البِشْرِيُّ… جاحظُ مصر وكاتبُ النّيل
” أدب البشريّ صورة فذّة لا نظير لها في الأدب المعاصر، فهو فصل مستقل من تاريخنا الأدبي، يصوّر لونا من ألوان هذا التاريخ لا نجده عند كاتب آخر من كُتّابنا المعاصرين، باستثناء صديقنا المازِنيّ .” طه حسين / من كتاب قطوف
لن تجد كلاما يجري هكذا على لسان عميد الأدب العربيّ إلا إذا تعلّق الأمر بكاتب من الطّبقة الأولى، أو على الأقلّ، كاتب له من المَثابَة ما يجعله منفرداً بشيء ما عن أقرانه من الأزهريين أو خارج أسوار الأزهر. ولن نضطرّ في هذا المقام إلى التذكير بدور الأزهر في تخريج أرقى العقول وإنبات أفضل ما عرفه العالم العربي من أقلام، فقد أومأنا إليه حين كتبنا عن المرصفيّ، ولا داعي إذن أن نجعل من السّطر سطرين، ومن الصفحة صفحتين، مُعاوِدينَ نفس الكلام؛ وهذا ما سيدفعنا إلى إفراد أكثر مساحة هذه المقالة عن أديبنا الأزهريّ عبد العزيز البشريّ، مهتمّين بابن الدّار لا بالدّار نفسها، موقظين روحه في زمن توثر فيه الأرواح السّبات والاستِنامة.
وبعد، فإن في مكتوبِ المرء بعضاً من وِجدانه وروحه،تحسّ بهما يسريان بين الكلمة والكلمة، وبين العبارة والعبارة، بل إنهما ينتقلان إلى السطر فالسّطرِ، كالماء ينتقل متدفّقا بين درجات السّلّم إذا أُفرِغَ من علٍ، يصافح كلّ درجة بنسبة ما من بعضه فينتقل إلى الأدنى وهلمّ نازلا؛ وكذاك مراعِفُ الأقلام هي نفسها أجزاء الوجدان والروح مبثوثتان على الصحائف، تعترف للقارئ بما يحمله المرء في جوفه منصقِلا بخواطر وسوانح مؤلمة ومبهِجة، مُحْيِيَةٍ وقاتلة؛ فلا يكاد يلقي ببصره على عبارة مُبكية حتى يقول: كم عانى هذا الكاتب فأفرغ جوفه مسطوراً في كتاب كي لا يحترق ! وإذا صادف عبارة محزنة قال: هل في مُكنةِ المرء الكتابة إن بلغ به الحزن هذا المَبلغ ؟ وإن وقف أمام ما يجعله باسماً قال: هذا الكاتبُ لا يأتيه الحزن من بين يديه ولا مِن خلفه؛ وإن أدرك عبارة تعصفُ باللّبُ، بديعة الحبْك قال: صاحب هذه المعاني التي بلغت سقف البيان لا يسعنا إلاّ أن نُفسح له مساحة في جبهة التاريخ.. !
فالكاتب إذن حين يكتب فَرِحاً أو محزوناً أو كئيباً أو ساخرا، وفي كلّ حالاته، إنّما يريد أن يعبّر عن مخبوء صدره لقارئ يُمكن أن يحمل قلبا يتعاطف معه أو يواسيه، كما قال بشّار :
ولابد مِن شكوى إلى ذي مروءةٍ // يواسيكَ أو يُسْليكَ أو يتوجّعُ
ولقد امتهدنا الكلام بما قرأتَ عالِيَهُ لأنّ شيخنا الأزهريّ من الذين عبّروا عن حال المصريّ في عصر النهضة(1)، بدقائق ما كانت تحفل به هذه المرحلة من العُمر العربيّ، فقد كتب بجلباب الفلاّح البسيط،طارقا بقلمه جميع ما يشغل مَن يحملون عقولاً عادية،وما تحفل به التجمعات البشرية التقليدية، كالأسواق والأرصفة ودور العبادة وغيرها، لكن بلسان الجاحظ أو عبد الحميد الكاتب أو ابن المقفّع وغيرهم(2)، ولعلّه ممن تأثر بالجو العامّ الذي أدّى إلى إيقاظ وبعث اللغة العربية الأصيلة، ذات اللفظ الجَزْل والعبارة الفخمة المصقولة بلاغةً وبياناً مصونةً من كلّ عُجمة، كأنّما دعته الضرورة لذلك وفاء للأزهر ونهج الأزهريين في التأليف، ولكن الأرجح تأثّرُ الرّجل بمنهج الجاحظ في الصّناعة الأدبيّة حتى بات جاحظ مصر لقبًا، فقد كتب في موضوعات شتى بأسلوبه المائز، متفرّداً به بين أترابِه ولِداتِه، وقد شهد خليل مطران بذلك قائلا:” ها هنا يمرّ المُطالع بقلائد وفرائد من خطب وفصول في الأدب لا يُخرِجُ يتيمَها،ولا يُحكِمُ صَوْغها وتنظيمها إلا قلم البِشريّ ولسان البشريّ.”(3)، كما أثنى عليه الزّيّات قائلا: ” الأسلوب الذي كتب به المنفلوطي والبشريّ والرّافعي والمازنيّ، ويكتب به العقّاد وطه حسين هو ثمرة التطور الحديث في الأدب والعلم والفن والحضارة، وهو وإن اختلف بين الكتّاب… يشتركُ في الصفات الجوهرية للغة وهي الصحة والنقاء والمرونة، وفي الخصائص الأصلية للبلاغة وهي الأصالة والوَجازة والتّلاؤم”(4)،فلله درّ شيخنا ممدوحا بهذا الكلام المرصّع، يا له من محظوظ من أتى من نصيبه قول مطران،بل نصيفه يكفي أمّة بحيالها من الأدباء ! فمن يكون هذا الرّجل الذي تأبى المدائح إلاّ أن تتقاطر عليه من هنا وهنالك ؟
هو عبد العزيز البشريّ(1886_1943)،ابن سليم البشريّ شيخ الأزهر المعروف. أُلحق في بواكير حياته بالأزهر بعد إلمامه بمبادئ القراءة والكتابة مُتِمًّا حفظ القرآن، وظلّ متدرّجا في التعليم الأزهري حتى حصل على شهادة العالِميّة، بعدها دعته وزارة المعارف فجعلته محرّرا فنّيّا لشهرةٍ حازها بأدبه، ثم ولي القضاء بمحكمة إمبابة تزامنا مع انتدابه لتدريس الأدب في الأزهر، ثم تدرّج في مناصب عدّة حتى أصبح وكيلا لإدارة المطبوعات، فسكرتيرا برلمانيا لوزارة المعارف، ثم عُيّن رئيس تحرير مجلّة المجمع اللغوي الملكي، فمراقبا إداريا بدل الرّاحل “محمد جاد المولى بك”، فلبث في منصبه ذلك إلى أن لبّى نداء السّماء صباح الخامس والعشرين من ديسمبر 1943.(5).
