حتمية الاختلاف في الوجود الإنساني
كثيرة هي الآيات المؤصلة لثنائية الوجود البشري الجامع بين وحدة الأصل (آدم)، وتعدد الفرع (بنوا آدم)، فمن ذلك قول الحق سبحانه: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَٰكُمۡ شُعُوبٗا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْۚ﴾[1]، وقوله عز شأنه: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسٖ وَٰحِدَةٖ وَخَلَقَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا وَبَثَّ مِنۡهُمَا رِجَالٗا كَثِيرٗا وَنِسَآءٗۚ﴾[2]، وقول المصطفى الأكرم: “الأنبياء إخوة من علات، أمهاتهم شتى، ودينهم واحد”[3]. فكيف يمكن فهم هذه الثنائية على أساس تناغمي إذن؟ ولم حصل التصادم في عالم الإنسان، وهو المدرك لحقيقة الاستخلاف، ولم يحصل في عالم الحيوان المنقاد بغريزة البقاء؟
إن الجواب يكمن في فهم ماهية الإنسان، الذي اقتضى التصور كونه داخلا في عموم المخلوقات، أي أنه خاضع لهذا النظام البديع الذي أوجده بارئه سبحانه وليس بخارج عنه، فلذا لا بد أن يسير في فلكه. غير أن الاختلاف بينه وبين سائر الموجودات يكمن فيما وهبه الله إياه من عقل، استحق به الإرادة المحددة لاختياراته، وله كامل الحرية في سلوك الطريق الذي يشاؤه، طبعا مع ترتيب الجزاء والمسؤولية عليه،﴿إِنَّا هَدَيۡنَٰهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرٗا وَإِمَّا كَفُورًا﴾[4]. فالإنسان العاقل إذن يدرك أن وجوده بين سائر الكائنات قائم على أساس تفاعلي تعارفي، إن لم يدركه بفطرته، أدركه بعقله المسترشد بنور الوحي. فقول الله عزوجل: ﴿إِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَٰكُمۡ شُعُوبٗا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْ ﴾[5] آية لم تتوقف عند حد الإخبار بحتمية التعدد والاختلاف، بل أرشدت إلى منهج التعامل مع هذه الحقيقة الكونية، وهو قوله سبحانه “لتعارفوا”، أي: “ليعرف بعضكم بعضا في قرب القرابة منه وبعده”[6]. وقد قرر الأصوليون قاعدة انتفاء التكليف بما لا يطاق، وأن ذلك من المحال[7]، فتبين أن التعارف الذي أرشد إليه الله سبحانه أكيد غير محتمل، وأنه في حدود إمكان البشر. وبه عُلم يقينا أنه كلما كان الاعتراف بالاختلاف أوسع بين الأفراد، كلما كان التعارف بين الشعوب أعم وشمل، وكلما ضاقت قيمة الاعتراف هذه، كلما قُيد منطق التعارف. فتكون النتيجة تبعا لذلك ارتفاع وثيرة الاضطرابات، وتسريع حدة النزاعات، أو تكون النتيجة تحولا من صدام متوقع، أو نزاع مرتقب، إلى اندفاع نحو التقارب والتعايش بفضل توسع قيمة الاعتراف تلك بين الأنام. وهذا المنزع استله ابن العربي من قول الله تعالى على لسان ملائكته وهي تسأل عن خلق الانسان: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء [البقرة:30]، فقال ابن العربي: وهل يكون الفساد وسفك الدماء إلا بالاختلاف؟[8]
وحتى يتضح المنهج الشرعي في التعريف بهذه القيمة الكونية وفق التصور الإسلامي، ستحاول هذه المقالة دراسة مقتضياتها من أبعاد ثلاثة، هي:
- الطبع البشري
يمكن الاستناد في التأصيل لاختلاف الطبيعة البشرية إلى نصوص قرءانية وأحاديث نبوية مؤصلة، منها قوله تعالى: ﴿وَلَا يَزَالُونَ مُخۡتَلِفِينَ ١١٨ إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمۡۗ﴾[9]، فقد ورد عن أبي إسحاق الشاطبي أن الاختلاف المراد في الآية اقتضاه الوضع القدري الموضوع على وفق الإرادة التي لا مرد لها[10]. وقوله سبحانه: ﴿وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦ خَلۡقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَٰفُ أَلۡسِنَتِكُمۡ وَأَلۡوَٰنِكُمۡۚ﴾[11]، وفي الحديث: “إن الله تعالى خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، فجاء منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك، والسهل والحزن والخبيث والطيب”[12]، وغير ذلك كثير الورود في هذا