس كون، وباومان والمسيري وإريك فوجلين الألماني. وعالج مصطلح التنوير المتطرف، والحداثة الغنوصية، وعواقب الحداثة عند المفكرين، من خلال موضوعات: عودة الكائن المستباح، والهولوكوست، والجماعات الوظيفية، وحضارة الترانسفير، وآفاق العلو من منظور مابعد الحداثة، والحداثة العلمانية في مرحلة السيولة، والجنس والجسد، والجنس والدلالة… وأورد المؤلف في نهاية كتابه نسخا من مراسلاته مع باومان، وحوارا مع المسيري. وترجم أبوجبر أغلب كتب باومان عن السيولة إلى العربية،. ونشر أبحاثا نقدية مقارنة أخرى عن مشروع المسيري باللغة الإنجليزية، مثل بحث: ( الحداثة في خطاب عبد الوهاب المسيري) ، ماليزيا2011، وبحث: (العلمانية:من الصلابة إلى السيولة)، ألمانيا 2013، وبحث: (ماكس فيبر ومراجعة العلمانية في مصر )، ضمن كتاب : ماكس فيبر في العالم، ألمانيا 2014. كما أصدر الباحث الجزائري الأستاذ بشير ربوح، رحمه الله، وهو من المقربين من المسيري كتابا بعنوان: (مطالعات في العقل والتنوير:عبد الوهاب المسيري نموذجا)، منشورات الرابطة العربية الأكاديمية للفلسفة، دارالفارابي،2012. ناقش فيه تفاعل المسيري مع اجتهادات مدرسة فرانكفورت، ومع أطروحات ماكس فيبر في مفاهيم: الترشيد، والعقل الأداتي، وتفاعله مع فلاسفة اللغة، ومع تفكيك دريدا…
ليس الحديث إذن عن مراجع المسيري طابوها، ولم يكن، رحمه الله، متسترا عن مصادره، بل كان متفاعلا مع مقروئه، وكان يذكر مراجعه ما وسعه السياق، لأنه غالبا ما يكون في حالة استغراق تأملي، وحالة توليد نصوص كبيرة مثقلة ومكتنزة بنصوص صغيرة لاتعد، أضاف عليها من موسوعيته، ومن تنوع الحقول المعرفية التي يتنقل بينها، ثم يخرجها بشكل مبدع ساهم، بنظري، في تطوير منظومة التفكير والإبداع على الصعيد العربي والإسلامي، من منظور إنساني منفتح.