في وداع جودت سعيد: منظر المقاومة المدنية السلمية في الفكر الاسلامي المعاصر.(2)
كان جودت سعيد، رحمه الله، صاحب موهبة فلسفية تساؤلية، منذ صغره، على عادة الأطفال. وكانت والدته أكثر تسامحا مع شكه وسؤاله، على عادة الأم في مجتمعاتنا؛ تحمي طفلها، وتتستر عليه، إن اقتضى الأمر، وتقبل كل أسئلته. هي القلب الواسع والحضن الدافئ الذي كبرت فيه أسئلة جودت سعيد، وتشكلت أولى معالم شخصيته الفكرية، كما يحكي لعبد الجبار الرفاعي، في حوار مجلة ( قضايا إسلامية معاصرة). كان ينتبه لكل ما يقوله الأستاذ في المدرسة الإبتدائية، ويركب من ذلك أسئلة مزعجة يلقي بها إلى أمه! لماذا نقرأ مثلا في درس الصلاة صيغتين للتشهد؛ واحدة مروية عن ابن عباس، والأخرى عن ابن مسعود؟ وذكرت له الوالدة أن الصيغة الصحيحة هي التي اختارها ( الإمام الأعظم)! أبوحنيفة، وهو مذهبها! فيتساءل جودت سعيد الطفل: كيف يكون الوضع عندما تجيب والدة أخرى ولدها بأن الصيغة الصحيحة هي التي اختارها ( الامام الأعظم)! الشافعي؟ وهو مذهبها! وينطلق جودت سعيد من هذا التساؤل المبكر/تساؤل طفل صغير، ليقول بأنه التساؤل الفلسفي الكبير الذي مازال يشغل العالم؛ أي: كيف نعرف الخطأ والصواب؟ ليس بين المذاهب الفقهية وحسب، بل بين الأديان المختلفة، وبين المؤمنين والذين لايؤمنون. ويكبر السؤال ليصبح: كيف نعرف الحق؟ لذا كان هاجس: كيف أعرف؟ هو الذي حفز/ حتى لا أقول: أتعب جودة سعيد في مساره الفكري التساؤلي والشاق.
بلور جودت سعيد في مساره الفكري أطروحة تنطلق من أن مصدر المعرفة، بالنسبة له، هو: القرٱن والتاريخ. لذلك ترافع في مقدمة كتابه ( مذهب ابن ٱدم الأول) ضد ( الٱبائية)، ودعا إلى التخلص من مقولة ( عصمة الٱباء)؛ إذ الٱبائية، بنظره، تحجب الرؤية الجديدة. مع أن تجاهل الٱباء مشكلة! لذلك كان ينوي إصدار كتاب بعنوان قرٱني ناقد للٱبائية هو: ( بل أنتم بشر ممن خلق)/المادة/18. وهو الذي كان يعنون بعض كتبه بٱيات قرآنية: ( حتى يغيروا ما بأنفسهم)/الرعد/11، و: ( إقرأ وربك الأكرم)/ العلق/3.، أو بعبارات مستلهمة من الحديث النبوي؛ مثل كتاب: ( كن كابن ٱدم)/الألباني، صحيح الجامع/2431، وسنن الترمذي/2194…
ويذكر جودت سعيد أنه أسس لتصوره لمصادر المعرفة من خلال كتابات مالك بن نبي، عالم الاجتماع والعمران الجزائري(1905-1973)، وقد التقيا في مصر في منتصف القرن الماضي؛ فقد تأثر بفكرة رئيسة في كتاب مالك بن نبي ( ميلاد مجتمع)، حول التاريخ والتغير والنمو، وحول مقولة( الزمن الميت)، مثل زمن النمل والنحل والحيوان، أما الإنسان فزمنه صيرورة مستمرة. فالٱبائية تدفعنا إلى الزمن الميت، والذي لاتطور فيه ولاتغير، فتتشكل معوقات حركية المجتمع ونموه. واصطدم جودت سعيد طالبا في الازهر بثقافة محافظة مكتنزة بتصور ( الزمن الميت). تصور يحمل عنوانا هو: ٱخر الزمان! ويقوم على أن اليوم أسوأ من الأمس، والغد أسوء من اليوم، وأننا في ٱخر الزمان. وعاد جودت
سعيد إلى القرٱن الكريم يبحث عن هذا المفهوم، أو عن جذوره، فلم يجده، بل وجد ما يناقضه في منظومة القرٱن الكريم، وفي تصور الزمن وفي علاقته بالإنسان. وخلص إلى أن المجتمعات التي تعجز عن تصور ( الزمن الحي)، وتعجز عن الزيادة في الفهم وفي الخلق، تطمئن إلى مفهوم ( الزمن الميت)، والى فكرة منومة ومبررة للعجز والكسل، هي: ( نهاية الزمان)! لقد تأثر جودة سعيد في منتصف خمسينيات القرن الماضي، وهو في مصر، بكتاب ( شروط النهضة) لمالك بن نبي. ووجد فيه نموذجا جديدا للتفكير وللفهم وللتحليل. ويذكر أنه قرأ كتاب مالك بن نبي ( الأفريقية الأسيوية) أكثر من ثلاثين مرة! كما استلهم من مالك بن نبي مجموعة من المفاهيم التفسيرية؛ مثل: ( القابلية للاستعمار). وقد وسع جودت سعيد أفقه الدلالي، وربطه بمعجم القران الكريم؛ من خلال ٱية: ( ما أصابك من سيئة فمن نفسك)/ النساء/79.