السياق. فطباع البشر متفاوتة، وألسنتهم متباينة، وأجناسهم ومللهم مختلفة، لكنهم جميعا يلتقون في مقصد واحد هو جلب المصلحة ودرء المفسدة. قال الزمخشري: “فاوت بينهم في أسباب العيش، وغاير بين منازلهم، فجعل منهم أقوياء وضعفاء، وأغنياء ومحاويج، وموالي وخدما، ليصرف بعضهم بعضا في حوائجهم، ويستخدموهم في مهنهم، ويتسخروهم في أشغالهم، حتى يتعايشوا ويترافدوا ويصلوا إلى منافعهم، ويحصلوا على مرافقهم، ولو وكلهم إلى أنفسهم، وولاهم تدبير أمرهم، لضاعوا وهلكوا”[13]. فهذا الإنسان إذن خلق ليحيى، وطبعه الذي خلق على أساسه، وصورته التي وضع وفقها تأبى أن تستمر إلا بضروريات الحياة من غذاء ومأوى وملبس، فهدي إلى التماس ذلك بفطرته وعقله، وما أوتيه من قدرة على تحصيله، غير أن الواقع أثبت أن استيفاء الإنسان ذلك لوحده من المحال، إذ لا بد من الاستعانة ببني جنسه، ويحصل الاكتفاء أكثر كلما تضافرت القوى البشرية أكثر، فمن هاهنا قال الأقدمون: “الإنسان مدني بالطبع”[14]، كما أن هذا لا يمكن حصوله إلا إن استأنس الإنسان ببني جنسه، وأمن جانبهم، واطمأن إلى أفرادهم.
يقول ابن خلدون، وهو بصدد تفصيل الكلام عن الطبع الإنساني وحاجته إلى الاجتماع البشري: “فالواحد من البشر لا تقاوم قدرته قدرة واحد من الحيوانات العجم، سيّما المفترسة، فهو عاجز عن مدافعتها وحده بالجملة، ولا تفي قدرته أيضا باستعمال الآلات المعدّة لها، فلا بدّ في ذلك كلّه من التّعاون عليه بأبناء جنسه، وما لم يكن هذا التّعاون فلا يحصل له قوت ولا غذاء، ولا تتمّ حياته لما ركّبه الله تعالى عليه من الحاجة إلى الغذاء في حياته، ولا يحصل له أيضا دفاع عن نفسه لفقدان السّلاح، فيكون فريسة للحيوانات، ويعاجله الهلاك عن مدى حياته، ويبطل نوع البشر. وإذا كان التّعاون حصل له القوت للغذاء، والسّلاح للمدافعة، وتمّت حكمة الله في بقائه وحفظ نوعه، فإذن هذا الاجتماع ضروريّ للنّوع الإنسانيّ، وإلّا لم يكمل وجودهم، وما أراده الله من اعتمار العالم بهم، واستخلافه إيّاهم”[15].
فالحكمة من حصول التعدد على أساس الطبع الإنساني بيِّن ظاهر مما تقدم، وهو الاجتماع النفعي لتحقيق مقتضيات المشترك البشري، وهو الحياة المتناغمة. وحين يتخلف عن الأذهان إدراك هذه الحقيقة، تحول الاجتماع الى افتراق وتدابر، لما في الطبع الإنساني من جانب حيواني يغلب عليه العدوان والظلم، فإن تشبعت النفوس بضرورة الاجتماع البشري وتعاونه، غلب الطبع الإنساني على الطبع الحيواني، وإن لم تتشبع بذلك، كان للطبع الحيواني في البشر أثره في سلوكه وتصرفاته، فينقلب اجتماعه المفروض حروبا ومعارك. وقد استمر هذا الأمر مع العرب قبل مجيء الإسلام حتى قيل عنهم بأن الغزو كان جزءا من عقليتهم البدوية وطبعهم، بحيث إن لم يجدوا عدوا أو بعيدا، أغاروا على جيرانهم، أو على ذوي قرباهم، ويعبر عن ذلك قول القطامي[16]:
وَأَحْيَانًا عَلَى بَكْرٍ أَخِينَا *** إذا مَا لَمْ نَجِدْ إلاَّ أَخَانَا[17]
ثم إن هنالك حكمة أخرى متعلقة بخالق هذا الكون ومبدعه، تكمن في سريان أسمائه سبحانه في خلقه، فمن أسمائه الخالق، البارئ، المصور، البديع، المدبر، الحكيم، فاقتضت هذه الأسماء أن تنعكس في خلقه سبحانه، وعليه يسري إبداع الكون بهذا الشكل، لا ينحصر ذلك في الصور والأشكال فقط، بل يجري على الرؤى والآراء والمفاهيم والمذاهب، قال ابن العربي: “أمّا إن قلنا إنّ المصوّر هو الموجِد على صور وهيئات، فهو الباري تعالى، لأنه الخالق أوّلا، وهو العالم المقدّر المدبّر، وهو الباري المنشئ المخترع ثانيا، وهو المصوّر ثالثا، أي المركِّب لما علم على هيئة وصفة، كان يجوز تقدير وجود الموجود على غيرها؛ من تفصيلات تقدير وجودها ومحتملاتها”[18]. وعلى إثر هذا التعدد والاختلاف، يحصل في الكون تنوع في المواهب والطاقات، فتتنوع الوظائف والاستعدادات، ومن ثم يصير الاختلاف رحمة بالناس، وقضاء لمآربهم الدنيوية التي لا تقوم حياتهم إلا بها.
