القيم الإنسانية زمن الحرب
بعد حرب عالمية مدمرة كانت الضرورة ملحة لإحداث كيان يحفظ السلم بين الأمم والشعوب، كما كانت نفس الضرورة لإحداث إعلان يحفظ حقوق الانسان ويصونها من العبث والعدوان؛ ولهذا الغرض كانت هيأة الأمم المتحدة وكان الإعلان العالمي لحقوق الانسان، لتتوالى بعد ذلك الهيآت والمنظمات الدولية والإعلانات الحقوقية الدولية والإقليمية. لكن يبقى التساؤل قائما: ما الجدوى وما الغاية من ذلك إذا لم يُحفظ السلم ولم تحفظ الحقوق؟
إن ما يحدث اليوم في غزة وفلسطين من إبادة منظمة ومن تهجير وإفراغ منظم، فاق منطق الحرب لأن الذي يدفع ثمنه هو من لا يحارب أصلا، وفاق قانون الحرب الذي تلتزم به معظم الدول ولو في حدود شكلية من الوفاق. مما يدل على أن القصد من هذه الحرب هو تصفية هذه القضية، وخلق واقع جديد يعيش فيه الفلسطينيون أو ما تبقى منهم على هامش الدولة، ليس لهم من شعائرهم ومقدساتهم إلا ما تسمح لهم به.
إن حرب إنهاك غزة وإرجاعها الى الخلف عقودا من الزمن، أمر لا يكاد يختلف في منطقه عن حرب إنهاك دول مثل العراق وسوريا وليبيا واليمن، والزج بها في أتون صراعات لا تنتهي، وإدخالها في حالة من الضعف والوهن بحيث تكون عاجزة تماما عن الفعل والمبادرة بله الحرب والمقاومة. وذلك ما يفسر التوجه العام للحرب التي تقودها المركزية الغربية حفاظا على موقعها المركزي وعلى مواردها الضخمة ومصالحها المختلفة؛ فكل هذه الأحداث فروع متسلسلة عن أصل هو هذا النزوع المادي الى الهيمنة والتوسع، ولو أدى ذلك الى حروب إبادات وتهجير والى انتهاك ما قرره الغرب نفسه من حقوق وحريات.
في هذا الخضم هناك معادلة تكاد تغيب في هذا المعترك الظاهري للحرب والسياسة، الذي تستعجل فيه النتائج وتحسب فيه الخسائر والأرباح اللحظية؛ لكنه لا يكاد يُستحضر المستقبل مهما بعد، المستقبل الذي تغذيه القيم الأصيلة في الانسان لا الدخيلة عليه، القيم التي تستفزها هذه الأحداث وتستنفرها الى الظهور ولو بعد غفلة وكمون، تفعل فعلها ولو في أجيال متعاقبة لتخلص الى جيل التحرير والبناء الإنساني الحق. يمكن أن تحدث لحظات انكسار في سياق النهوض فتكون داعمة له وليست مثبطة؛ وتاريخ الإسلام في سياق بناء حضارته إنما مر بهذا النمط من التداول للنصر والهزيمة، حيث يبقى المحدد الأساس هو الاتجاه العام اكتسابا لقيم الصعود أو إهمالا لها في اتجاه الأفول، حيث لا يضر انكسار في الأول كما لا ينفع انتصار في الثاني. ولا يخفى أن الوعي الإسلامي الحديث بقيم وسنن النهوض، هو في حركة استرداد مطردة لديناميته وفعاليته التي غابت عنه قرونا، وذلك على الأقل منذ طروء الاستعمار على الأمة، وإلغاء الخلافة (24)، وإعلان دولة إسرائيل (48)، ونكبة (67)، وما صاحب ذلك من وعي وفكر إصلاحي قاده ونظر له باحثون ومفكرون في مجالات مختلفة؛ والمفروض أن تكون تلك الانكسارات داعمة ومحفزة، تكشف عن جيوب الضعف وعن مواطن القصور والوهن لتجاوزها لا العكس.
إننا لو استعرضنا تاريخ الصراع في فلسطين وحدها لوجدنا أنها خضعت لاحتلال روماني ثم تحرير إسلامي، ثم احتلال صليبي ثم تحرير إسلامي، ثم احتلال إسرائيلي؛ والفاصل بين ذلك كله قرون من الزمان تعاقبت فيها أجيال. وهذا منسجم مع قيم وسنن النهوض والسقوط الحضاري كذلك، إذ لا تنهض حضارة وتسقط بشكل فجائي، وإنما بتراكم في قيمها المعنوية أو بتداعي تلك القيم، وبإنسانها المتشبع بها أو المتخلي عنها، وبوجودها المقتدر ماديا أو المفتقر الى ذلك الاقتدار.
ان الهزائم العسكرية انتكاسات كبيرة من غير شك، لكن الهزائم القيمية والأخلاقية انتكاسات أكبر من ذلك؛ والأمم تبقى حية وإن هُزمت عسكريا إذا بقيت القيم حية فيها وفاعلة، والتاريخ الحديث قبل القديم يشهد لدول خرجت بدمار وانحطاط كامل بعد الحرب العالمية الثانية، لكن الاشتغال الفعال لقيم البناء فيها جعلها تختزل مسافات زمنية لتتصدر قائمة الدول المتقدمة، وبقي غيرها ممن لم تشتغل فيه تلك القيم على حاله شاهدا على تفوق غيره.