نشأ البشريّ قارئا نهماً،مجبولا على حبّ الأدب، عكوفا على عيون البيان العربيّ، يروي غلّته منها مستظهراً دُررها،مفتونا بغُررها؛ وكان من فتونه بالأدب وشغفه به تفرّغه للكتابة الأدبية، مقبلا على الصّحف الأدبية باسطاً قلمه فيها في حداثةٍ من سِنّه؛ كما كان مفتتنا بالفنّ وبأهله، ولا تفوته فرصة حضور مجالس الطرب والغناء، بالرغم من كونه ابن بيئة دينية تفرض مجانبته مجالس اللهو والسّمر، ما جعله رقيق النفس مُرهفَ الحسّ؛ كما كان حادّ الذكاء، حاضر البديهة، صافي الذهن، لمّاح الخاطر، ذوّاقا إلى أبعد الحدود،قويّ الحس إلى درجة نادرة حقا لا يكاد يمرّ به شيء إلاّ التقطه التقاطا، ورسمه في نفسه رسما يخالطه مخالطة حتى يصبح كأنه جزء منه.(6). كما امتاز بحلاوة فكاهته وحسن محاضرته وسعة اطلاعه على ما يموج به المجتمع _ المصريّ تحديدا_ من حركية بين الناس على اختلاف أحوالهم وخلفياتهم، ولعلّه بات خبيرا في هذا التدافع البَشَري لطولِ المُخالطة والمُداخلة والإنصات لنبض الشارع كما يقال، ولعلّ ما في مقالات كتابيه (المختار) و ( في المرآة) تحديدا_ ولنا عودة إليهما_ دليل على خبرة الرّجل في معرفة النّاس وكشف ما ينطوون عليه. ولمّا كان البشريّ امرئا بدَويّ الطّبع كما كان بدويّ السّمت والسُّحنة، فهو الذي حافظ على حسّ الطرافة والفكاهة والنكتة، فتجده يُشيعُ الأفكوهة في أدبه المكتوب أو المُذاع راديويّا، كما يُشيعها في مجالسه مُضحِكاً حتى الثّكلى ومن ليس مستعدّا للضحك والمرح، وكان كُبراء جُلسائه وأعيانهم يشتهون حديثه، لما فيه من خفّة الروح وحلاوة الدعابة وروعة النكتة(7)، ولعلّ هذا الميل إلى الدعابة مما يتميز به المصريون بشكل لافت وسط شعوب العرب (8)؛ ولكنه في البِشْريّ بادٍ بقرنيه حتى غدَا بين أقرانه رمزا للهزل وخفّة الظّلّ، ورمزا من رموز المقال السّاخر(9)؛وهكذا قضى حياته بين الجِدّ في مواطنه وبين الترويح عن النّفس في مواضع أخرى.
إن التمكّن من ناصية اللغة والقدرة على تطويعها حسب ما يقتضيه المعنى مَلَكةٌ لم تتيسّر لكثير من الأدباء، وإن كانوا في تعدادهم كثرةً كاثرة. فما أكثر الأدباء في زمن قلّ فيه الأدب، حيث تلقى للأقلام خفّة كخفّة الهواء، والحقّ أن للقلم ثقلا لا يعرفه إلاّ من يُكابد في تسويد الصحيفة اليتيمة مكابَدة الشجيرة في فلاة تبحث عما يجعلها قيد الحياة، وإنّ الأديب الحقَّ ليتهيّبُ الكتابة، وإن أحكمَ بعضا من الصّنعة في التأليف؛ فلا يطمئنّ لملمس الأفعى الناعمة إلاّ الصّغارُ الأغرار… ولقد أدرك البشريّ حجم المسؤولية الملقاة على كلّ من انتدب نفسه ليقرأهُ الناس حُروفا ومعانيَ وأساليبَ، حتى أصابته لوثة تمزيق الأوراق وتحريقها كلّما اضطرّ إلى إهمال جُلّ ما انتضح به قلمه، مُبقياً على قليل من كثير، أو مُجْهِزاً على كلّ شيء إذا لم يبلغ من إجادة الصّنعة كمالها وتمامها. يقول : ” كنتُ أدرك تمام الإدراك أنني ناشئ لا أجيد البيان، فإذا كانت لي طبيعة فلن تتهيّأ لي الإجادة إلاّ بعد شدة معاناة وطولِ تمرين، وظلَلَتُ على هذا دهراً وأنا في ارتقاب الأحسن،مما يثبُتُ للأنظارِ حفظُهُ وأدّخرَهُ للجمع ثم للطبع.”(10). ولعله، مع حرصه على بلوغ صنعته القمة والذروة، إلى جانب مواضيعه الهزلية، قد قبض على مُراده أخيراً بعد أن حظي بلقب جاحظ مصر، ويا لها من حظوة أن يوضع أديب في زماننا هذا في منزلة أبي عثمان بن بحر، وهو من هو في تّاريخ الإنسانيّة الأدبيّ ! (11).
