مصطلح الإنسانيَّة
يؤكد أندريه لالاند في موسوعته الفلسفية أن مصطلحَ “الإنسانيَّة” لم يولد في العصر الحديث إلّا في مطلع القرن التاسع عشر سنة 1806، عندما استعمله أحدُ المفكرين الألمان في ذلك التاريخ، وكان يريد به: “النظام التربويّ التقليديّ الذي يرمي إلى تكوين الشخصيّة الكلّيّة والإنسانيَّة بواسطة الإنسانيّات”. ويصف لالاند الـ “إنسانويّة” بأنها: “حركة فكريّة، يمثّلها إنسانويّو النّهضة، وهي تتميّز بمجهود لرفع كرامة الفكر البشريّ، وجعله جديرًا، ذا قيمة، وذلك بوصل الثقافة الحديثة بالثقافة القديمة، فيما يتعدّى العصر الوسيط والمدرسيّة”. ويضيف لالاند: “ليس الإنسانوي هو الذي يعرف القدامى، ويستوحي منهم، إنّه ذلك الذي يكون منبهرًا، منسحرًا بنفوذهم وسحرهم، لدرجة أنّه يقلّدهم حرفيًّا، يحاكيهم، يكرّرهم، يتبنّى نماذجهم، أمثلتهم، آلهتهم، روحيّتهم ولغتهم. إنّ حركةً كهذه مدفوعةً إلى أقاصيها المنطقيّة، لا تنزع إلى شيء أقل من إلغاء الظاهرة المسيحية”. يشي توصيفُ لالاند لـ “الإنسانويّ” بأن المجتمعَ كان ينظر بنظرةِ ارتيابٍ إليه، والى عدمِ تفهّمه دعوتَه وجهودَه، وكيف كان أيُّ تفكيرٍ وفهمٍ خارجَ فضاء الدين أو انشغالٍ بتعلّم شيءٍ غيرِ دينيّ يقلق الناس، لفرط ما ألفوه من احتكارِ الدين لفهمِ وتفسير ِكلّ شأنٍ ديني ودنيوي، إلى الحدّ الذي صار فيه الدينُ ونصوصُه بوابةَ الفهم والتفسير الوحيدة لكلّ شيءٍ في السماء والأرض، وأمست تفسيراتُه للاهوت والناسوت من البداهات الراسخة.
سبقت فلورنسا في إيطاليا غيرَها من المدن الأوروبية في ظهور دُعاة النزعة الإنسانيَّة الأوائل في القرن الرابع عشر، واشتُقّت تسميةُ “الإنسانيَّة” من تخصّص “الإنسانيَّات” الذي يدرس تراث وثقافاتِ الأقوام الماضية. كان المصطلحُ يستعمل ابتداءً لتوصيف من يهتمّ بفلسفةِ وآدابِ وفنونِ المجتمعات القديمة، ثم تطورت دلالتُه في عصورٍ لاحقة فأصبح يُطلق على من يقول بمركزيةِ الإنسانِ واكتفائِه بذاته. وكانت الدعوةُ لـ “الإنسانيَّة” إيذانًا بالانطلاق للخلاصِ من مصادرة المؤسسات الدينية للفهم البشري في أوروبا، واعتمادِ مرجعياتٍ أخرى في فهم العالَم بموازاة الدين، مثلِ الفلسفة اليونانية وثقافاتِ المجتمعات الماضية ومعارفِها. وازدهر على أثرِ ذلك تعلّمُ اللغة اليونانية، ونشطت حركةُ التنقيبِ والبحثِ عن مخطوطاتِ مؤلفاتِ اليونان في المكتبات والأديرة والكنائس، وصار الاتجارُ بها يحقّق أرباحًا جيدة. وأنتجت الجهودُ في القرنين الرابع عشر والخامس عشر تحقيقَ وتصحيحَ نصوص الفلسفة والآداب في العصر اليوناني وترجمتها إلى اللاتينية.
