فكر طه عبد الرحمن وضعية ملتبسة في الثقافة
يدل مفهوم الالتباس في أبسط معانيه على “الغموض”، وارباك المتلقي حول الرسالة الملتبسة التي يحملها الخطاب الملتبس، واضطراب المواقف حولها. ونحن نقصد به، إضافة إلى معنى الغموض والارباك، عدم وضوح التوجه الفكري للمشروع الخطابي لطه في الساحة الثقافية العربية الإسلامية؛ أو لنقل لدى الكثير من متلقيه.
ونخصص هذه المقالة للعوامل التي تساهم في صناعة وضعية الالتباس، والتي تحصلت لنا، ونحن نقرأ كتبه ومؤلفاته؛ ونتناولها في صورة وضعيات “فكرية”، ترجع، في رأينا، إلى ثلاثة أمور: أولها مهنة التعليم التي أتاحت له تدريس مجموعة من المواد المعرفية، تمكن بسببه من الاطلاع على حقول معرفية، تراثية وحديثة عديدة. ثانيها تعدد كتاباته، وتوزعها على مناحي معرفية وثقافية وتراثية عدة. ثالثها انتماؤها الديني؛ وهو الانتماء الذي يشكل الوجهة التي وظف ويوظف فكره وكتاباته لخدمته. ونجمل هذه الوضعيات فيا يلي:
1-الوضعية الفلسفية. 2-الوضعية المنطقية. 3-الوضعية العقلية. 4-الوضعية الكلامية. 5-الوضعية اللغوية واللسانية. 6-وضعية رجل الدين؛ والداعية إلى التصوف الطرقي. تعكس كتب ومؤلفات طه عبد الرحمن هذه الوضعيات، والتي يمكن تصنيفها إلى ثلاث مجموعات؛ مجموعة الكتب الفكرية والمعرفية منها المنطق والنحو الصوري، واللسان والميزان أو التكوثر العقلي (….) مجموعة المؤلفات السجالية والكلامية، وهي الأكثر مثل: تجديد المنهج في تقويم التراث، فقه الفلسفة، سؤال الأخلاق، بؤس الدهرانية، شرود ما بعد الدهرانية، الحق العربي في الاختلاف الفلسفي، الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري (…) مجموعة المؤلفات الدينية الصوفية، وتشمل: العمل الديني وتجديد العقل، ما العمل، دين الحياء، المفاهيم الاخلاقية بين الائتمانية والعلمانية، سؤال العنف بين الائتمانية والحوارية، من الإنسان الأبتر إلى الإنسان الكوثر (…).
والعلاقة بين المجموعات الثلاثة، وهي العلاقة التي توضح طبيعة مشروعه الخطابي، هي أن الصنفين الأول والثاني من مجموعات كتبه، هما مجرد أدوات أو آليات لخدمة وتكريس ما يحمله الصنف الثالث من مضامين محتويات ودعوة. ويعني ذلك أن اشتغال الأستاذ طه بالفكر والمعرفة، ومنها الفلسفة والمنطق، ليس اشتغالا أصيلا، وإنما هو اشتغال توظيفي واستغلالي؛ فهو يوظف المعرفة المنطقية والفكر الفلسفي لخدمة التراث والدفاع عنه وإعادة انتاجه، وهو العمل الذي يسميه ب: “النهوض بالموروث الديني”. ولهذا يحدد لما يوظفه من معارف صفة “الخدمة”، بحيث لا يقبل أي علم إلا بقدر خدمته “للحقيقة الإسلامية”. (تجديد المنهج: 84-85)
وأعاقه هذا الاشتعال التوظيفي الأداتي للفكر، من الابداع في مجال الفلسفة خاصة؛ رغم ما يعلنه ويصرح به بأنه ينشئ “فلسفة إسلامية”، أو أنه يعلم العرب والمسلمين تقنيات التفلسف التي تكسبهم القدرة على الابداع الفلسفي. فالرجل، في رأينا، قارئ جيد للفلسفة وتاريخها، وللمعرفة المنطقية القديمة والحديثة، ومتمكن منهما بشكل يؤهله للإبداع في مجاليهما، لكن الرجل بدل ذلك انحاز باتجاه مهمة الدفاع عن التراث، والعمل على اعادته إلى الخدمة، كما كان في الماضي والدعوة إليه.
