الليبرالية والأخلاق الإسلامية: على هامش الدرس الحسني لوزير الأوقاف والشؤون الإسلامية
ألقى وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية الدكتور أحمد توفيق الدرس الحسني الأول، كما جرت العادة، انطلاقا من الحديث النبوي الشريف: ” إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها.” ألقى أحمد توفيق درسا مكتوبا بعناية ومقروءا، كعادته في إلقاء محاضرات مكتوبة، وهو اختيار يميل إليه كثير من المفكرين والمحاضرين لأسباب كثيرة، فنية وتداولية. وإذا كانت النصوص التي تنتجها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في عهد الوزير عبد الكبير العلوي المدغري ، رحمه الله، تبرز فيها لمسة أدبية ورشاقة في التعبير، مع أن الوزير المدغري، كان قليل المحاضرة أصلا، وينحدر في تكوينه الأكاديمي من القانون والدراسات الإسلامية، وكأنها تمر من يد أديب يجودها قبل إصدارها، فإن النصوص التي تنتجها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية اليوم تغلب عليها المسحة التاريخية، وهي شديدة الارتباط بالتكوين الأكاديمي للوزيرأحمد توفيق، ولكنها مسحة تاريخية ممزوجة بنفس في الحكي والتفصيل، تبرز فيها الموهبة السردية للروائي/الوزير توفيق. لذا فإن محاضرات الوزير أحمد توفيق، أو قل نصوصه المقروءة لاتشد إليها إلا كل مولع بالتاريخ ومتمرس على تلقي الحكي. لهذا تجد أحمد توفيق لايحاضر ولكن يؤرخ ويحكي ويسرد في محاضراته، بنفس مدهش واستقصاء طويل يتعب من يستمع إليه. ويرجع السبب في هذا النمط من الكتابة إلى أن التاريخ، بمعنى الخلفية، كان ممزوجا في ثقافتنا الإسلامية بحقول علمية وبأجناس تعبيرية أخرى، وكان منذ نهاية القرن الثامن عشر في أوروبا، جزءا من الأدب. ولم يفترقا إلا عندما اندست بينهما النزعة الوضعية وحرضت كل واحد منهما للبحث عن (علميته) الضائعة. هذا عن التاريخ والأدب أما الحديث عن أحمد توفيق: المؤرخ والروائي، فلم يفترقا، بل تعاضدا لبناء لغة أحمد توفيق الوزير، برغم حرصه على إخفاء شخصية الروائي عند ممارسة مهامه الوزارية، وعند إنتاج خطابات شارحة لها، وإبراز شخصية المؤرخ لدعم موقفه، وتوفير بنية استدلالية لأفكاره في مجال تدبير الشأن الديني بالمغرب. لهذا من يقرأ رواياته : (جارات أبي موسى)، و(غريبة الحسين)، و( جيران أبي العباس)، تحديدا، سيكتشف المحبرة التي غمس فيها قلم الدرس الحسني المكتوب بعناية فائقة.
كان هذا التمهيد ضروريا، بنظري، للتأكيد على أن المتلقي يوجد أمام كاتب من عيار ثقيل، ينتج نصا مكثفا ومركبا، ليس في قدرة كل واحد فك شفراته، وهي كثيرة. نص يتعاضد التاريخ والأدب لإكسابه صلابة في الاستدلال. يذكرك الوزير توفيق بوزراء وولاة العصر العباسي الذين جمعوا بين المسؤولية الإدارية والسياسية والكتابة والإنشاء والإبداع والتنظير؛مثل الوزير ابن العميد(367ه)، كان يلقب بالجاحظ الثاني، وكان وزيرا لركن الدولة البويهي ، وكذا الصاحب بن عباد (385ه/995م)، الكاتب ووزير الملك مؤيد الدولة البويهي.