اتسع مفهومُ “الإنسانيَّة” بمرور الوقت، فلم يعد يقتصر على التخصّص في لغاتِ المجتمعات القديمة ودراسةِ فلسفتها وآدابها وعلومها ومعارفها، بل صارت “الإنسانيَّة” حسب لالاند:”تدلّ على تصوّرٍ عامٍّ للحياة، فهي تقوم على الاعتقاد بخلاص الإنسان بالقوى البشريّة وحدِها. وهذا اعتقادٌ يتعارض بشدّة مع المسيحيّة، التي كانت في المقام الأوّل هي الاعتقاد بخلاص الإنسان بقدرة الله وحده وبالإيمان”. وهو يعني أن فكرةَ “الإنسانيَّة” كأيّة فكرةٍ ينتجها البشرُ في التاريخ، فحين تظهر، في زمان ومكان ومجتمع، تتطور دلالتُها ويتكرّس معناها ويتبلور، وتتنوّع مصاديقُها وتتعدّد على وفق مراحلِ صيرورتِها المجتمعية، واستمراريتِها وتواصلِ حضورها في المجالات المختلفة.
لم تحتفظ دلالة “الإنسانيَّة” بمعناها كما هو لحظة البدايات، بوصفها تمثل اتجاهًا لغويًا أدبيًا جماليًا يهدف لإحياء التراث اليوناني والروماني، بل اكتسب ذلك المعنى مضمونًا فلسفيًا يتحدث لغة العقلانية النقدية، ويكتسي منطق التنوير ومقولاته ورؤيته للعالَم، وواصل معنى “الإنسانيَّة” صيرورته تبعًا لما ينعكس عليه من إضافات ومكاسب الفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع ورؤية العالَم المتغيرة من عصر إلى آخر. وتنوع معنى “الإنسانيَّة” تبعًا لتنوع الموقف الميتافيزيقي، وكيفية فهم الطبيعة الإنسانية، ونمط الرؤية للعالَم. وذلك ما أشار إليه رالف بارتون بري في كتابه: “إنسانية الإنسان”، بقوله: “ليس هناك من تعريف دقيق، منطقيا كان أم رياضيا للمذهب الإنساني، فإن المعاني المختلفة التي ارتبطت بهذا التعبير ما هي إلا انعكاسات لتفكير حقب مختلفة من تاريخ الإنسانية، ولمضامين شخصية واجتماعية متنوعة”. ويرى هيدغر: “إذا كنا نفهم من النزعة الإنسانية بوجه عام الجهد الرامي إلى جعل الإنسان حرًا من أجل إنسانيته، وإلى تمكينه من اكتشاف كرامته، فإن النزعات الإنسانية ستختلف حسب التصور الذي يكون لدينا عن الحرية وعن طبيعة الإنسان، وستتباين بنفس الكيفية وسائل تحقيقها، فالنزعة الإنسانية لدى ماركس لا تتطلب أية عودة إلى القديم، تمامًا كما هو الشأن بالنسبة للنزعة الإنسانية التي يتصورها سارتر تحت اسم الوجودية، وبالمعنى العام المشار إليه سالفًا تكون المسيحية أيضا نزعة إنسانية، من حيث إن كل شيء في مذهبها يرتبط بخلاص النفس وأن تاريخ الإنسانية يندرج في إطار تاريخ الخلاص. غير أنه مهما اختلفت أشكال النزعة الإنسانية من حيث الهدف والأساس، والصيغة ووسائل التحقيق، تتفق رغم ذلك حول هذه النقطة وهي كون إنسانية الإنسان الإنساني تكون محددة انطلاقا من تأويل وضع قبلًا: للطبيعة، للتاريخ، للعالم، لأساس العالم أي للموجود في كليته”.