وتبقى الحكمة من وراء الاعتراف بالتعدد على أساس الطبع الإنساني استحالة وقوع التمييز بين الناس على أساس عرقي أو لوني أو لغوي أو غير ذلك من المميزات، بل يتوقف الأمر على حدود التقوى كما في الآية: ﴿إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ﴾[19]، وهذا الأمر راجع الى الله سبحانه أي الخالق لا إلى المخلوقين، فلذا قيد بكلمة “عند الله”، وتعضده آية أخرى: ﴿فَلَا تُزَكُّوٓاْ أَنفُسَكُمۡۖ هُوَ أَعۡلَمُ بِمَنِ ٱتَّقَىٰٓ﴾[20]. كما أنه كسب شخصي متاح لسائر الأفراد تحصيله والسعي اليه، بعيدا عن الانتماءات، والأنساب، والمراكز الاجتماعية التي يستعصي على بعضهم بلوغها.
- المعتقد الديني
ما خصص بحث هذه النقطة إلا لكون الدين أكثر ما يتذرع به في نشوب الحروب، واندلاع المعارك بين الناس على مر التاريخ، وإلا فإنه على غرار الاختلافات التي أجراها الخالق سبحانه على عباده. وقد أكثر العلماء في بحث هذه النقطة بالذات في تصانيفهم، وتفرقوا فيها طرائق قددا حتى قال ابن عاشور وهو بصدد التفريق بين المشيئة التكوينية والمشيئة التشريعية: “بينهما بون سقط في مهواته من لم يقدر له صون”[21].
غير أن المقرر عند علماء أهل السنة أن ما وقع في الكون سابق في علم الخالق، منضو تحت تصرفه ومشيئته، وأن إرادته سبحانه اقتضت تعدد الناس، والإبقاء على اختلافهم الديني والعقدي، وقد تضافرت آيات كثيرة في إثبات هذه الحقيقة الكونية، فمن ذلك قوله سبحانه: ﴿وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ مَآ أَشۡرَكُواْۗ وَمَا جَعَلۡنَٰكَ عَلَيۡهِمۡ حَفِيظٗاۖ﴾[22]، وقوله جل شأنه: ﴿وَلَوۡ شِئۡنَا لَأٓتَيۡنَا كُلَّ نَفۡسٍ هُدَىٰهَا﴾[23]، وقوله عز من قائل: ﴿وَلَوۡ شَآءَ رَبُّكَ لَأٓمَنَ مَن فِي ٱلۡأَرۡضِ كُلُّهُمۡ جَمِيعًاۚ﴾[24] وقوله سبحانه: ﴿وَلَوۡ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ ٱلنَّاسَ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗۖ﴾[25]، وقوله: ﴿وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَمَعَهُمۡ عَلَى ٱلۡهُدَىٰۚ﴾[26]. ولا منافاة بين هذه الإرادة الربانية وأوامره سبحانه بإخلاص العبادة له دون غيره، ﴿وَمَآ أُمِرُوٓاْ إِلَّا لِيَعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مُخۡلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ﴾[27]، إلا أن أوامره سبحانه قد تخالف إرادته، فيستجيب لها من توافقت فيه هذه الإرادة الإلهية، ويتخلف عن الاستجابة من خالفت إرادة الله فيه أمره، والكلام في تقرير هذه الحقائق مبسوط في كتب العقائد ليس هذا محل إثارته. غير أن المراد هنا التنبيه على أن الكون قد جرت سنة الله ومقتضى قضائه وقدره فيه أن يتسع للمؤمن وغير المؤمن، بل إن غير المؤمن أكثر