هناك إذن بناء مستمر ومتراكم، لكنه يكتسي في الحضارة الإسلامية خصوصيات تميزه عن غيره من أنماط الوجود الحضاري الأخرى وهو ارتباط القيم الوجودية المادية فيه بالقيم الدينية المعنوية، في تساند وليس في تعارض، وفي تكامل وليس في تقابل؛ حيث تتماهى القيم الدينية مع القيم الانسانية والكونية، وحيث تكون مؤشرات النجاح الحقيقي في التحقق بها جميعا بالقدر وبالتوازن المطلوب فيها.
هذا واقع يغفل عنه كثير من المتدينين الذين يعتبرون الاسلام تعبدا وشعائر فقط، ولا يلتفتون لنظمه المدنية في الاجتماع والسياسة والاقتصاد والتربية والعلاقات، فتستغرقهم الخلافات الجزئية عن البناء الكلي، ويتركون تلك المجالات لغيرهم يستقوون بها عليهم؛ علما أن الإسلام حينما يبني وجوده في تلك المجالات يبنيها بالنفس القيمي الإنساني المشترك، وليس الأناني المتحيز؛ ولم يحدث قط أن تجلى الإسلام عبر تاريخه في نموذج حضاري، مشرقا ومغربا، وغاب عنه هذا البعد القيمي الإنساني الذي تعايشت في ظله الملل والأعراق المختلفة وعلى رأسها اليهود والنصارى؛ وإنما الذي حدث هو انهيار بعض الأقطار في حضارة المسلمين، لما طغت عليها الأنانية وتحيزت الى مصالحها الخاصة، ومن ثم تواريها عن المشهد الحضاري جملة؛ هذا علما أن هذا الوجود الحضاري استغرق قرونا لم تسعف في ترسيخه ولا تثبيت أقدامه لما انهارت القيم المؤسسة له.
لسنا هنا نبكي أطلالا أو نفتخر بأمجاد، ولكننا نذكر بقيم وسنن في البناء هي من جوهر الدين والتدين ومن غيرها لا تكون حضارة ولا تحضر، ويكفي ما نراه من أوجه التحضر الإنساني في النموذج المهيمن والقائد اليوم. وللأسف نجد هذا البعد غائبا عن كثير من دعاة الدين الذين يتحيزون ويصادرون على هذا البعد الإنساني في قيم الدين، حيث نجدهم يتحيزون لقناعات طائفية وفئوية تكاد تضيق بهم فكيف بغيرهم؛ كما نجده غائبا عن كثير من دعاة الحداثة فلا يكادون يبصرون منه شيئا، فيتبعون سرابا من القيم الزائفة التي لا يصدقها واقع، ويعممون أحكامهم على كل دين في استلاب تام واسقاط كامل لنموذج الغرب مع الدين على كل نموذج.
إن شراسة الحرب والقتل في النموذج المادي الغربي، تجد مرجعها في غياب العمق القيمي والمعنوي الإنساني المرتبط بالإنسان حيث كان؛ وذلك لافتقارها لهذا البعد الإنساني في الانسان بعد عزل وتحييد القيم الدينية والمعنوية، وهيمنة القيم المادية والنفعية؛ ويبقى الغائب الكبير في شعار “القيم الإنسانية” في هذا النموذج هو الانسان نفسه، وبشكل أدق الانسان الإنساني، تمييزا له عن الانسان الطبيعي المُوَجه بالإشباع الغريزي، والانسان الآلي المبرمج على الخدمات.
وما أعظم الإسلام حينما سن لأول مرة في تاريخ الحروب قيما وآدابا، لا نكاد نجد لها صدى زمن التحضر وادعاء الحقوق، حيث لا يُحارَب إلا المُحارِب ويستثنى من ذلك الأطفال والنساء والعجزة والعُباد، وهم المادة السهلة المستهدفة اليوم في كل حرب؛ كما يستثنى إتلاف الثمار إحراق الزروع والأشجار، وهو ما يعادل اليوم استهداف المنشآت والمؤسسات مهما كانت محايدة. كان المفروض أن تتطور منظومة “أخلاقيات الحرب” في هذا الاتجاه، احتراما للإنسان وللبيئة وللحقوق المقررة لهما بما يعكس الوجه المدني لهذه الحضارة؛ لكن للأسف مسار هذا التطور منزوع القيم هو في اتجاه معاكس لذلك تماما، فما بدا منه من عدم اعتبار إنسانية الانسان مخيف مرعب وما خفي أعظم.
تبقى ثمة معادلة أخرى في سياق المركزية الغربية، وهي سعي هذه المركزية الدائم الى تقوية مركزها وإضعاف المحيط حولها، وعدم السماح لهذا المحيط بالتحول الى مركز إلا بقدر ما يكون تابعا؛ وفي وضعنا الاسلامي لا يمكن للمحيط أن يكون داعما إلا بقدر ما يمتلك من عناصر القوة والتأثير، ولهذا كان التدخل الغربي لإضعاف هذا المحيط وسلب كل تأثير منه للاستفراد بالقضية الفلسطينية وكل قضية مماثلة؛ والمطلوب العمل على بناء هذا المحيط ودعم استقراره واستقلاله ووحدته، والنهوض بمؤسساته وقطاعاته، والانخراط في أوراشه التنموية المختلفة، بالنفس السنني الحضاري في البناء وليس بأوهام الربيع والخريف؛ النفَس المستصحب لقيم البناء المعنوية والمادية التي ينبغي أن يتشبع بها كل أنسان حتى يكون في عمق البناء وليس على هامشه، يستلهم قوته من لحظات الهزيمة والانكسار كما يستلهمها من لحظات القوة والانتصار.