إن أصحاب القلم إذا وصفوا شخصا بالجاحظ، فلأنه إذن مَلَك دقّة في التصوير، وإجادة في الوصف، وقدرة على استحداث مواقف السخريّة والطرافة، وقوّة في الأسلوب، وأدب الجاحظ جُملةً مؤسس على تلكم العناصر المذكورة، ولا يكاد كتاب من كتبه يخلو منها(12)، وهي كذلك نفسُ مُحدّدات أدب البشريّ حَذْوَ القُذّة بالقُذّة، إلاّ فيما اتصل بالمواضيع التي عالجها من صميم معيشه اليومي البعيد بقرون عن أيام الجاحظ وعصره وبيئته(13). والحق أن البشريّ جدير بأن يُقرن بهذا الأديب الكبير،خاصة في جانب ميله إلى اصطناع السخرية والدعابة في نوادره وكتاباته، ثم في تصويره حيوات الناس المصرية وما حفلت به؛ وإن الرّجل نفسه لا يُخفي تأثره بأبي عثمان، فهو القائل مجيبا عن أحد الأسئلة :” أقدّر الجاحظ وأستطيع أن أؤكد لك بأني أرتضي صحبته، مفاخرا بها حريصا عليها،ولقد عرفته من الساعة التي أدركت فيها أثرا للقراءة القائمة على الدّرس والتّحقيق… إن أسلوب الجاحظ قد أربى على الغاية،جودةً وأناقةً ورشاقةً وجمال توقيع… وإن الجانب الفكاهي فيه ليصور لنا مبلغ قدرة الرجل الفائقة على التهكم كلما شاء أن تحزّ نقداته في القلوب…”(14). وبتسليمنا أن الرجل مفتتن بالجاحظ، والإعجاب بأديب لا ينقص قدر أديب، فإن البشريّ يصرّح أحيانا برأيه، مخالفا به فكرة أبي عثمان، وهنا يظهر بجلاء أن إعجاب البشريّ بأستاذه لم يكن إعجابَ تقديس وتبعية مطلقة، إنما أعطى لنفسه مقدارا من الحرية تُمكّنه من اعتبار الجاحظ كأي أديب يُؤخذ من كلامه ويُردّ؛ يقول في أقاصيص البخلاء :” ولا أظن أن الجاحظ كان صادقا في أغلب ما روى عن بخلائه، ولعله إن صدق في أصل بعضٍ فقد غلا فيه غلوّاً كبيرا “(15).
فليكن من أمر الجاحظ ما كان، ولنعد إلى البشريّ الذي يهمنا أمره، فلا ينبغي الافتتان بمحاسن الفرس وننسى الفارس، فلنا في مؤلفات شيخنا _ قطوف و المختار و في المرآة_ ما يُحتفى به ويُعجِب حدّ الدهشة كذلك، وأي كاتب كيفما كان فهو متأثرٌ في مرحلة النشأة والتكوين لا محالة بمن سبقوه، وسنظلم الرّجل إذا قلنا إن قلم وعقل البشريّ مِن قلم وعقل أبي عثمان فقط ؛ فإن كان المرء منا يؤخذ بالأسلوب الرشيق وبالعبارة الأنيقة وبالديباجة الخلاّبة فالبشريّ ممن أوْفَوْا فيهما على الغاية، وكتابه (المختار) نموذج حيّ لما ندّعيه؛ وإذا كان منّا من يُستهام بالوصف، فالبشريّ وصّافٌ دقيقٌ، كالرّسام الماهر ينقلُ إليك ما رأته عيناه كأنما رأته عيناك،وجُلُّ كتابه (في المرآة) مكسورٌ على وصف بعض من كانوا على مقربة منه في محيطه القريب؛ أما البِشريّ الساخر المُتهكّم فحدِّثَنَّ فيه ولا حرج، فالرّجل آيةٌ من آيات الله في الأفاكيه والأماليح، وحسبُ المرء معرفةً به أن يدري أنه كان من محرّري ” أبو نظّارة ” و” التنكيت والتبكيت” و” الكشكول” و”المسامير” وغيرها (16)، إلى جانب الأديب الساخر محمد البابلي والشاعر حافظ إبراهيم وغيرهما؛ فالبشريّ إذن مَلَكَ زمام اللغة والأسلوب والوصف، وملك روح الدعابة والفكاهة، فكان جاحظ مصر وكاتب النّيل _ بتعبير طه حسين_ بلا مُغالِب ولا مُناكِد.