انتشارا فيه، ولذا لا يفتئ القرءان ينبه على ذلك، من قبيل الآية: ﴿بَلۡ أَكۡثَرُهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ﴾[28]، وقوله تعالى: ﴿وَأَنَّ أَكۡثَرَكُمۡ فَٰسِقُونَ ﴾[29]. قال ابن خلدون: “فأهل الكتاب والمتبعون للأنبياء قليلون بالنسبة إلى المجوس الذين ليس لهم كتاب فإنهم أكثر أهل العالم، ومع ذلك فقد كانت لهم الدول والآثار فضلا عن الحياة”[30]. فإن كان الأمر كذلك، فكيف يسترشد بهذه القواعد في رسالة التبليغ؟
إن منطق المبلغ قد ضمته الآيات من مثل قوله الله سبحانه ﴿أَفَأَنتَ تُكۡرِهُ ٱلنَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤۡمِنِينَ﴾[31]، وقوله عز وجل: ﴿وَمَا جَعَلۡنَٰكَ عَلَيۡهِمۡ حَفِيظٗاۖ وَمَآ أَنتَ عَلَيۡهِم بِوَكِيلٖ﴾[32]، وضمت هاتان الآيتان: ﴿فَذَكِّرۡ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٞ ٢١ لَّسۡتَ عَلَيۡهِم بِمُصَيۡطِرٍ﴾[33]، وقوله عز شأنه: ﴿فَإِنۡ أَعۡرَضُواْ فَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ عَلَيۡهِمۡ حَفِيظًاۖ إِنۡ عَلَيۡكَ إِلَّا ٱلۡبَلَٰغُۗ﴾[34] جماع تحرير هذه المسألة. وهو أن المطلوب من الرسل والأنبياء، ومن بعدهم من الدعاة إلى الله هو التذكير والتبليغ، “فلا تبعة عليه من عدم إصغائهم، إذ لم يبعث ملجئا لهم على الإيمان”، على حد تعبير ابن عاشور[35]. فعلى ضوء منطوق هذه الآيات، وما استل منها من فوائد وتقريرات، تبين أنه ليس من شأن المبلغ أن يخلق الهداية في قلوب الناس، وليس إليه تبديل حال اجتماعية بأخرى، وليست إليه عهدة إيجاد شيء من النتائج، والآمال المرتقبة من وراء القيام بأعباء الدعوة ومقتضياتها، بل تنتهي وظيفته التي كلفه الله عزوجل بها عند حدود تلك النهايات التي تقف عندها قدراته من بيان باللسان، وحكمة في معالجة الأمور، وتقديم للمال إذا احتاج الأمر[36].
فلو كانت هداية الخلق إلى المبلغ لكان الرسول صلى الله عليه وسلم أول من يوكل اليه هذا الأمر، فلكم حرص على عمه أبي طالب ليرجع الى طريق الحق، وهو يعلم أنه حق، لكن مرد الهداية الى الله سبحانه لا إلى غيره، فلذا قال تعالى: ﴿إِنَّكَ لَا تَهۡدِي مَنۡ أَحۡبَبۡتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهۡدِي مَن يَشَآءُۚ﴾[37]، ولكم حزن على قومه، وخاف عليهم، وتمن أن يكون كلهم ممن آمن به وصدقه، فينزل الوحي واصفا حاله صلى الله عليه وسلم: ﴿لَعَلَّكَ بَٰخِعٞ نَّفۡسَكَ أَلَّا يَكُونُواْ مُؤۡمِنِينَ﴾[38]، فحكمة الله شاءت أن تكون هداية الخلق اليه، وهدايتهم للطريق وتبصيرهم أوكله إلى نبيه وورثته من بعده من المبلغين المخلصين فقال: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهۡدِيٓ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ﴾[39].
