سلطة القاضي التقديرية في المنازعات الأسرية

إن سنة الحياة التي أودعها الله في أرضه اقتضت انتقال الإنسان من حال إلى حال من خلال التطور الذي يتأقلم معه، وبذلك يصير من الطبيعي أن تكون القواعد الشرعية الحاكمة له منسجمة مع تغير الزمان والمكان في غير ما هو ثابت ومستقر، وحتى يتسنى للقضاء إقامة العدل في الأرض في ما ترك الشارع فيه مجالا للاجتهاد، من خلال إعمال النظر وتحقيق مقاصد الشارع والعمل على ما فيه صلاح للناس، فكان السبيل لذلك هو مكنة السلطة التقديرية المخولة للقاضي.
يجد الناظر إلى مصطلح السلطة التقديرية أنه ليس من لغة الفقهاء بل هي لغة رجال القضاء والقانون الذين يتحدثون عنه ويؤصلون له، وبالرجوع إلى تراثنا الإسلامي نجد نظيرا له لدى ابن فرحون في كتابه تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الحكام، وعند القرافي في كتابه الذخيرة، فالقاضي له حالتان: حالة يلتزم فيها بالنص القانوني ومرتبط دائما بالمواد القانونية، وحالة ثانية مكنه المشرع من فسحة في التقدير في إصدار الأحكام، لذلك اشترط في القاضي الذكاء والنزاهة والنباهة والتقوى فهو ضامن لحقوق الانسان، لكن الشريعة هي الأخرى فتحت مجال إصدار الأحكام من منطلق أخر غير النصوص، وهو ما يسمى عند الفقهاء بالسياسة الشرعية، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بموجبها، ومن أمثلة ذلك: الاختلاف في قضية الاستعانة بغير المسلمين في الحرب، فالنبي صلى الله عليه وسلم في معركة امتنع عن الاستعانة بالمشركين في الحرب، وفي معارك أخرى استعان بهم في الغزوات، والذي لا يجمع بين النصوص لا يهتدي إلى تفسير لها؛ هل الاستعانة بالمشركين في الحرب جائز أم لا؟ فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن له نص يقرر أو يمنع الاستعانة بغير المسلمين، فكان من منطلق السياسة الشرعية ينظر إلى ما هو أصلح للمسلمين، فيجوز الاستعانة في حال الضعف مما لا يعرف عنه الكيد والخيانة.
أهمية الموضوع :
تتجلى أهمية موضوع الدراسة في أهمية شرعية من خلال تأكيد صلاحية الشريعة الإسلامية لكل زمان ومكان، وأن الموروث الفقهي زاخر بالاجتهادات التي يمكن إعمالها من طرف القاضي فيما استشكل عليه من قضايا ونوازل، ثم أهمية اجتماعية تتمثل في كون موضوع السلطة التقديرية للقاضي في المادة الأسرية ذات اتصال وثيق بكل فرد داخل المجتمع، فمن خلاله تضمن الحقوق والواجبات لأفرادها، وهي إحدى الأدوات ذات الطبيعة المرنة التي يتمكن القاضي من خلالها مراعاة مختلف التغيرات ذات الصلة بالمسائل النفسية والاجتماعية والدينية.
وأخيرا أهمية قضائية، فالسلطة التقديرية في جوهرها عمل يقوم به القاضي بهدف تحقيق العدالة، ومن تم فإنها تعد من صميم عمل القضائي، إذ هي نشاط ذهني وعقلي يضطلع به في فهم الواقع المطروح عليه.
إشكالية الموضوع:
لطالما كان للقاضي الأسري تأثير في وضع حد لمختلف النزاعات الأسرية من خلال تطبيق النصوص القانوني المؤطرة للواقعة، وإلى جانبها نجد آلية ملازمة للقاضي، وتتمثل في السلطة التقديرية التي من شأنها ضمان الحقوق خاصة للطرف الضعيف وهم الأطفال، فتتباين هذه السلطة التقديرية من قاضي لأخر مما يستدعي طرح الاشكال التالي: مامدى حدود هذه السلطة التقديرية المخولة للقاضي في المادة الأسرية؟ ، وما هي أهم القضايا التي فتح فيها المشرع المغربي للقاضي الفسحة من أجل استدعائها وتأثيرها في تحقيق المصلحة؟
المنهج المعتمد :
إن دراسة هذا الموضوع ومقاربة الإشكال الذي يطرحه فإن المنهج الأنسب اعتماده هو المنهج الوصفي من خلال الحديث عن مظاهر وتجليات السلطة التقديرية للقاضي في المادة الأسرية، ثم المنهج التحليلي المبني على تحليل النصوص القانونية ذات الصلة بالموضوع، وما تطرحه من إشكالات، وأخيرا المنهج الاستدلالي من خلال استدعاء مختلف الأحكام والقرارات القضائية المرتبطة بالموضوع، والمنهج الإحصائي في إيراد بعض الإحصائيات المعززة للموضوع.
خطة البحث
للإحاطة بتفاصيل هذا الموضوع، ومحاولة الإلمام بجوانبه تم تقسيم هده المقالة إلى مبحثين:
المبحث الأول: السلطة التقديرية للقاضي في إبرام عقد الزواج
المبحث الثاني: السلطة التقديرية للقاضي في انحلال ميثاق الزوجية
بارك الله فيك وفي مجهوداتك استاذ عبدالله