وبعد، فليكن كتاب (المختار) أوّل ما نسلّط عليه الضوء من إرث البشريّ، وهو طائفةُ مقالات نُشرت بجريدة الأهرام الأسبوعية، طُبع في جزأين سنة 1935أول مرة بمطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، وطُبع لاحقا طبعات أُخَر. قرّظه جزأه الأول شاعرُ القُطرين خليل مطران وأتى فيه بإلماعات باهرة أجملَ فيها أهمّ ما جاء به الكتاب قائلا: ” سأطلع من ثنايا مباحثه إلى ذروة أرفع عليها عَلَم أدبه، وسأقتبس من آيات نبوغه ما أجلو به للمطالعين أمثلة من صور فضله.”(17)؛ حقا كان مطران الشاعر من الكتاب بموقف الدّليل من متحف مؤثث بشتى صنوف النوادر من التحف، دون أن يُزعج القارئ المتأمِّلَ مِن إعمال ذهنه والتّملّي بقراءته. و الجزء الأول من الكتاب مبوّب إلى ثلاثة أبواب، أوّلها الأدب وثانيها الوصف وثالثها الترجمة؛ أما جزؤه الثاني فجاء مصدّرا بتقريظ العميد طه حسين، وقد أثنى على الرّجل فيه أجود ما يكون الثناء، مبدياً مزاياه ولياقاته المعرفية والأدبية، وكأن العميد في هذه التصدير يؤدّي ديناً للرّجل من تاريخ صحبةٍ جمعتهما في الأزهر ومن عظمة البشريّ الأديب التي ينبغي لقراء الوطن العربي أن يعرفوها فينزل في قلوبهم وعقولهم أحسن منزل؛ وقد عدّد طه خصالا ثلاثا جعلن أديبنا على ما هو عليه،أولها كونه مصريّا قاهريّا، ثانيها كونه بغدادي الأدب ( لمعاشرته الجاحظ والأصبهاني وغيرهما)، ثالثها كونه مُلِمٌّ بالحضارة الغربية فنّها وأدبها وثقافتها عموما؛ أما هذا الجزء فمبوّب إلى بابين، أحدهما في الفن والمُفْتَنّين والآخر في المداعبات والأفاكيه؛ فجملة الكتاب إذن كشكول من مواضيع شتى تتيامَنُ جِدّاً وتتياسرُ هزْلاً؛ فهو الأديب العارف بالأدب وباللّغة موضوعاً وتاريخاً، وهو فيلسوف الفنّ إذا تحدّث في مهيعه، وهو الهازلُ الفَكِهُ إذا استطرف واستملح، فتجده يأخذ النكتة من إحدى حارات مصر البسيطة فيعالجها تحليلا وتفسيراً بلغته الرّصينة وأسلوبه البليغ، حتى لكأنّك تقرأ لكاتب من القرن الثالث أو الرّابع للهجرة. والكتاب؛ مع الإشارة إلى أن الجزء الثاني من المختار شغلت فيه مواضيع الدعابة والفكاهة الحيز الأوفى (ثنتان وأربعون مقالة)، تأكيدا مرة أخرى على ميل الرجل إلى الجانب الجِدّيّ المُغلّف بالهزل ،مع الاعتذار أحيانا لبعض الفئات كي لا يُقرأ كلامه استهزاءً أو تبخيس أقدار، وهذا من أدب الكبار وتواضعهم أوّلا،ونزوع إلى اتقاء سهام المنقودين وفتنتهم ثانيا(18). أما كتابه (قطوف) فهو مقالاتٌ مجموعة _ وهي آخر ما جُمع له بعد كتاب (في المرآة)_ طُبعت بعد وفاة البشريّ بأربع سنوات( 1947)، وقد وطّأ له العميد طه حسين بتوطئة جمعت التحسّر على الفقد ورُزْءُ مُقرّبيه في وفاته،كحسرة الخنساء على صخرٍ أخيها، والاحتفاء بالفقيد وبمناقبه ولياقاته (19)وبأدبه الأصيل، حتّى وصفه بكاتب النّيل، الكاتب الذي رسم الابتسامة على ثغر الحياة في مصر مهما يكن حظ الحياة فيها من العُبوس والحرج ومن النُّكْر والضّيق. والكتاب جملةً أربعٌ وخمسون مقالة نُشرت في مجلات وصحف عديدة، وألقي بعضها على أمواج الرّاديو،موزّعة المواضيع بين الأدب والدين والفن والتاريخ والاجتماع البشري والحرب وكلّ ما يتّصل بالمصريّ خاصّة وبالعربيّ عامّة، سائرا فيه على نفس منوال (المختار) في تحليل الظواهر وتفسيرها، لائذاً فيه بلغته العالية وبيانه الفاتن، دون التفريط في أسلوبه السّاخر ولسان الفكاهة لديه. ومع كون البشريّ يكتب بلغة القدماء، لم يمنع هذا طه حسين إعجابه بالكتاب و رغبته في إدراجه ضمن المقررات الدّراسية في المرحلة الثانوية؛ يقول: ” ولو علمتُ أني أستطيع أن أشير على وزارة المعارف فتسمع مني وتقبل مشورتي لأشرت عليها في أن تجعل كتب عبد العزيز البشريّ،وهذا الكتاب منها خاصة،بين الكتب التي تدرّس في المدارس الثانوية، فما أعرف أقدرَ منه على تحبيب الأدب العربي وتزيينه في قلوبهم.”(20). فالبشريّ إذن في هذا الكتاب _ إضافة إلى بعض مواضيع السيرة النبوية_ عكف على الحياة المصريّة التي ذهب أكثرها وبقي أقلّها مقبلةً على أخرى جديدة،تنبّأ البشريُّ بذكائه ببعض ملامحها وحقائقها ومآلاتها .
