الإنسانُ كائنٌ غريبٌ في العالَم
الحياةُ لغزٌ، الموتُ لغزٌ، طبيعةُ الإنسان لغزٌ. ما أشدَّ غربةَ الإنسان وما أقساها، يعيشُ الإنسان غريبًا ويموتُ غريبًا. الإنسانُ غريبٌ في هذا العالَم، غريبٌ عن وجوده المادي في الحياة، غريبٌ عن الزمان والمكان، غريبٌ بعد الموت في العالَم الآخر. يكتب دوستويفسكي: “إن الإنسانَ سرٌّ بالنسبة لي، وهذا السرُّ ينبغي أن يُفسَّر، أن يُشرَح، وسوف أمضي حياتي كلّها في البحث عن هذا السرّ: من أين جاء الإنسان، ومن هو الإنسان، والى أين المصير؟ ولماذا يعتدي الإنسان على أخيه الإنسان؟ ولماذا يكون طيباً أحيانًا، وشريرًا أحيانًا أخرى؟”.
وحدُه لحظةَ الموتِ يخوضُ الإنسانُ تجربةً وجودية عصيبة للمرة الأولى والأخيرة، تجتمع فيها أشرس تحديات حياته وأقساها، وكأنها تختصر كلَّ تجارب عيشه الباهظة. تجربةُ الموت متفردةٌ في كلّ شيء، لا تحدث للإنسان إلا مرة واحدة، لا تشبهها أيةُ تجربة كان يخوضها الإنسانُ في حياته. الموتُ هو الحدثُ الوحيدُ الذي يختزل كلَّ أحداثِ حياةِ الكائن البشري المريرة، وأيامِه الموحشة، وامتحاناتِه الحزينة، وذكرياتِه الكئيبة، ومحنه القاسية. تجربةُ الموت حدثٌ فردي تتوقف فيه رحلةُ الحياة الدنيا، لا يكرر الموتُ تجاربَ الحياة اليومية، ولا يتموضع في خبرات الكائن البشري المعروفة، ولا تنكشف للإنسان حقيقتُه ما دام حيًا.
الموتُ حدثٌ مذهل يشطبُ فورًا على كلِّ الفوارق العنصرية والثقافية والدينية والسياسية والمالية والاجتماعية والطبقية، وكلِّ تمييز احتقاري فرضه الإنسانُ المستعلي على الإنسان البائس والضعيف والفقير. في الموت يتوحد الكلُّ رغمًا عنهم، يمحو الموتُ لحظةَ حدوثه كلَّ العناوين والألقاب والرتب والامتيازات والفوارق. يتساوى في الموت: الرئيسُ والمرؤوس، الغنيُ والفقير، القويُ والضعيف، الشريفُ والحقير، وغير ذلك من عناوين فرضتها المجتمعاتُ وصنّفت على وفقها الناسَ تراتبيًا. الموتُ يلغي كلَّ قناع زائف يتلفع فيه الطواغيتُ والجبارون والمتكبرون والمغرورون والمتغطرسون، يضعهم بعد علوّهم، يصفع هؤلاء بشراسة فيمزق غطرستهم، يوقظهم ليستفيقوا فزعين من سكرتهم مذعورين، يسقطهم فجأةً من عليائهم، ليجدوا أنفسَهم بحالة مزرية يتمنون عندها لو كانوا كمَنْ ينظرون إليهم بازدراء واحتقار من قبل، الموتُ يختطف كلَّ الأضواء والشهرة والاستعلاء الذي ظنوا أنه أبدي لن يفتقدوه. الموتُ هو اللحظة التي يرضخ فيها الإنسان كُرهًا للإعلان عن هشاشته وفقره الوجودي وفاقته وإملاقه، لحظةَ الموت يستحقّ كلُّ إنسان الشفقةَ والعطفَ مهما كان مقامُه في الحياة الدنيا.