وعليه لم يكن نص/درس أحمد توفيق نصا لغويا وحسب، بل كان خطابا (بمفهوم ميشيل فوكو)، مملوءا بالمضمرات وبالسياقات وبالمصطلحات وبالتعريفات وبالعبارات وبالإشارات وبالاستدراكات وبالانتقادات وبالاستشرافات… ويكفي أن يجمع المستمع/وكذا القارئ المصطلحات/والمفاهيم المفاتيح المستخدمة في الدرس ليعرف حمولته واتجاهاته ومقاصده. أذكر منها: القرآن الكريم، الحديث النبوي، إمارة المؤمنين، نظام إمارة المؤمنين، الأمة، الأمانة، الدين، التدين، تجديد، أهل السنة، العلماء، جماعة المسجد،النص/ النصوص، الفهم، أدوات الاجتهاد، العمل، المذاهب، النهج النبوي، الأخلاق، التخليق، الاعتراض المتطرف، الخوارج، السياسة، التزكية، المقاولون المسلمون، الليبرالية، الحياة الطيبة، التحكيم المرضي… وأما أسماء الأعلام البارزين، ولكل واحد منهم ايحاءاته الخاصة، في الدرس فنذكر منهم: السيوطي، وأبي حامد الغزالي، والإمام مالك، وأحمد خان(داعية هندي)، ومصطفي عبد الرازق، ومحمد عبده، وسيدي محمد بن عبد الله، ومولاي عبد الرحمن، وسيدي محمد بن عبد الرحمن، ومولاي الحسن، ومولاي عبد العزيز، والحسن الثاني ( وكلهم من ملوك الدولة العلوية)، وCharles Larmor (فيلسوف أخلاق أمريكي، صاحب كتاب: The Morals of Modernity)، وصاحب كتاب: الدولة المستحيلة ، هكذا ورد على لسان الوزير توفيق!(والمقصود: وائل حلاق)، وAlasdair Chalmers Maclntyre (فيلسوف وعالم أخلاق اسكتلندي، اشتهر كتابه: After Virtue (بعد الفضيلة)…
تعطي هذه المفاهيم وأسماء الأعلام المضمنة في درس الوزير توفيق عناصر الخريطة الذهنية للدرس ولصاحبه. وينطلق الدرس من مسلمتين أساسيتين هما: أن إمارة المومنين أدت أمانتها في جميع مجالات مسؤوليتها، وأنها حمت اختيارات الأمة المغربية من خلال تجديدها. لذا سيركز الدرس على إبراز جوانب الحماية والتجديد، من خلال مستويات ثلاثة، هي: نقد دعوات التجديد كما عرفها التاريخ الإسلامي قديما وحديثا، وعرض تجديد الدين في إمارة المؤمنين، واستشراف آفاق التجديد في الدين في ظل التحديات المعاصرة.
قام الدرس الحسني لوزير الأوقاف والشؤون الإسلامية الدكتور أحمد توفيق على ثنائية الهدم والبناء من أجل التأسيس لباراديغم التجديد الذي يقترحه، هدم الموجود وبناء المفقود وتثبيته من أجل استشراف مستقبل موعود، في إطار ثنائية الماضي والمستقبل التي أطرت الدرس برمته. لذا حرص الدرس على الاشتباك مع دعاة التجديد ممن سبقوا، من خلال عرض نماذج بعينها، ومقاربات محددة، من حيث الفكرة والتعريف والمصطلح والمنهج، مع نزعة ميالة إلى ( التخطئة) بارزة في الدرس. ثم إن من يتتبع ذاكرة الدروس الحسنية لن يغيب عنه درس حسني في الموضوع نفسه واستلهاما من الحديث نفسه ألقاه الشيخ يوسف القرضاوي،في حضرة الملك الحسن الثاني، رحمهما الله. ألقاه الشيخ القرضاوي في رمضان1403 /1983. لذلك فالربط بين الدرسين مهم جدا لاكتشاف علاقات الاشتباك بما ينم عن سياقات مختلفة، ومقاصد مختلفة، وأفق مختلف، ومتلق مختلف، مع وحدة المكان، والمناسبة، والحديث/المرجع.