أما شأن كتابه( في المرآة) فشأن كتابٍ فريد لم يُكتب مثله في زمن البشريّ ولا قبله ، لانفراده بموضوع الوصف على الطريقة البِشريّة الاستثنائية، وهو جمهرة مقالات نُشرت في السياسة الأسبوعية، طُبعت سنة 1927 بمطبعة دار الكتب المصريّة بالقاهرة، موشّحاً ببيت جميل لشاعر النيل(21)، مُصدّرا بتقديم الكاتب نفسه، أشار فيه إلى سَبْقِهِ _إلا ما كان من تشابه طفيف بينه وبين بخلاء الجاحظ_ إلى هذا النمط من التصوير الوصفي/الكاريكاتوري لشخصيات أدارت عليها الألسنةُ الكلام في كلّ مكان، وأخرى معروفة في حيز ضيق من صعيد مصر. وقارئ الكتاب سيقف على نمط وحيد اعتمده البشريّ في التعاطي مع شخصياته المختارة ( سعد زغلول،أحمد لطفي السيد،حافظ إبراهيم…) وهو النمط المازجُ بين المقالِ السّيرةِ و بين المقالِ الوصفيِّ و بين المقال السّاخر(22)، حيث يروم الكاتب تقريب سيرة المرء من الأذهان مُضيفاً أوصافه الخِلقيّة ومناقبه الخُلقيّة دون إغفال اللّمسة الساخرة وروح الدعابة المبثوثة في بعض المقالات حسب هامش الحريّة ومسافة القرب اللذين يفصلان البشريّ وشخصيّاته المشفوعة أحيانا برسومات كاريكاتيرية هزليّة_ وتمتدّ السخريّة أحايينَ إلى أن تُلامس الهجاء_ كشأن مقالة ( زِيوَرْ باشا) و (علي بك إبراهيم) و( أحمد مظلوم باشا) و (أبو نافع باشا) و ( شيخ السّوق) (23)، بخلاف بعض الشخصيّات التي لا يجوز في حقّها التصوير الكاريكاتوري، لقيمتها الاعتبارية وحجمها القومي في المجتمع كالزعيم سعد زغلول وأحمد شوقي وإسماعيل صدقي باشا و الشيخ أبو الفضل الجيزاوي وهدى الشعراوي وأمثالهم، مع الإشارة إلى أن هذه الأخيرة هي المرأة الوحيدة من بين ثلّة الرّجال الذين اختارهم البشريّ لكتابه، و الأمر مردود _ بلسان البشريّ نفسه_ إلى رِجعيّته ونشأته في بيت محافظ أوّلاً، وتحرُّجه من كل ما يمتُّ بصلة بالنهضة النسويّة وتحرير المرأة وأمثال هذه القضايا(24).فقد جمع البشريّ إذن في كتابه لفيفاً من النّاس اختلفت منابتهم ومشاغلهم وأقدارهم، فمنهم أرباب السياسة والحكم، ومنهم المتصوّفون وأهل الدّين، ومنهم الأدباء والشعراء، ومنهم أهل المال والأعمال، أمّا بسطاء البشر، ممن يبتغون المعايش في دنياهم، فلم تشهدهم مرآته وإن كان البشريّ من مُخالطيهم ومُعاشريهم، كأنه لم يجد في هذه الفئة ما يستهويه للكتابة وما ينتخبه لوصفه وسخريته !
الكتاب إضافة إلى هذا توسّل فيه البشريّ اللغة العامّيّة المصريّة في مقالات عدّة رغم قدرته على ترجمة فحاويها إلى عربية فصيحة، لكنّ الكاتب أحيانا يضطرّ إلى تضمين نصّه العربيّ الفصيح بعضا من عاميّة الناس وكلامهم الدّارج، فلعلّها أفصح ما يكون مُتَضَمَّناً في عبارة عربية فصيحة، مادامت الفصاحة في أبسط تجلّياتها الإبانة والإيضاح. وقد كان بهذا من مذهب القائلين بالترجمة الخائنة أو العاجزة عن نقل زخم الإحساس والشعور المُودَع في العبارة الأصلية إلى نسختها المترجمة(25).
هي إذن كتبٌ ثلاثة حاولنا _ ولم تبلغ محاولتنا المرام_ شقّ صدورها لعلّ القارئ يعرف من كنّا نخوض فيه على مدى هذه الصفحات بنميمةٍ لا تُحرّمها شريعة الأدب؛ و إن كلّ صفحةِ كتابٍ سوّدتها يدٌ فهي مُنبِئةٌ عن عقلٍ حيٍّ حُرٍّ يجري مجرى أفلاك السّماء،لا تكبحه حدود ولا موانع، وهذه الآثار نقرأها اليوم بعد عقود اندرست وانطوت، ولا نظنّ البشريّ نفسه تصوّر أننا نفتح شوارده ذات يوم، فنسهر جرّاها ونختصم… ولله درّ شوقي منشداً :
فَلا تَحتَقِر عالَماً أَنتَ فيهِ // وَلا تَجحَدِ الآخَرَ المُنتَظَرْ
وَكُن رَجُلاً إِن أَتَوا بَعدَهُ // يَقولونَ مَرَّ وَهَذا الأَثَرْ
شيخنا البشريّ لم يكن مؤرخا للأدب ولا ناقدا فيه، ولو انبرى لهما لكان فيهما ناظورةَ النُّقاد والمؤرّخين لا ينازعه فيهما إلا قلّةٌ، فاكتفى ببذل آرائه في الأدب واكتفى بلقب أديب وحسبُهُ ما لقيه من احتفاء ممن عرفوا مثابته وفضله، رغم أن الزّمن طمس اسمه بعد وفاته فخفت ذكره بين الناس، ولعلّه لو أبدع في الشعر واسترسل فيه _ كما صنع مع المقالة_ أو في القصة أو في الرواية، لَحَاباهُ التّاريخ ومنحه بعضا من صكوك الشهرة والانتشار، فياليْتَه فعل ! وهل تنفعُ شيئاً لَيْتُ ؟… ولكن يكفيه شرفا أنه جعلنا اليوم نعرف دقائق حياة مصرَ عصرِ النهضة ورجالاتها، كما جعل الابتسامة على شفاهنا من نوادر ما خلقه من طرائف ودعابات، و قوّى البصائر بآرائه الفريدة في قضايا كثيرة… فنمْ قرير العين يا جاحظ القاهرة كما نام جاحظ البصرة، واهنأ في مرقدك يا كاتب النّيل الذي لا يجفّ وإن جفّت حوله القلوب…
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1_ النهضة العربية، كما تعرف باسم اليقظة العربية، أو حركة التنوير العربية؛ هي الحالة الفكرية والاجتماعية السائدة أساسًا في مصر ولبنان، وامتدت لتشمل عواصم عربية أخرى كدمشق، بغداد، وفاس ومراكش، تمامًا كما في المهجر، خلال القرن التاسع عشر. بدأت في مستهلّ القرن التاسع عشر، ويضع بعض المؤرخين أمثال ألبرت حوراني تاريخ بدء النهضة عام 1798 بالحملة البونابارتية. ومن أبرز مظاهرها انتشار الطباعة، وظهور الصحافة ودُور النشر، والتوسع في إنشاء المدارس والجامعات، وإحياء التراث العربي وتحقيقُهُ، ونهوض اللغة من كبوتها التي عرفتها في عصر الانحطاط، وتفاعلُ الأدب العربي مع الآداب الغربية تفاعلاً عميقاً أدى إلى ظهور فنون أدبية جديدة لم يكن لها في العربية وجودٌ من قبل، كالأقصوصة والرواية والمسرحية.