حدثُ الموت يُخرِس كلَّ اللغات، وتكفّ عن دلالاتها عند مداهمته كلُّ الكلمات. كي نفهمَ معنى الموت لا بدَّ أن نمتلك لغةً تحكي خبرةً جديدةً خارجَ سياق ما تعرفه لغتُنا من دلالات. لن تبوح اللغةُ بمعنى الموت مالم تكن منبثقة من فضاء الموت. تعجزُ لغتُنا البشرية عن القبض على حقيقة الموت، لأن هذه اللغةَ ولدت وتنوعت وتغذّت من أحداثِ حياتنا وتجاربِ عيشنا المألوفة. اللغةُ معطى يختزن خبراتِ تعاطي الإنسان مع كلّ ما حوله من بشر وكائنات حيّة وغير حيّة، تتسع اللغةُ لتصوير أكثرِ أفكارِ الإنسان ومشاعرِه وأحلامِه ومتخيلِه، وتعجز عن التعبير عمّا لا يدرك الذهنُ صورتَه، فتنتقل دلالتُها إلى رمزية، كما في دلالتها على الله والغيب.
الموتُ مأزقٌ وجودي، عند مواجهة الإنسان للموت تصمت كلُّ الفلسفات والآداب والفنون والثقافات واللغات، كلُّها تعجز عن إسعاف الإنسان لحظةَ الموت، لا يُسعِف الإنسانَ في تلك اللحظة إلا صوتُ الله والإيمانُ به. سؤالُ معنى الحياة والموت سؤالٌ ميتافيزيقي، وكلُّ سؤالٍ ميتافيزيقي سؤالٌ فلسفي. لا جوابَ مقنعًا لمعنى الحياة والموت خارج الدين، يتعذر تفسير معنى الحياة والموت ميتافيزيقيا وفقًا للعلوم ولقوانين الطبيعة، في الدين فقط يمكن ان نعثر على معنى للحياة، ومعنى للموت بوصفه طورًا جديدًا لوجود الإنسان، وحياةً أخرى على شاكلة ذلك الوجود.
لا يصنع الكائنُ البشري حاجتَه للدين، الحاجةُ للدين مستودعةٌ في أعماق الكينونة الوجودية لهذا الكائن، ما يصنعه هو أشكالُ تديّنه في حياته الفردية والمجتمعية. ويدلّ على ذلك حضورُ الدين ورموزُه وتعبيراتُه المتنوعة في حياته منذ ظهوره على الأرض حتى اليوم. لا يموت الدينُ إلا أن يموتَ الموت، ولا يستطيع الإنسانُ أن يدفع الموتَ عن نفسه مهما حاول.
أقسى أشكال الغربة غربةُ الروح في هذا العالَم، تغتربُ الروحُ بسبب اختناقها في سجنها المادي. الروحُ حين تفتقرُ للصلة بالله تأكلها وحشةُ الوجود المادي، وتستنزفُ طاقتَها ظلماتُه، فتتيه وينتابها القلقُ والخوفُ والحزنُ والألم، وأحيانًا الهلع. الألمُ قدرُ الإنسان حيثما كان، كلٌ منا يتألمُ على شاكلته، مَنْ لا يتألمُ لا يتكاملُ.
الإنسانُ مخلوقٌ ضعيفٌ هشٌّ يستحقُّ الشفقةَ والعطف والرعاية، عجزُه عن تخليص نفسه من الموت هو ما يفضح هشاشتَه وضعفه. الإنسانُ ضحيةٌ لجهله بنفسه وغربته واغترابه ومصيره. الحياة ُكأنها مكوثٌ في فندق على عجل، لمدة لا تتجاوز ليلة أو ليلتين في أقصى الأحوال، ومثل هذا المكوث السريع جدًا يتطلب: الصمتَ أكثر من الكلام، التأملَ أكثر من الغفلة، الحضورَ داخل الذات أكثر من الحضور بين الناس، السعي الدائم لتأمين منابع إلهام السلام الباطني، وتغذيتها باستمرار بما يثريها ويرسخها. السلامُ الباطني هو المنبع للحياة الهادئة المطمئنة، السلامُ الباطني مفتاحُ سلام المجتمع. حين يفتقدُ الإنسانُ السلامَ الباطني يعيشُ كئيبًا، يتمزقُ من الداخل، يعجزُ عن اطفاء نار الكآبة المستعرة داخله، وتتحول حياتُه إلى سلسلةٍ لا تنتهي من المكابدات النَكَدة المنهكة.