فعلى هذا، وجب على المبلغ أن يميز بين الهدايتين، إذ بينهما فرق دقيق. فالأولى من جملة المسببات التي لا تكون إلا لله، والثانية من جملة الأسباب التي تكون للعبد على مقتضى التكليف لا غير، فإن التفت المكلف إلى المسبب، كان ذلك منه مبالغة فوق ما يحتمل، فيحصل من ذلك إما شدة التعب، وإما الخروج عما هو له إلى ما ليس له. وإن قصر نظره على التسبب، كان أسلم له دينا ودنيا، وإلا فإنه إذا قصد عين المسبب أن يكون أو لا يكون، كان مخالفا لمقصود الشرع، إذ قد تبين أن المسبب ليس للمكلف، ولم يكلف به، بل هو لله وحده[40]. وقد زل من زل من المنتصبين لمهمة التبليغ في هذا الأمر؟ وإليه يشير البوطي بقوله: “وما أكثر المسلمين الذين يتيهون عن هذه النقطة، وهي من أهم المنطلقات التي يجب أن ترتكز عليها أعمال الدعوة إلى الله عزوجل. فتراهم يحملون أنفسهم ما لم يكلفهم الله تعالى به، ولا أذن لهم فيه، جلبا للنتائج وتطلعا إلى الغايات، وربما قفزوا، في غمار تطلعاتهم هذه فوق كثير من الوسائل والأسباب التي ألزمهم الله تعالى بها، مما يدخل تحت إمكاناتهم، ويخضع لطاقاتهم. وحصروا نظراتهم وشدوا جهودهم نحو النتائج التي هي من خلق الله عزوجل، والتي لا يكلف الله أحدا من عباده بأن يحمل نفسه أي رهق في شأنها”[41].
إن الحكمة من وقوع التعددية على أساس المعتقد الديني ابتلاء الخلق، وتمييز المطيع من غيره كما في الآية الكريمة: ﴿لِيَبۡلُوَكُمۡ أَيُّكُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلٗاۗ﴾[42] ، وفي الحديث المرفوع: “ما منكم من أحد، ما من نفس منفوسة، إلا وقد كتب الله مكانها من الجنة والنار، وإلا وقد كتبت شقية أو سعيدة. قال فقال رجل: يا رسول الله أفلا نمكث على كتابنا، وندع العمل؟ فقال: من كان من أهل السعادة، فسيصير إلى عمل أهل السعادة، ومن كان من أهل الشقاوة، فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة. فقال: اعملوا فكل ميسر، أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة”[43]. وفي ذات السياق يقول الشاطبي: “التكاليف وضعت للابتلاء والاختبار، ليظهر في الشاهد ما سبق العلم به في الغائب، وقد سبق العلم بأن هؤلاء للجنة وهؤلاء للنار، لكن بحسب ذلك الابتلاء”[44]، ثم كان من قبيل الحكمة أيضا ترتب المسؤولية على كسب الإنسان واختياره، فقد تقدم أن الإنسان حر في اختياراته، فمن شاء فليومن، ومن شاء فليكفر، لكن على حسب اختياره تتحدد المسؤولية، وقد ترتب على اختيار الكفر قول الحق سبحانه: ﴿إِنَّآ أَعۡتَدۡنَا لِلظَّٰلِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمۡ سُرَادِقُهَاۚ﴾[45]، وقد فسر الظلم عند بعض المفسرين على أنه الشرك والكفر، فلا أحد يتحمل مسؤولية الآخر بل﴿كُلُّ نَفۡسِۢ بِمَا كَسَبَتۡ رَهِينَةٌ﴾[46]، ويقبلون على الله كما خلقهم أول مرة فردا فردا ﴿وَكُلُّهُمۡ ءَاتِيهِ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ فَرۡدًا﴾[47].