أفضت النهضة إلى إعادة انتشال اللغة العربية مما طرأ عليها من تقهقر، وقدّمت أدبًا عربيًا معاصرًا للمرة الأولى منذ قرون، وعبر الجمعيات السياسية بعثت النهضة مشاعر الهوية العربية مجددًا، كما ناقشت قضايا الهوية للبلاد العربية المختلفة والتحرر من الاستعمار العثماني. رفع أغلب رجال النهضة شعارات الثورة الفرنسية، بالحرية والعدالة والمساواة، كما تأثروا تأثرا بالغًا بفلاسفة عصر الأنوار الأوروبي. ( جمال باروت، حركة التنوير العربية في القرن التاسع عشر، منشورات وزارة الثقافة،دمشق، 1994، ص 5_7 ) ؛ و يمكن العودة كذلك إلى ( عبد اللطيف حمزة،المقالة الصحفية في مصر، ج2، ط1، دار الفكر العربي،1963، ص 9 _12 ). وإلى ( عبد العزيز المقالح، عمالقة عند مطلع القرن، ط 2، 1988،منشورات دار الآداب، بيروت،ص 1_8) .
2_ من بلغاء الأدب العربي المعروفين والمعدودين، وهم ممن شاعت سيرهم في كتب الأدب والتّاريخ .
3_ عبد العزيز البشري، المختار، مؤسسة هنداوي، المملكة المتحدة، 2014، ص 12.
4_ أحمد حسن الزّيّات ، تاريخ الأدب العربيّ، دار نهضة مصر للطبع والنشر، القاهرة،ص 432.
5_ رجعنا في حشد تفاصيل سيرة عبد العزيز البِشريّ إلى موسوعة الأعلام للزِّرٍكلي،و كتاب الأزهر وأثره في النهضة الأدبية ، وكتاب النور الأبهر في طبقات شيوخ الجامع الأزهر، وكتاب النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين(ج 2)، وكتاب الأزهر في ألف عام، وكتاب لمحة من تاريخ الأزهر، وكتاب الجامع الأزهر باعثا لشرارة النهضة العربية الموسوعية الحديثة ، وكتاب أدب الفكاهة عند الجاحظ لأحمد عبيد، وكتاب “كُتّاب المقال وتطوره في الأدب المعاصر” لمرسي أبو ذكري، وكتاب أدب البِشريّ لجمال الدين الرمادي، وكتاب الفكاهة في مصر لشوقي ضيف، وكتاب أعيان البيان للسندوبي، كما رفدنا هذه السيرة بما كتبه العميد طه في مقدمة كتاب المختار. أما كتاب “عبد العزيز البشري الأديب السّاخر” فلم نقف له على نسخة ورقية ولا على إلكترونية.
6_ عبد العزيز البشري، قطوف، مؤسسة هنداوي، المملكة المتحدة، 2014، ص 10.
7_محمد كامل الفقي، الأزهر وأثره في النهضة الأدبية الحديثة،المطبعة المنيرية بالأزهر، مصر، ج3، 1956ص 10.
8_ أكّد شوقي ضيف في كتابه (الفكاهة في مصر) أن أهمّ ما يميز المصريين في عصرهم الحديث روح الفكاهة المنبثة في أحاديثهم، فهم مشغوفون بالنكتة على كلّ شخص وعلى كل شيء، وفي أحرج المواقف وأدقّها لا تلبث بارقة الفكاهة أن تلمع وتتألق وترسم على الشفاه. وليست هذه الروح جديدة عليهم، فهي ترجع إلى أعتق الأزمنة وأعمقها في التاريخ،فمنذ برزوا على صفحة الزّمن وهم يسخرون ويضحكون ويتهكمون، ألهمتهم ذلك عصور الشقاء والشدة والرخاء مذ كانوا يحملون صخور الأهرامات على كواهلهم، رافعين إياها بصدورهم وسواعدهم، مُجتنين خير ما يفيض على نيلهم من ثروات وكنوز… فتجد الفكاهة تسري على كلّ لسان مصريّ…( إلاّ أننا لا نتبنى طرح شوقي وإن كان سليما، لأن جميع الشعوب تملك حظّها من الدعابة والحس الفكاهي ، وليس هذا مقام تبيانه).
9_ يعتمد المقال الساخر على التصوير الكاريكاتوري وتوليد صور ذهنية لدى المتلقّي تثير فيه درجة من الفكاهة الممزوجة بالتهكّم وبالسخريّة، ومن أبرز روّاده : حسين شفيق المصريّ، إبراهيم عبد القادر المازنيّ، ثروت أباظة، عبد العزيز البشريّ، عبد الله النديم… يُراجع كتاب( المقال وتطوره في الأدب المُعاصِر، السيد مرسي أبو ذكرى، دار المعارف، 1982، ص76 ).
10_ عبد العزيز البشريّ، المختار، مؤسسة هنداوي، المملكة المتحدة، 2014، ص 19.
11_ جاء هذا اللقب في قصيدة للأستاذ محمد عبد الغني حسن قيلت في رثاء البشريّ، جاء فيها :
جيلٌ من الأدب الرّفيع توارى // وهزارُ روضٍ في البلاغة طارا
قد كانَ ملءَ الأرض صوتاً عالياً // في المشرقينِ ومنطقاً مختارا
يا جاحظ العصرِ الحديث ألا ترى // ركنَ البيانِ يكادُ أن ينهارا ؟
( عامر العقّاد، البشريّ وأدب السخرية و الفكاهة، مجلة الفيصل، العدد 129، نوفمبر 1987،ص 86 ). يُشار هنا إلى أن أبا الفضل بن أبي عبد الله المعروف بابن العميد لُقّب بالجاحظ الثاني لبراعته في الكتابة والترسّل.