وجد الوزير نفسه مضطرا للإجابة عن سؤالين مركزيين لا يتجاوز هما عادة أي باحث في موضوع تجديد الدين انطلاقا من حديث أبي هريرة، وهما: من ينطبق عليه اسم المجدد؟ وما المقصود بتجديد الدين؟ وتحدد الإجابة عن السؤالين جزءا من مقاصد المجيب، وبعض المؤشرات عن اختياراته الفكرية، أو قل تحيزاته. وحرص الوزير على الإجابة عن كل سؤال من خلال عرض اختيارات متعددة لكنها تبرز اختياره هو ورؤيته. فالمجتهدون في الدين قد يتعددوا في القرن الواحد، أي قد يكون المجدد حاكما، مثل عمر بن عبد العزيز، أو عالما مثل أبي حامد الغزالي. واختيار الأمثلة في الدرس جزء من الرؤية، ومكون استدلالي أساس فيها، وليس اختيارا اعتباطيا للتمثيل وحسب. فالحاكم يجدد من خلال إحياء العدل في الأمة، والعالم من خلال الاجتهاد في فهم النصوص. أما التجديد المقصود فإما أن يكون (استعادة) للتجربة النبوية وعهد الخلفاء الراشدين ( أبوبكر وعمر تحديدا في الدرس)، أو يكون ( نظرا) في الأمور المتغيرة والقابلة للتجديد في الدين. وقد استثنى الوزير نصي القرآن الكريم والحديث النبوي، من هذا النظر، بحكم ثباتهما، فالنص القرآني تكلف الله بحفظه، والنص الحديثي بذلت فيه جهود معتبرة، بما يجعلهما نصين مستمرين في الزمان. ويكون النظر في الأمور المتغيرة بفهمها، أو العمل بهما، من خلال أدوات الاجتهاد، وهو مايتجسد قديما وحديثا في وجود المذاهب، وفي تدبير الاختلافات في قضايا فروع الدين. فالمشكل لم يعد في النص الثابت والمحفوظ، ولا في التنوع في النظر، بوجود أدوات الفهم، ولكن في الوضع الذي يعيشه المسلمون اليوم، وهو وضع الاستضعاف أمام الغرب وحضارته، هذا الوضع النفسي/الاجتماعي/الموضوعي هو الذي حرك المسلمين للبحث في سبل الخروج منه. لذا لم يكن المشكل يوما في النص الديني بل في الواقع الإسلامي الموضوعي في سياق اختلال موازين القوة الحضارية مع الغرب. وعرض الأستاذ توفيق للأجوبة المقترحة في الموضوع، فإما التبعية التامة للغرب، أو الرفض التام له، أو التكيف معه بأقل الأضرار. وكان من أهم ماورد في الدرس تقديم مقترح جديد، مما سنقف عليه لاحقا. ولم يفت الأستاذ أن يذكر بأن سؤال التجديد طرح عن أهل العقائد والملل الأخرى، نصارى ويهود وبوذيين وكونفوشيوسيين. مع بروز سؤال النقد في المجال التداولي المسيحي، من خلال موجة نقد الفسادفي المؤسسات السياسية والدينية في مرحلتي النهضة والأنوار، واستكمال بناء معمار (العقلانية الأوروبية الجديدة).
وأما بخصوص دعوات التجديد التي عرفها العالم الإسلامي فقد اختار الأستاذ أحمد توفيق أمثلتها بعناية، ذكر بعض الرواد بالاسم، مثل: أحمد خان، ومحمد عبده، وعلي عبد الرازق، وذكر بعض التوجهات (التجديدية) على العموم. والملاحظ في عرض الوزير أنه تعامل مع الحركات التجديدية باختزال كبير، وبسلبية كبيرة، في إطار مفهوم الهدم الذي ذكرناه سلفا، من أجل نموذج تبشيري جديد. فقد اختزل الدرس حركات التجديد في رغباتها كما فهمها الأستاذ أحمد توفيق، مع ملمح نقدي يقوم على الاتهام، وهو يجمع بين الحركات التجديدية بمختلف مرجعياتها في صعيد واحد، مع استهداف بارز، في هذا المستوى من الدرس، لما يعرف ب(القراءات الجديدة للدين)، وكثير منها منزعه مستند إلى بعض المفاهيم التحليلية الماركسية، أو إلى بعض مفاهيم العلوم الاجتماعية والإنسانية، مثل: علم اجتماع المعرفة، وتاريخ الأفكار، وتحليل الخطاب، والنظرية النقدية… فبعض دعوات التجديد، بنظر أحمد توفيق، تنطلق من دعوى التجديد للتجرأ على الأصول، وإنكار السنة مرجعا، واعتماد التأويل من أجل التلاؤم مع (المراد العقلي) في قضايا الربا والعقوبات البدنية والمرأة. ومنها من يرفض اعتبار القرآن مدونة قانونية، ورفض تدخل الشرع في الجزئيات.