وأما الحكمة من وراء الاعتراف بهذه القيمة فكامنة في تقرير حقيقة أن الله عز وجل إذا كان قد دعا الخلق لعبادته جميعا، وأراد تنوع دياناتهم كونا وقدرا، واختار قصور الهداية على فئة دون فئة شرعا، فإن هذا يقتضي حصول التعايش بينهم على أساس هذه الحقيقة، وتحقيق عمارة الأرض على وفقها، يسهمون جميعا في ذلك، لأن الله عز وجل أرادهم كذلك، ولا ينفي هذا عن المكلفين منهم بالتبليغ إرشاد غيرهم بالحسنى إلى الطريق القويم وتبصيرهم بالرب الكريم بنية خالصة، مستبصرة بالآية: ﴿وَٱللَّهُ يَدۡعُوٓاْ إِلَىٰ دَارِ ٱلسَّلَٰمِ وَيَهۡدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ﴾[48]، فيكون اقتصارهم على الدعوة دون تعديها إلى إرادة الهداية حتى لا يصادم ذلك ما لا يريده سبحانه في كونه، فلا أحد يستطيع تغيير هذه الإرادة الكونية، فإن كان ذلك في الإمكان كان أيسر على الأنبياء والرسل الذي مضوا. فلما علم تعذره، فلا أحد ممن دونهم يملك القدرة على توحيد الناس جميعا على دين واحد، وتنميطهم على نهج واحد، لأن ذلك مخالف للمشيئة التي يستحيل عقلا وشرعا مخالفتها. فمحاولة التوحيد والتنميط بين البشر على نسق واحد، كان من أهم أسباب اندلاع الحروب بينهم على مر التاريخ، ورغم ذلك لم تبلغ هذه الحروب غايتها في ذلك، بل استمر التنوع والاختلاف بين الناس في دينهم وطبائعهم كما أراده خالقهم سبحانه﴿وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبۡدِيلٗا﴾[49].
- القصد المصلحي النفعي
بُعد آخر اقتضته الطبيعة البشرية القائمة على التعدد والاختلاف، فلا يمكن أن يتحقق لها تعايش مجتمعي ما لم يكن قائما على تبادل المصالح، والاتفاق على دفع المفاسد، فهذه من المسلمات التي تقتضي الاندماج في تدبير ضروريات الحياة؛ من مأكل ومسكن وملبس، وفي الحديث: ” ليس لابن آدم حق فيما سوى هذه الخصال: بيت يستره، وثوب يواري عورته، وجلف من الخبز والماء”[50]، فتترتب على ذلك حقوق وواجبات، تكون سبيلا لتحقيق تلك المصالح رغم الاختلاف والتباين البشري، خاصة في جانبه العقدي. ويمكن الاستئناس في التأسيس لهذا البعد بانخراط الرسل والأنبياء السابقين مع أقوامهم -رغم عدم إيمانهم برسالتهم- في العمل لتوفير ضروريات العيش، واقتراح حلول لمقاومة سنوات الجذب والجفاف، أو رد العدوان، وكف الظلم عن الأفراد. وهكذا يحكي القرآن الكريم عن يوسف عليه السلام استجابته لتأويل رؤيا ملك مصر التي استعصت على علماء البلاط، مع زيادة توضيح واقتراح للحلول الكفيلة بنجاة الناس من القحط أو الهلاك، فقال كما حكى القرءان على لسانه: ﴿قَالَ تَزۡرَعُونَ سَبۡعَ سِنِينَ دَأَبٗا فَمَا حَصَدتُّمۡ فَذَرُوهُ فِي سُنۢبُلِهِۦٓ إِلَّا قَلِيلٗا مِّمَّا تَأۡكُلُونَ ٤٧ ثُمَّ يَأۡتِي مِنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ سَبۡعٞ شِدَادٞ يَأۡكُلۡنَ مَا قَدَّمۡتُمۡ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلٗا مِّمَّا تُحۡصِنُونَ ٤٨ ثُمَّ يَأۡتِي مِنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ عَامٞ فِيهِ يُغَاثُ ٱلنَّاسُ وَفِيهِ يَعۡصِرُونَ﴾[51]. فلم يثنه عن الجواب عن سؤالهم الدنيوي ما صدر عنهم من إذايته، والزج به في السجن مظلوما أمد سنين، فكان تعاونه ذاك بابا ولج منه حتى أصبح على خزائن الأرض.