12_ كثيرة هي الكتب التى تعاطت أدب الجاحظ المتنوع والثريّ، لما يحمله من جرأة على السّائد وخرقٍ للمواضيع المستهلكة في زمنه، ونذكر مثالا أدب الفكاهة عند الجاحظ لأحمد عبيد، و أدب الجاحظ وفلسفته للسندوبي،و الجاحظ: أئمة الأدب لخليل مردم، وفن السخرية في أدب الجاحظ لرابح محمد العوبي، و أدب الجاحظ من زاوية صحفية لمحمود أدهم، والعجب في أدب الجاحظ لفاطمة مبارك،و الجن في أدب الجاحظ ، و في أدب الجاحظ لميشال عاصي، والبنية الأدبية عند الجاحظ في ضوء النقد الحديث لكونول أبو الفضل ممدوفا، والنزعة الكلامية في أسلوب الجاحظ لفيكتور شلحت، وتقريظ الجاحظ للتوحيدي، و الجاحظ معلم العقل والأدب لشفيق جبري،و الجاحظ في البصرة وبغداد وسامراء لشارل بلات… وغيرها من العناوين.
13_ يمكن العودة، توسُّعا في الموضوع، إلى كتاب الجاحظ ومجتمع عصره في بغداد لجميل جبر ،دار صادر، بيروت.
14_ من حوار أجرته مجلة المعرفة المصرية مع البشريّ في ركن الشخصيات التي أقدرها، العدد 18، يونيو 1932.
15_ عبد العزيز البشريّ، المختار، مؤسسة هنداوي، المملكة المتحدة، 2014، ص 47.
16_ عرفت مصر في العصر الحديث (ق 19) ظهور صحف هزلية تعتمد الهزل والسخرية في نقد الأوضاع الاجتماعية والسياسية، وقد تطوّرت الفكاهة اللاذعة في هذه الصحف إلى نقد سلوك الفرد والجماعة، فكانت عاملا مساعدا في تغيير بعض الأوضاع السلبية في البيئة والمجتمع المصريين، معتمدة لغة الشعب الدّارجة على كلّ الألسن والتصوير الكاريكاتوري للأوضاع المعيشة، ونذكر صحيفة (أبو نظارة) و ( التنكيت والتبكيت) و (الأستاذ) و (الكشكول) و( المسامير) و( الأرغول) و مجلة (حمارة منيتي) و ( خيال الظلّ) و (السيف) و (الفكاهة)؛ ولقد أفرد شوقي ضيف في كتابه الفكاهة في مصر فصلا بحياله لهذه الصحف والمجلاّت، وإن أغفل بعضها، وأهم المواضيع المتناولة فيها، فليُلتمس هنالك.
17_ عبد العزيز البشريّ، المختار، مؤسسة هنداوي، المملكة المتحدة، 2014، ص 11.
18_ في إحدى مقالاته المعنونة ب (شعراؤنا والنّدّابات) اعتذر البشريّ لشعراء مصر موضّحا وجهة نظره من مقاله النقديّ المكتوب عن فئة خاصة تحديدا؛ يقول:” نرجو أن يوسع شعراؤنا صدورهم لهذه المداعبة التي لا نبغي بها حطّا من أقدارهم، ولا أن نغمط ما لأكثرهم من الفضل على الأدب، ولا نريد بالبداهة كل شعراء مصر فإن فيهم من هم أجلّ من أن يلحقهم مثل هذا النقد، على أن مَن نقصدهم أعلم بأنفسهم وأدرى بما يصنعون مما فيه مهانة للشعر وزراية على الأدب، نرجو أن يتنزه عنهما كلّ من يحبون أن يُسمّوْا شعراءَ “؛ والحق أن المقالة قاسية على بعض الشعراء، فقد شبّههم البشريّ بالنّائحات والنّوادب اللائي يبعثن الأكفّ ويُشبعن الخدود لطماً، ويستنفرن الأظافير تفري الصّدور خمْشاً، ويشققن الجيوب شقّاً…وغيرها من سلوكات مخجلة لا تليق بنائحة بلْهَ شاعراً أو مُتشاعراً حتّى؛ فنظنّ أن البشريّ قد تجاوز بعض حدود اللياقة في بعض مقالاته الهزلية، ورام نفعاً فضرّ من غير قصدٍ… وفي هذا السياق نذكّر بما كان من خصومة بين البشريّ وزكي مبارك، وقد أشار إليها هذا الأخير في كتابه ( الأسمار والأحاديث)، وكم كان مبارك ينتقد أسلوب البشريّ الموسوم بالتّكلّف وبالصّنعة، واصفا إياه بالنثر القعقاع ! وقد أفرد مقالة نقدية بحيالها عن كتابه (المختار) في العدد 394 من مجلة الرسالة الصادرة بتاريخ 20 يناير سنة 1941؛ كما نشير إلى أنّ أحد الأزهريين _ في العدد 340 من مجلة الرسالة بتاريخ 8 يناير 1940 _ نبّه البشريّ إلى هفوة نحويّة متعلقة بعبارة ” لا أدري لماذا تُرك السكينُ عُريانَ …؟ ” والأصوب صرف صفة (عريان) فتكون ( عريانا ) لأن مؤنث (عريان) يقبل تاء التأنيث كصوحان / صوحانة، عملا بقول صاحب الألفيّة : ” وزائدَا فَعْلاَنَ في وصفٍ سَلِمْ // مِنْ أنْ يُرى بتاءِ تأنيثٍ خُتِمْ ” أو قول صاحب ( نار القِرى في شرح جوف الفَرا ) : ” وكلُّ وصفٍ ثاءُ أنثى لا تَلي // فاصرِفْ كعُريانٍ وما كأرملٍ “… وهذا من سهو العالِم ولا ضير فيه.