لقد أحدث مالك بن نبي انقلابا في فكر جودت سعيد، وجعله ينظر إلى القضايا الاجتماعية والسياسية، من منظور ٱخر مخالف لماساد في الساحة المصرية خصوصا والعربية عموما، في الخمسينيات والستينيات، من الخطابات الأيديولوجية: القومية والاشتراكية والإسلامية، والتي كانت تربط الأزمات بـ: الاستعمار، والصهيونية، والصليبية… فأحدث مالك بن نبي تغييرا في توجيه أصبع المسؤولية؛ من الٱخر إلى الذات! وقال قولته المشهورة، بعد أن رسم منحنى الانحدار من غار حراء إلى صفين إلى ابن خلدون، ثم الوصول إلى الاستعمار وإلى التخلف. قال قولته: إن القابلية للاستعمار لم تصنع في باريس ولندن وواشنطن وموسكو، وإنما صنعت تحت قباب جوامع العالم الاسلامي ومساجده، في بخارى، وسمرقند، ودلهي، وطهران، وبغداد، ودمشق، والقاهرة، والقيروان؛ أي في محور: طنجة- جاكرتا. وحقق جودت سعيد توازنه الفكري بين نزعة مالك بن نبي النقدية الصارمة، وتحليله الاجتماعي المزعج لأوضاع العالم الإسلامي، من خلال الأدوات التفسيرية لعلم العمران، ولعلم الاجتماع، مما تبرز فيه ٱثارالمدرسة السوسيولوجية الفرنسية الحادة، بانفتاحه، أي جودت سعيد، على المتن الفلسفي والفكري والشعري والصوفي للمفكر الهندي محمد إقبال( 1877-1938)، من خلال كتابه:( تجديد التفكير الديني في الإسلام). فقد تأثر جودت سعيد بإقبال في الربط بين الإيمان والعلم، واستيعاب خطاب القرٱن في التأسيس للفكر العلمي، وفي اعتبار النظر في الٱفاق/ الطبيعة، وفي الأنفس/ الإنسان مصدرا للعلم وللحقيقة. كما استفاد منه تصوره لـ( ختم النبوة) وعلاقته بالفعل الإنساني في التاريخ، وبحرية الإنسان، وبالتفكير العقلاني، وتصوره لمفهوم الشريعة، خصوصا: ( شريعة الله)، وهي: ( العدل). إن تحليل محمد إقبال هو الذي جعل جودت سعيد/ المثقف، في طور التكوين العلمي، يقتنص جوابا ظل عالقا عن سؤال ألقاه جودت سعيد/ الطفل على أمه، حول أي الصيغتين في التشهد في الصلاة أصح؟ كما ذكرنا سلفا. ففهم من خلال متن محمد إقبال أن معرفة الحق في المذاهب والفلسفات والأديان والثقافات يكون بالنظر في الإنسان الذي أنتج المذهب أو الفلسفة أو الدين أو الثقافة.
كما استفاد جودة سعيد من المتن الفكري النهضوي للشيخ محمد عبده( 1849-1905)، ونقده للفكر الديني الكلاسيكي المحافظ. كما انفتح على فكر العالم النمساوي محمد أسد ( ليوبولد فايس سابقا)(1900-1992)، وقرأ كتابه: ( الاسلام على مفترق الطرق)، ترجمه الدكتور عمر فروخ. وظل جودت سعيد متابعات للحالة الثقافية الإسلامية والعالمية. ومتفاعلا مع المشاريع الفكرية في الدراسات الإسلامية المعاصرة، مثمنا اجتهاداتها ومشتبكا معها؛ مثل اشتباكه مع مشروع الثيولوجيا الجديدة الذي بشر به الأستاذ محمد أركون، رحمه الله.