وهكذا حال الرسل جميعا، وكان أكثرهم اعتبارا لهذا الأصل محمد صلى الله عليه وسلم، وما وثيقة المدينة إلا تجل من تجلياته، لا تزال ثمارها تؤتي أكلها في العصور الحالية، وهي أبلغ مثال لتصور مبدإ التعددية في المنظور الإسلامي، الذي جعل الأفراد كلهم متساويين في الحقوق والواجبات، ليرتقي تعايشهم ذلك إلى دستور مؤصل بقواعد وقوانين، تنضبط بضابط الانتماء للوطن رغم الاختلاف العرقي والعقدي، فلذا لا نجد في الوثيقة خطابا مخصوصا بفئة دون أخرى، أقلية كانت أو أكثرية، وإنما جعلت الجميع داخلا في مسمى الأمة التي تجمعها مصلحة الحفاظ على وجودها، والذوذ عن الوطن الذي تنتمي إليه، فلذا ورد في الوثيقة أن:” يهود بني عوف أمة مع المؤمنين”[52]، وفي رواية ابن زنجويه الخرساني: “أمة من المؤمنين”[53]، أي أنهم ” بسبب الصلح الواقع بينهم وبين المؤمنين كأمة منهم في أن كلمتهم واحدة على عدوهم، فأما الدين فكل فرقة منهم على حيالها”[54]. ولم يكن اندماجه هذا محدثا فقط حين قدم المدينة، بل كان ديدنه أثناء مقامه بمكة أيضا، فرغم الاضطهاد الذي اصطدم به من قومه في مكة، حرص صلى الله عليه وسلم وصحبه على معاملة المشركين معاملة تتجاوز المعيار العقدي إلى المعيار الإنساني الكوني، وما ثناؤه على حلف الفضول الذي شهده في مكة إلا شاهد على هذا الحرص، والاستجابة للمشترك الإنساني الذي يخدم أمن القوم على اختلاف مشاربهم، فلذا قال:” شهدت غلاما مع عمومتي حلف المطيبين، فما يسرني أن لي حمر النعم، وأني أنكثه”[55]، قال المناوي: “أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه باق على ما حضره من تحالف قومه المطيبين من التناصر على الحق والأخذ للمظلوم من الظالم، وأنه لا يتعرض له بنقض، بل أحكامه باقية في الإسلام، وفيه أن ما كان من حلف الجاهلية لا يبطله الإسلام، وبه صرح في حديث: أيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة”[56]. ويوافق تعليق المناوي من كون الإسلام حريصا على المشترك الإنساني ولو عقدت ألويته في الجاهلية رواية البيهقي للحديث مرفوعا بلفظ:” لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت”[57].
واستمر منطق المصالح الدنيوية أصلا اقتضته الحكمة الإلهية في تنوع الناس، واختلاف طبائعهم، ولم يجد الخلفاء المسلمون حرجا أن يولوا غير المسلمين بعض المناصب الدنيوية حسب ما اقتضاه نظرهم المصلحي كما فعل هارون الرشيد حين وضع جميع المدارس تحت مراقبة الطبيب النصراني يوحنا بن ماسويه[58]، ولمعت أسماء يهودية خدمت ملوك الأندلس كحسداي بن شبروط الذي تقلد مناصب دبلوماسية للخليفة عبد الرحمن الناصر لدى أردونيو الرابع، ملك ليون، والملكة طودة، ملكة نبرة، كما كان طبيبا مشرفا على الترجمة[59]، وعلى هذا أخرج العلماء شرط الإسلام من دائرة شروط عمالة التنفيذ، فأجازوا لغير المسلم أن يليها “لأن النظر فيها مقصور على رأي الإمام وتدبيره”[60]، وفي ذلك يقول أبو يعلى الفراء: “وإن كانت عمالة تنفيذ لا اجتهاد للعامل فيها، لم تفتقر إلى الحرية ولا الإسلام”[61].
[1] – سورة الحجرات، الآية 13.
[2] – سورة النساء، الآية 1.
[3] – صحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب فضائل عيسى عليه السلام، حديث رقم 145 (2365).
[4] – سورة الإنسان، الآية 3.
[5] – سورة الحجرات، الآية 13.
[6] – جامع البيان عن تأويل آي القرءان: 22/ 312
[7] – الغزالي، المنخول من تعليقات الأصول، تحقيق: محمد حسن هيتو، (بيروت-سورية: دار الفكر المعاصر-دار الفكر دمشق، الطبعة الثالثة، 1419هـ/1998م)، ص190
[8] – ابن العربي، أحكام القرءان: 3/ 31.
[9] – سورة هود، الآية 118-119.
[10] – كتاب الموافقات: 5/ 81.
[11] – سورة الروم، الآية 22.
[12] – قال الترمذي: “هذا حديث حسن صحيح”. الترمذي، السنن، أبواب تفسير القرءان، باب ومن سورة البقرة، حديث رقم 2955.
[13] – الكشاف: 4/ 248
[14] – ابن مسكويه، الفوز الأصغر: 55.