غرورُ الإنسان، وجهلُه بمحدودية قدراته، وعجزُه عن اكتشاف أعماق نفسه، من أشدِّ أسباب غربته في هذا العالَم، وهذه ليست حالةٌ شاذةٌ في بني آدم. لا يتنبهُ الإنسانُ لعجز جسده، وقصورِ معرفته، وهشاشة عاطفته، وخوائِه الروحي. توهمُ الإنسانُ بقوته الخارقة، وغطرسته وتباهيه بأن علمَه يمكن أن يحيطَ بكلِّ شيء، وإحساسُه بأنه يستطيعُ أن يعيشَ في الأرض، ويؤمِّن لنفسه متطلباته المادية والمعنوية، ويتخلص من خوائِه الروحي، من دون أن يحتاح لغيره، وتوهمه بأن الموتَ يمكن أن يقعَ على كلِّ الناس إلا هو، أو على الأقل شعورُه بأن الموتَ يمهله ويمنحه فرصةً بلا نهاية، حتى فراغه من إنجاز كلِّ طموحاته واستيفاء مختلف أحلامه. تتضخم طموحاتُ أكثر الطموحين وأحلامُهم أكثر من قدراتِهم الآنية والمستقبلية بآلاف المرات، ومع ذلك يظلون يلهثون وراءها بلا أن يتوقفوا برهةً ليعيدوا النظرَ في حدود ذواتهم وافتقارهم للإمكانات التي يتعذر عليهم تأمينُها ما داموا أحياء.
غفلةُ الإنسان عن السعي لاكتشاف قدراته، وجهلُه بحدود امكاناته يشعره بعدم القناعة، ويستلب منه الهدوء والشعور بالسلام، ويوقع مشاعره في انفعال متّقد يستنزفه. ما يمكنه إنجازُه بالفعل ضئيل جدًا مقارنةً بما تورطه فيه أوهامُه عن قدراتِه اللامحدودة. يلبث الإنسانُ مسجونًا في اغترابه الوجودي، مادام لا يستطيع التحرّرَ من غروره وجهله بقصور قدراته، ويتنكر لاحتياجه إلى الله. اعترافُ الإنسان بشيء من ضعفه، وانتباهُه لقصور قدراته عن أن تنال كلَّ ما يتمناه من شأنه أن يحرّره من الشعورِ الزائف بالاكتفاء بذاته، والاستغناءِ عن الله، وعدمِ الاحتياج للإيمان الذي ينقذه من اغترابه الوجودي. يقول علي عزت بيغوفيتش: (إن التسليمَ لله هو الطريقةُ الإنسانية الوحيدة للخروج من ظروف الحياة المأساوية التي لا حلَ لها ولا معنى، إنه طريقٌ للخروج بدون تمرد، ولا قنوطَ، ولا عدميةَ، ولا انتحار. إنه شعورٌ بطولي “لا شعور بطل”، بل شعور إنسان عادي قام بأداء واجبه وتقبّل قدره).
للإيمان والدين أثرٌ إيجابي بنّاءٌ على الصحة النفسية، وحمايةِ الإنسان من اضطرابات الشخصية، ولولا الدينُ وما يغذّيه من المحبة والرحمة والشفقة والتضامن وكلِّ القيم السامية، لما استطاع النوعُ الإنساني الاستمرارَ في العيش على الأرض كلَّ هذه الأحقاب التاريخية.
ولا يعني ذلك أن الإيمانَ والدين يقيان كلَّ إنسانٍ من الاكتئاب والقلق والهلع وغير ذلك من الأمراض النفسية. الإيمانُ والدين ليسا بديلين عن العلاج والطب النفسي. للأمراض النفسية أسبابٌ مختلفة وعواملُ معقدة متشابكة، يتطلب الكشفُ عنها والتعرّفُ عليها وسائلَ علمية ومهارات خبراء متخصصون، ولا يمكن الشفاءُ منها إلا بمراجعة عيادات نفسية متخصصة، وأحيانًا يتطلب علاجُ الحالات الحادة سنوات طويلة، وتختلف مدةُ العلاج وأساليبُه تبعًا لنوع المرض وشدّته. الإيمانُ يظهر أثرُه بوضوح إن كان الإنسانُ يتمتع بسلامة نفسية، وفي حالات المرض النفسي غير المستعصية يمكن أن يخفضَ الإيمانُ من ضراوةِ المرض وفتكِه بالإنسان، ويجعلَ طريقةَ العلاج أسهلَ ومدّتَه أقصر.