وخص الأستاذ توفيق الشيخ محمد عبده بنقد خاص لما أورده في (رسالة التوحيد) من خلال منزعه التفسيري بما يتناسب مع المعارف الحديثة. وينتقد الأستاذ توفيق هذا المنزع التنظيري الذي لم يفد المسلمين في واقعهم، وهو منزع (تبعيد) مخالف للنهج النبوي القائم على (القرب الميداني، أو قل: التقريب) في التربية والبناء. والملاحظ في هذا المحور أن الأستاذ توفيق تجنب ذكر أي واحد من رواد التجديد في المغرب، والدرس برمته فيه قدر كبير من تهميش الصوت المغربي في التجديد الديني في الفكر والتربية، مما سنشير إليه لاحقا في سياق خاص. بل ابتدأ حركات التجديد بتجربة أحمد خان الهندي(1817-1898). وهو نموذج غير معروف في المغرب، بل يمثل مدرسة قائمة بذاتها هي مدرسة شبه القارة الهندية. فهل يفهم من درس الأستاذ توفيق استدعاء مرجعي جديد على الفضاء المغربي، وهو التجربة الهندية في تجديد الدين. وهي تجربة استدعيت في مصر بما أحدث مشاكل كثيرة في الفكر والمنهج والحركة والتربية. وكلنا يتذكر استدعاء تجربة أبي الأعلى المودودي في تعريف مفاهيم: الخلافة، والدولة، والجهاد، والوطن، والتربية حتى… ثم لماذا اختار الأستاذ التوفيق التمثيل بأحمد خان، ولم يمثل بنماذج أخرى من الدائرة الفكرية نفسها، مثل: ولي الله الدهلوي(1703-1762)، ومحمد إقبال(1877-1938)، وفضل الرحمان(1919-1988)، وأبي الحسن الندوي(1914-1999)، وغيرهم؟ أتصور بأن أحمد خان يستجيب لأفق الدرس الذي قدمه الوزير توفيق، ويناسب تطلعاته ومقترحاته في السياقات المعاصرة التي يعيشها الشأن الديني في المغرب اليوم. فأحمد خان عاشت أسرته، كما عاش هو نفسه، قريبا من البلاط الإمبراطوري المغولي في الهند. كان يملك رؤية في التغيير تستند إلى الدين، نعم، لكن لا أتصور بأن السياق الديني المغربي، الرسمي أو الشعبي، قادر على تحمل تبعتها ومداها في الظرفية الحالية. هذا إذا افترضنا أن عملية الاستدعاء في الدرس، تمثيلا، ليست اعتباطية. فقد عرف أحمد خان بأفكاره المثيرة، وبتجديده الديني الصادم لليقين العام للمسلمين. لذلك جوبه بنقد لاذع له وبالتحريض عليه. فمثلا، يرى أحمد خان أن الوحي ليس شيئا ينزل على النبي من الخارج، بل هو عبارة عن نشاط العقل الإلهي في النفس والعقل القدسي البشري. كما يذهب إلى أن الوحي باللفظ وليس بالمعنى. كما عرف عليه رفض الإجماع، ويشدد على مرجعية العقل، واعتبر الواقع أساسا للتفسير، ويرفض الدعوة للخلافة، ولذلك رفض اللقاء بجمال الدين الأفغاني عند زيارته للهند، وقد نقده الأفغاني في رسالته: الرد على الدهريين. كما كان يقول بإمكانية استمرار الوحي من خلال تجارب خاصة. وكان ضد المقاومة المسلحة للإنجليز، ويعنون مشروعه التربوي والتجديدي ب: تهذيب الأخلاق. ويرفض كل نزوع سياسي على أرضية الدين. (تنظر كتبه: تفسير القرآن، و:خطابات أحمدية، وتنظر دراسة وافية أنجزها عنه المفكر العراقي عبد الجبار الرفاعي في كتابه: مقدمة في علم الكلام الجديد، الفصل الثالث بعنوان: الفهم الجديد للوحي لدى مفكري الإسلام في الهند). قد تبدو أفكار أحمد خان غريبة في سياقنا التداولي، بل قد تفجر نواة( تجربة التدين المغربي) لكنها تجربة مغموسة في السياق التداولي الهندي بتجربته الدينية متعددة المشارب والجذور والمساحات والتطلعات الميتافيزيقية. ليست هذه هي المرجعية الوحيدة التي يستدعيها درس التوفيق بل هناك مرجعيات أخرى مما سنذكره لاحقا.