من يستمع لقصصنا الخاصة؟ .. تغطية الصحفيين زلزال الحوز
عندما تضرب كارثة من الكوارث بلدا ما، فالأنظار تتجه رأسا، إلى الصحفي، وتغطيته الحدث، وحدود نجاعته في إيصال صورة الفاجعة، دون أن يُمنح كبير اهتمام بحجم المعاناة التي يتكبدها أمام تحديات كثيرة، من قبيل الموازنة بين المهنية والإنسانية، وإكراه الثقافة والجغرافيا، وإكراه الفجائية الاجتماعية والسوسيولوجية أيضا، وإكراه الحروب والقتل والإبادة كما حصل في غزة منذ السابع من أكتوبر 2024، وإكراه كفائية ما درسه الصحفي نظريا أمام حدث مستجد كليا لم يتصور يوما مواجهته، وأخيرا يحضر الإكراه الأبرز، وهو رواية قصته التي لا يجد من يستمع إليها بعد توثيقه قصص وروايات الآخرين.
هذه التحديات والعقبات والإكراهات، إلى جانب حرقة القصص الذاتية التي تلتهم دواخل الصحفيين وتؤرقهم، كانت الدافع في إصدار مؤلف جماعي، حرره مجموعة من الصحفيين الشباب المغاربة، اختاروا له عنوانا دالا هو “على مقياس ريشتر.. ما لم يرو في تغطية الصحفيين لزلزال الحوز”، (منشورات أكورا، ط1، 2025).
لن نبالغ إن وصفنا إصدار هذا المؤلف بالسلوك الثقافي الهام، لكونه أولا يرسخ تقليدا معرفيا، هو التوثيق للحدث، وكذلك التوثيق لتغطية الحدث، والتوثيق لمن غطى هذه الأحداث، هي عادة علمية دورها أن تمنحنا صورة كلية لتمثل حجم ما حصل واستيعابه من جوانب عدة، بالأخص إذا كان بحجم كارثة زلزال الحوز الذي ضرب المغرب في 8 سبتمبر 2023، الزلزال الأكثر فتكا ودمارا بالنسبة لتاريخ المغرب الحديث. ولا يزال العديد من ضحاياه رغم مرور ما يزيد على السنة يقطنون الخيام، وعملية الإعمار الخاصة بمنازلهم تسير بوثيرة بطيئة جدا، كما يشوبها الكثير من الأخطاء والإهمال.
توثق شهادة أغلب الصحفيين في هذا الكتاب، نوع التحديات التي واجهتهم اثناء تغطية الزلزال، أولها صعوبة الموازنة بين الإنساني والمهني، وهو التحدي الذي يظهر أن أغلبهم قد فشل في مواجهته، حيث لم يكن بالنسبة لهم إكراه المعلومات أو رفض الناس الإدلاء بتصريحاتهم أمرا ذا بال، بل كان إكراههم الحقيقي مجسدا في كيفية تغطية كارثة من هذا الحجم، ولأول مرة بالنسبة لجميعهم.
كيف يمكن لي، يصرح الصحفي إبراهيم إشوي، أخذ تصريح من طفل فقد عائلته، وتمكن رغم ذلك من إنقاذ حقيبته المدرسية من تحت الأنقاض. كيف يمكن، في شهادة أخرى للصحفي سعيد غيدي، أن يتجاوز المرء هول وفاة تراجيدية بامتياز، والتي أبيدت فيها أسرة كاملة من الوجود، بل حتى البنت المتزوجة اختارت في تلك الليلة أن تزور أهلها في جبال أيت تامليل، “.. لتتعشى معهم، مرفوقة بطفلها، كانت لمة أسرية، حول مائدة عشاء، لم يتخيلوا أبدا، أنه كان العشاء الأخير”.
من التحديات الأخرى، تواتر الأخبار بشكل كبير، والتي جعلت الصحفيين أمام تحدي ارتكاب خطأ مهني، لن يعتبر في وضع حساس كهذا، إلا توجيها للرأي العام، حسب شهادة سعيد غيدي لقد فوجئ الصحفيون الشباب، بعدم كفاية ما درسوه على المستوى النظري، فرغم أن تدريس الصحافة في المغرب عرف تطورات هامة وملحوظة، لكن الاكتفاء بدراسة الهرم المقلوب أو الاجناس الصحفية أو القوانين الحقوقية وغير ذلك..، لم تسعفهم أمام كارثة مستجدة كليا عليهم. لقد كان موقفهم حسب وصف غيدي أشبه بيوم الحساب المهني.