19_ تحدث العميد طه عن مناقب عدّة للرجل وعن لياقاته وقدراته، فقد كان يحضر حلقات الأزهر في العلوم كلّها وفي أدب القدماء والمحدثين، مع تواضع إلمامه بالأدب الأجنبي، محاولا تعلّم اللغة الفرنسية ما وسعه ذلك، كما أدمن كتاب الأغاني حتى فصح لسانه إلى أبعد غاية من غايات الفصاحة، فلم يعجزه قط الحديث بلغة الجاحظ ولغة أبي الفرج وغيرهما من الرّعيل الأول…
20_ عبد العزيز البشريّ، المختار، مؤسسة هنداوي، المملكة المتحدة، 2014، ص 15.
21_ يقول فيه حافظ إبراهيم، وكان من أحبّ أصدقاء البشريّ:
تُريكَ المرايَا الخلْقَ فيهنَّ ماثلاً // وهذي تريكَ الخلْقَ والنّفْسَ والطَّبْعَا
22_ مقال السيرة أو المقالُ السيرةُ نمط من الكتابة يقوم على ترجمة سيرة شخص، عاكسا مدى تأثره به وانطباعه عنه، والكاتب مدعوٌّ فيه إلى حسن التنسيق وجلال التعبير حتى يكادُ يجعل الشخصيّة المتحدث عنها كأنها تحدِّثُ أخبارها وتنطق بلسانها؛ ومن أمثلة هذا اللون في أدبنا: (شخصية عرفتها) و (الشيخ مصطفى عبد الرّازق) لأحمد أمين، و(قاسم أمين الفنان) للعقّاد، و( العقاد والمازني) لتيمور وغيرها… أما المقال الوصفيّ / مقال الوصف فيعمد فيه الكاتب إلى وصف كائن حي أو بيئة طبيعية أو كل ما تشاهده العين، مصوّراً المشهد تصويرا ينمّ عن إحساس عميق وبصر نافذ وإدراك واعٍ، ناقلا إحساسه إلى القارئ كأنما تلك المشاهد تتراءى له دون حجاب، سواء تعلّق الأمر بمنقبة أو مظهر في إنسان أو منظر من مناظر الطبيعة الكونية، ونذكر مثالا لهذا اللون : (الربيع) للرافعي، و(الصخور) لميخائيل نعيمة، و(بجوار شجرة الورد) لأحمد أمين وغيرهم… أما المقال السّاخر فهو المعتمد على التصوير الكاريكاتوري لكل ما تلقاه العين، ويقوم فيه الكاتب على التحايل والتوليد [ راجع الإحالة 9 أعلاه ] ( يمكن مراجعة كتاب المقال وتطوره في الأدب المُعاصِر، السيد مرسي أبو ذكرى، دار المعارف، 1982، ص 74/75 ).
23_ وقد تتعاظم السخرية من المظهر حتى تستحيل هجاءً، ولعلّ المظهر الخِلقيّ مما لا ينبغي في نظرنا على الواصف الخوض فيه، أما إذا دعت الضرورة إليه فتُذكر محاسن المرء لا معايبه، لأن المرء لا يد له في شكل ومظهر وإن اشتهى أحسن خِلقة ومشهد؛ وإننا نجد البشريّ يقول واصفا أحمد مظلوم باشا مثلا :” ولو تمثَّلتَهُ وقد بَعُدَ ما بين كتفيه، وتقارُبِ ما بين كشحيْه، ومايزال يتقارب إلى مُسْتَدَقِّ حِذاءيه،لرأيتَ منه مخروطا معكوسا،أو على الأصحّ قِمعاً مكفوءاً ! “( البشريّ، في المرآة، مؤسسة هنداوي، المملكة المتحدة، 2014، ص 90) ؛ ويذكّرنا هذا الوصف / الهجاء بقول طَرَفَة هاجيا زوج أخته عبدَ عمْرٍو : ولا خير فيه غير أنّ له غنىً // وأنَّ له كَشْحًا إذا قام أهْضَمَا[ راجع شرح المعلّقات للزّوزنيّ ]؛ ولا يخفى على المرء ما تولّده بعض الأوصاف من عُقدٍ في النفس،ولا نحتاج إلى تذكير القارئ بعنترة والجاحظ والبردّوني وغيرهم.
24_ يمكن العودة إلى مقالة هدى هانم الشعراوي، وحوار البشريّ مع السيدة هدى، وهنالك يمكنك التقاط معالم فكر البشريّ فيما يتعلق بموضوع المرأة …( في المرآة ، ص 99 )
25_ يرجع أصل عبارة “خيانة الترجمة ” إلى العبارة الإيطالية (Traduttore, traditore) وتعني ( المترجم خائن )، لكننا وقفنا على بعض من أرجع أصل العبارة إلى بعض كتابات الشاعر الفرنسي يواكيم دوبيلاي ( Joachim du Bellay) في رسالته المكتوبة سنة 1549، المعنونة ب (La Défense et illustration de la langue française )، ويمكن، توسعا في الموضوع العودة إلى كتاب :
( L’Odyssée de la trace 1: Voyage au-delà des apparences, Béatrice Galinon-Mélénec,V4 ,ISTE Editions , 2020 – Page 75)
بل إن من عدّ فعل الترجمة جريمة كالإسباني خوليو سيزار سانتويو (Julio-César Santoyo) الذي عنون كتابه ب : ( El delito de traducir) ويعني: ( جريمة الترجمة )، قاصدا الترجمات الرديئة الضعيفة البالغة حدّ تشويه معاني النصّ الأصليّ والإساءة إليه.