[15] – مقدمة ابن خلدون: 47
[16] – البيت من الوافر للشاعر القطامي، بفتح القاف وضمها تغلبي اسمه عمرو بن شييم بن عَمْرو أحد بني بكر بن حبيب بن عَمْرو بن غنم بن تغلب. ينظر: محمد بن سلام، طبقات فحول الشعراء، تحقيق: محمود محمد شاكر، (جدة: دار المدني، دون تاريخ)، ج2 ص534.
[17] – الأصفهاني، شرح ديوان الحماسة، ص253.
[18] – الأمد الأقصى: 1/ 857
[19] – سورة الحجرات، الآية 113.
[20] – سورة النجم، الآية 32.
[21] – التحرير والتنوير: 7/ 206
[22] – سورة الأنعام، الآية 107.
[23] – سورة السجدة، الآية 13.
[24] – سورة يونس، الآية 99
[25] – سورة هود، الآية 118.
[26] – سورة الأنعام، الآية 35.
[27] – سورة البينة، الآية 5
[28] – سورة البقرة، الآية 100.
[29] – سورة المائدة، الآية 59
[30] – ابن خلدون، المقدمة: 48
[31] – سورة يونس، الآية 99
[32] – سورة الأنعام، الآية 107
[33] – سورة الغاشية، الآية 22.
[34] – سورة الشورى، الآية 48.
[35] – التحرير والتنوير: 30/ 306
[36] – هكذا فلندع إلى الإسلام: 47
[37] – سورة القصص، الآية 56.
[38] – سورة الشعراء، الآية 3
[39] – سورة الشورى، الآية 52.
[40] – كتاب الموافقات: 2/ 526
[41] – هكذا فلندع إلى الإسلام: 48
[42] – سورة هود، الآية 7
[43] – صحيح مسلم، كتاب القدر، باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه وكتابة رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته، حديث رقم 6 (2647)
[44] – الموافقات (في الأوامر والنواهي)
[45] – سورة الكهف، الآية 29
[46] – سورة المدثر، الآية 38.
[47] – سورة مريم، الآية 95.
[48] – سورة يونس، الآية 25.
[49] – سورة الأحزاب، الآية 62.
[50] – قال الحاكم: “هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه”. ينظر: الحاكم، المستدرك على الصحيحين، كتاب الرقاق، حديث رقم: 7866.
[51] – سورة يوسف، الآيات 47-48-49.
[52] – ابن كثير، البداية والنهاية: 3/ 275
[53] – ابن زنجويه، الأموال: 2/ 466.
[54] – الزمخشري، الفائق في غريب الحديث: 2/ 26.
[55] – قال الحاكم: “هذا حديث صحيح الاسناد، ولم يخرجاه”. الحاكم، المستدرك على الصحيحين، كتاب المكاتب، حديث رقم 2870.
[56] – المناوي، فيض القدير شرح الجامع الصغير، (مصر: المكتبة التجارية الكبرى، الطبعة الأولى، 1356هـ)، ج4 ص164.
[57] – البيهقي، السنن الكبرى، تحقيق: عبد القادر عطا، (بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الثالثة، 1424هـ/2003م)، كتاب قسم الفيء والغنيمة، باب إعطاء الفيء على الديوان ومن يقع به البداية، حديث رقم 13080. قال ابن الملقن: “هذا الحديث صحيح” ينظر: ابن الملقن، البدر المنير، تحقيق: مصطفى أبو الغيط وآخرون، (الرياض: دار الهجرة للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1425هـ/2004م)، ج7 ص325.
[58] – النصراني يوحنا بن ماسويه، كان طبيبا ذكيا، فاضلا، خبيرا بالطب، وله كلام حسن، وتصانيف مشهورة، وكان مبجلا حظيا عند الخلفاء والملوك، وكان نصرانيا خدم الرشيد والأمين والمأمون. ينظر: الصفدي، الوافي بالوفيات، تحقيق: أحمد الأرناؤوط وتركي مصطفى (بيروت: دار إحياء التراث، 1420هـ/2000م)، ج29 ص30.
[59] – بهيجة سيمو وآخرون، الأندلس تاريخ وحضارة، (الرباط: منشورات مديرية الوثائق الملكية، 2018)، ج2 ص297.
[60] – الماوردي، الأحكام السلطانية، (القاهرة: دار الحديث، دون تاريخ)، ص56.
[61] – الفراء، الأحكام السلطانية، تصحيح وتعليق: محمد حامد الفقي، (بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الثانية، 1421هـ/2000م)، ص247