عند الحديث عن سلسلة جبال الأطلس، فلابد من الوعي بأننا أمام العمق الثقافي والحضاري للمغرب، الذي لا يزال مادة ثقافية ومعرفية وتاريخية وأنثروبولجية وسوسيولوجية عذراء إلى حد بعيد، رغم كل ما كتب عنها من قبل بول باسكون أو جاك بيرك أو كليفورد غيرتس أو جيستنار وغيرهم ممن درس جبال وقبائل المغرب، ولهذا عنون الصحفي أسامة طايع شهادته، بالحاجة المستجدة لأمثال هؤلاء من المغاربة، نظرا لحجم النقص الذي وجده الصحفيون في تكوينهم، البعيد كليا عن معرفة الخصائص الثقافية والتاريخية الخاصة بسكان جبال الأطلس الكبير من الأمازيغ. ولهذا علق أسامة بأن تغطية الكثير من الصحفيين، لم تستوعب حساسية الكثير من المواضيع كما لم تتحرز في أساليب تغطيتها، وهذا ما جعل الكثير من الناس يشعرون بأن التعامل مع قصصهم لم يكن لائقا ومحترما، كما لم يؤخذ حجم الصدمة التي يمرون منها بعين الاعتبار، بل بلغ الأمر، يعلق أسامة، بأن الكارثة بلغت حدودا ثم تسليعها فيها.
أما هول الصدمة التي أصابت الكثير من الصحفيين منهم جراء ما شهدوه من حجم الدمار والجثث التي صادفوها في القرى في منطقة الحوز، جعلت الكثيرين منهم يتسمرون عند تلك اللحظة الأليمة، غير قادرين على تجاوز الأمر، حتى بعد انقضاء التغطية، بل لجأ الكثير منهم للطب النفسي، ليس للشفاء فحسب، وإنما طلبا لمن يستمع لقصتهم هم أيضا، وإن كانت لا ترقى لمعاناة الضحايا والأسر، لكن الصحفي لا يمكنه أن يكون شاهدا فحسب، بل هو الشاهد المغموس في الوجع والألم والدم. لذا، لم يكن عبثا أن صرح الصحفي أنس الغنادي بأن ثقل الأسئلة الوجودية المركبة التي حاصرته ستكون لا محالة سببا في تقريره الابتعاد عن المهنة في المستقبل.
ليصف الصحفي أسامة باجي طبيعة سكان الجبل، استدعى في شهادته نصا للروائي المغربي عبد الكريم الجويطي، من روايته (ثورة الأيام الأربعة): ” في الجبل، حين يقول لنا إنسان أنه جوعان لا نعطيه خبزا فقط، بل نقتسم معه كل ما يوجد في الدار”، والذي نستخلصه من هذه الشهادة، أن الزلزال رغم قساوته فقد كان منبها لمعاودة اكتشاف سكان الأطلس، ممن أطلق عليهم أسامة باجي أصحاب الهامش المنسي والاغلبية الصامتة، هامش توقف فيه الزمن، ومواطنون يعيشون عزلة كبيرة عن العالم في مواجهة كارثة عظيمة الهول.
تحاول هذه الشهادات أن توثق أيضا، بعض التفاصيل المرتبطة بطبيعة سكان الجبل الأطلسيين، تضحياتهم التي بلغت تفانيا منقطع النظير في تفضيل ارسال المساعدات لغيرهم من القرى التي يرونها أكثر احتياجا، وفي كرمهم البالغ في استضافة ضيوف الجبل من الصحفيين وغيرهم، يؤمنون باقتسام كل شيء، من مأكل وملبس وأغطية رغم قلة ذات اليد، كرم وعطاء وتضامن وأخلاق جعلت الصحفيين يعدون أنفسهم قد جاءوا للمؤانسة بدل التغطية، كما جعلتهم يوثقون لنا خزان القيم والأخلاق التي لاتزال جبال الأطلس تحتفظ بهما. يقول أسامة: “بؤس الواقع وصعوبة التضاريس يعوضهما كرم لا يوصف. وحده ليل إيغيل قادر على كشف وجه آخر رغم قساوة المشهد”.
يوثق الكتاب أيضا تمازج الصحفيين المغاربة مع الكثير من زملائهم الأجانب، واكتشافهم حجم الدربة والاستعداد النظري واللوجستيكي الذي امتاز به هؤلاء، واكتشافهم أيضا محاولات بعضهم، يصرح الصحفي نور الدين البيار، فبركة مواقف تسيء لضحايا الزلزال، وصورة المغاربة. مواقف لا صلة لها بأخلاقيات المهنة أو القيم الإنسانية.
وأخيرا، تخبرنا هذه الشهادات، بما تلقنوه من تقاليد العمل الصحفي الميدانية، حين صرح محمد فرنان في شهادة له: ” هذه اللحظات البسيطة علمتنا أن التضامن بين الصحفيين، ليس رفاهية، بل ضرورة، تلهمنا لنكون أقوى أمام التحديات التي تواجهنا يوميا”. وتخبرنا أيضا بأنهم صحفيون أسهموا في تعرية واقع العزلة المخجل الذي يعيشه الأطلس، بشهادات حية تخالطت فيها المهنة بكل شيء، كما أبانوا حقيقة المرأة الأطلسية التي كانت تقف شامخة في مواجهة المعركة، والأهم أنهم فتحوا الباب أيضا أمام أسئلة سوسيولوجية ترتبط بالأثر البعدي الذي ستخلفه المساعدات الحكومية على البنية الاجتماعية والثقافية للسكان.