المؤثرون وسياسة الإلهاء
هناك من يذهب إلى أن وسائط التواصل الاجتماعي أضحت مجالا لنشر التفاهة والرداءة فحسب، وأن بعض المواضيع المثارة فيها ليست سواء في الأهمية والأولوية، في مقابل ذلك هناك من يذهب إلى أن ثمة مواضيع تساهم إلى حد ما في التوعية والتثقيف. وبما أن طبيعة هذه الفضاءات مفتوحة، فإن الملاحظات حول ما ينشر ويكتب يعكس ذهنيات متباينة، ونفسيات مختلفة، وقبليات معرفية متفاوتة، بالاضافة إلى أنها تندرج ضمن إطار حرية التفكير والتعبير التي وفرتها منصات التواصل الاجتماعي لمجتمعات كانت تعيش ردحا من الزمن تحت نير القمع والكبت والاستبداد والاستعباد.
ومن ثم، تعد موضوعة الحرية مكسبا إنسانيا لا يمكن التنازل عنه، ويتعين على الجميع – طبعا الذي يريد أن يعيش عصره ويمارس إنسانيته- عدم التفريط فيها، وعدم نسيان التضحيات الجسام في سبيل نيلها، والتمتع بها، أما ممارستها وما يتعلق بذلك، فأمر موكول للناس، لكي يسنّوا القوانين المناسبة لهم؛ بحيث تراعى أحوال المجتمع المغربي وقيمه ورؤيته للحياة، مع استحضار الشعار التالي:” لايمكن تقليص الحرية سوى في سبيل الحرية”.
لقد ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي خصوصا في ظل ” الحجر الصحي” في احتدام الاحتراب بين الجبهة “الهوياتية” أو المحافظة، والجبهة “الحداثية” أو العلمانية؛ عبر تبادل الاستفزاز بين الطرفين، واختلاق مشاكل، والتنقيب عن أرشيف الناس ومنشوراتهم القديمة، واصطياد هفواتهم وسقطاتهم، وإسقاطها على حدث أو تصريح لا يتناسب و القضية المطروحة للاختلاف و التنازع.
ويبدو أن هذا الأسلوب ليس جديدا في الساحة المغربية، فقد ضيع المغاربة وقتا ثمينا، في احترابات سابقة وما معركة خطة إدماج المرأة عنا ببعيد، حيث لم تكن آنذاك مواقع التواصل الاجتماعي قد ظهرت بعد، إضافة إلى ذلك الصراع الوهمي، والتناحر الايدولوجي في الجامعة بين اليسار والاسلاميين من جهة والصراع بين الاسلاميين فيما بينهم من جهة أخرى. الذي كان عنوانه البارز إهدار الزمن.
من المعروف أن مواضيع الهوية من القضايا التي تستفز الجبهة الهوياتية/ المحافظة بحيث تعتبرها مسألة وجودية، فتبدأ رحى الشحن والتجييش والتحشيد متوسلة بأسلوب العاطفة والاستخدام الواسع للنصوص الدينية حتى تصل حد التكفير والتفسيق والتبديع، في مقابل الجبهة التي تدعي الحداثة التي يصدر من منابرها ومنشوراتها استهزاء وازدراء ببعض الرموز الدينية، بدعاوي زائفة من قبيل أنها سب للتخلف.
والنتيجة أن الرابح في هذا الاحتراب، هي القوى التي لا تريد للحريات والحقوق أن يُمكن لها داخل الاجتماع السياسي المغربي، والتي تستغل الفرص لمصادرة الحريات، فمنهج السلطوية عادة ما يتكئ على شعارات ينطبق عليها القول ” حق أريد به باطل”، على سبيل المثال ” محاربة الارهاب” الذي استخدمته الأنظمة الشمولية في وقت من الأوقات لتحقيق مآربها المادية والسلطوية.
فيخشى أن يصير رفع شعار من أجل الاستقرار – أو الحفاظ على الاستثناء- ومحاربة الفوضى تحجيما لمساحة الحريات بسن قوانين رجعية، تمكن من مزيد من الرقابة والوصاية على منصات ومواقع التواصل الاجتماعي. وفي مثل هذه الأجواء تنتعش السلطوية بافتعال تناقضات بين نخب المجتمع ومؤسساته الحزبية، وتوجيهها وفق مخططاته التي تخدم مصلحته.
في مثل هذه الانعطافة التاريخية التي يمر منها العالم، لا يسع المواطن المغربي إلا أن يكون حذرا من إهدار الزمن والجهد في معارك وهمية وهامشية، تصرفه عن المشاغل الحيوية، وتعطل قدراته على الابداع وخدمة مجتمعه، والتصدي لقضاياه الكبرى؛ من قبيل قضية الديمقراطية والحريات والتنمية والوحدة والمعرفة، بدلا من الدوران في حلقة مفرغة، وخوض معارك في غير معترك حقيقي، معارك مفتعلة أو مخطط لها، يراد بها الالهاء وكسب الزمن لتأبيد الاستبداد والاستعباد.
مما لاشك فيه، سنشهد بين الحين والآخر مهاترات تندرج ضمن الجدل الديني والفقهي، ينقسم فيها المجتمع ويزداد تشرذمه وتشتته، بين من مع هذا، ومن ضده، حتى إذا هدأت عاصفة هذا الاختلاف، وبدا الناس أمام حقيقة حجم التخلف والفساد، سرعان ما يتم افتعال معركة أخرى، وهكذا، تتكرر الظواهر، ولم يسبق أن تم الحسم في أمثال هذه القضايا. ومع انتشار ظاهرة ” الترند” أضحى كل من هب ودب يطرح أي مسألة أو قضية، ويستدعي الدين فيها، ويوظف أيضا الجنس، باستدعاء مشاكل مجتمعات أخرى. كل ذلك، يتم تحت أنظار صناع القرار السياسي، واستمتاع الفاعل السياسي بالجدال العقيم، وقد يساهم في تضخيمه، تغطية على فشله وعجزه عن تقديم حلول لمشاكل الناس الحقيقية.
بناء على ما سبقت الاشارة إليه، بدا لنا أن المشهد في بلدنا يطغى عليه التسويقي على حساب السياسي؛ وشمل الجانب التسويقي أشخاص سموهم ” مؤثرون” يحظون بدعم غير محدود، وقنوات بإمكانيات مادية ضخمة. كل ذلك من أجل توجيه أولوية الناس، وتغيير سلم القيم، حيث يصبح معيار النجاح مقلوبا، كلما ازداد عنصر التفاهة والتسطيح، تحسن وضعك الاجتماعي والاقتصادي، بمعنى آخر تسويق ما يلي: أن يصبح المثل الأعلى هو التافه، إضافة إلى ذلك، جعل كل جدل يثار سائلا، لا ينتج أثرا على السياسة؛ ولا يحدث تغييرا ملموسا؛ وتحديدا تحسين معيشة الناس، والتوزيع العادل للثروة، فضلا عن الحرية والعدل ورفع منسوب الدمقرطة..
ختاما: أظن أن في ظل مجتمعات التخلف حين تظهر فيها الوسائل الحديثة والتقنية في جميع المجالات خصوصا في مجال التواصل، لا تفرز لنا بالضرورة تقدما في صالح الانسان بقدر ما تعيد تدوير ذلك التخلف بشكل عصري.