كانت بداياتُ النزعة “الإنسانيَّة” أدبيةً، لكنها تمدّدت بالتدريج فاستوعبت الفلسفةَ والعلومَ والفنونَ والمعارفَ البشرية المتنوّعة، واللاهوتَ وكلَّ ما يتصل بالمعارف الدينية. وأعلن الإنسانيون موقفَهم الواضحَ الذي أعاد الثقةَ بقدرةِ العقل والاهتمامِ بدوره البنّاء في حياةِ الإنسان وتكوينِ معارفِه وخبراتِه المتنوّعة، واستوعب مفهومُ “الإنسانيَّة” بالتدريج القيم الأخلاقيةَ، والحقوقَ البشريةَ التي يستحقّها كلُّ إنسان بوصفه إنسانًا، من دون نظر لجنسه أو معتقده أو هويته العرقية. وتمادى بعضُ الإنسانيَّين في تشديدِهم على استغناءِ الإنسان واكتفائِه بذاته، والإعلاءِ من قيمته والارتقاءِ به إلى الحدّ الذي يضعه فوق كلّ شيء، بالنحو الذي صادر فيه الإنسانُ مكانةَ الله في العالَم.
بموازاة ذلك اهتم إنسانيَّون آخرون باستردادِ القيمة المهدورة للإنسان، لكنهم لم ينصّبوا الإنسانَ بديلا لله في العالَم. ومع أنهم وضعوا الدينَ في حدودِ اللاهوت ومعارفِ الدين الخاصة، ورفضوا مصادرتَه للعلم والأدب والفن، لكنهم رفضوا أيضًا الدعوةَ لاستغناءِ الإنسان واكتفائِه بذاته، وتنبهوا إلى أن الإنسانَ يظل بحاجةٍ أبديةٍ إلى صلةٍ بوجود مُطلَق يتخطّى وجودَه الشخصي، تتكرّس به كينونتُه، ويمنح حياتَه المعنى المسكونَ الإنسان باكتشافه.
وعلى الرغم من أن الإنسانيين الروادَ كانوا مؤمنين بالدين المسيحي، بل كان إيراسموس الهولندي “1469-1536” لاهوتيًا ومترجمًا للكتاب المقدّس، وحاول أن يقدّم قراءةً جديدةً للإنجيل تضع المسيحيةَ أفقًا لديانة عالمية. يصف هاشم صالح إيراسموس بأنه: “الشخصية التي جسدت مثل عصر النهضة والنزعة الإنسانية في أرقى تجلياتها، ولكن لا يفهمنّ أحد من هذا الكلام انه كان مضادا للدين. على العكس، لقد كان مؤمنا مستنيرا راسخ الإيمان ولأنه كان مستنيرا، فإنه وقع في صدام مع رجال الدين في عصره: أي مع جمهور الكهنة والرهبان الذين كانوا يشكلون عددا غفيرا في ذلك الزمان، وأكبر بكثير مما هو عليه الحال في أوروبا الحديثة الحالية”.
كذلك كان الإيطالي فرانشيسكو بترارك “1304- 1374” يرى للسيد المسيح مكانةً ساميةً يتفوّق فيها على غيره، إلا أن إنسانيّين آخرين دعوا في وقتٍ لاحقٍ إلى “إنسانيّة” بعيدةٍ عن الدين، فاتخذت الدعوةُ لـ “الإنسانيَّة” لنفسِها مسارَين:
1. مسار متصالح مع الدين، وإن كان لا يقبل بتأميمِ الدين ومصادرتِه لكافة أشكال المعرفة البشرية، بل يخصّ المعرفةَ الدينيةَ باللاهوت والكتاب المقدّس.
2. مسار آخر لا صلةَ له بالشأن الديني، وهذا المسارُ هو الذي اكتسب حضورًا لافتًا في الفكر الغربي منذ القرن الثامن عشر، وتعاظم نفوذُه وتأثيرُه في القرنين التاسع عشر والعشرين، وترك بصمتَه في العلومِ والآدابِ والفنونِ المختلفة، والحياةِ الفردية والمجتمعية. بناء على أن كل عصر يمتلك معاييره الخاصة للمعرفة والزمن والجمال وغيرها، لأن “العصور المختلفة محكومة بمعاييرها الخاصة” كما يرى هيغل.