ولكي يبرر المهمة التي انتدب لها نفسه وقلمه، أطلق دعاوى كثيرة مثل: إن الموروث ومعارفه الدينية، وليس الفكرية، تحمل فلسفة خاصة؛ فلسفة صيغت، ليس على مقتضى الفلسفة اليونانية المنقولة، والتي تعتمد ما يسميه “العقل المجرد”، وإنما اعتمادا على “ملكات” ومناهج أخرى، لا تقل مكانة في بناء “المعرفة” واكتسابها من العقل نفسه، وفي طليعتها “الروح” أو العقل الصوفي، الذي يسميه في تقسيمه الثلاثي للعقل بـ “العقل المؤيد”، والعقل الفقهي الذي يسميه بـ “العقل المسدد”، والعقل الكلامي الحجاجي، الذي تجسده المناظرة. (فقه الفلسفة، الفلسفة والترجمة:257)
من العقل الديني؛ بمكوناته الثلاثة تولدت “الفلسفة الإسلامية” في رأيه. وتنضاف هذه الدعوى إلى العوامل/الوضعيات السالفة في تكريس صفة الالتباس على فكر طه؛ هل هو فكر فلسفي ومنطقي، أو هو فكر ديني صوفي طرقي، أو هو فكر أخلاقي انساني. ونشرع، بعد هذا، في الإضاءة على الوضعيات المشار إليها، وضعية وضعية، في صورة عناوين عامة ومركزة.
1-الوضعية الفلسفية: يحضر طه في الساحة الفكرية والثقافية تحت عنوان الفلسفة، وربما يعد العنوان الأبرز لهذا الحضور لدى تابعيه ومريديه، وانطلاقا منه يتم تصنيفه بوصفه فيلسوفا. وتتمثل الأسباب التي ساهمت وتساهم في رسم هذا العنوان لطه عبد الرحمن فيما يلي: امتهان تدريس الفلسفة والمنطق، أنه قارئ للفلسفة وتاريخها، السجال مع فكر فلاسفة غربيين كبار، القول بإنشاء فلسفة بديلة؛ يسميها بأسماء عديدة منها “الفلسفة الحية” و “الفلسفة الائتمانية”، القول بتعليم المسلمين تقنيات التفلسف.
2-الوضعية المنطقية: لا يستطيع أحد التشكيك، في عالمنا العربي الإسلامي على الأقل، في تمكن طه عبد الرحمن من المعرفة المنطقية؛ ونن نرى أن هذا التمكن، إلى جانب تمكنه اللغوي واللساني، هو ابرز ما يؤهله للإبداع الفكري والفلسفي، لكنه اختار مسارا آخر، وهو تحويل هذه المعرفة الأرقى والأكفأ على بناء العقل والاقتدار والكفاءة العلمية والمعرفية، بشكل لا يضاهيها غيرها من المعارف والعلوم، إلى مجرد أداة خدمة لمعارف التراث، التي تحمل في مضامينها “فلسفة” لا تحتاج إلا إلى إعادة بنائها واحيائها على مقتضى اللغة الفلسفية، ولهذا انحصر تفاعله الإيجابي مع الفلسفة القديمة والحديثة والمعاصرة، في الجانب الآلي والصوري فقط؛ أي في أدوات وتقنيات انتاج الفكر الفلسفي. (من الإنسان الأبتر إلى الإنسان الكوثر: 73)
وهذه الآليات التي لا يخفي نقله لها من خارج المعرفة التراثية، كما نقل وينقل غيره في عالمنا الفكر الفلسفي، هي أقوى أدواته في النقد والاعتراض على المشاريع الفكرية والثقافية والتراثية لمن صنفهم ويصنفهم خصوما (نقده للجابري نموذجا في: تجديد المنهج: 82)؛ ونميز في هذه الوضعية بين:
ا-وضعية الاقتدار المنطقي، وتفصح عنها المعطيات التالية: تدريس مادة المنطق بالجامعة، التأليف في حقل المنطق، انجاز بحوث أكاديمية في المجال.
ب-وضعية “الاشتباه” حول الموقف من المعرفة المنطقية، وتدل عليها الأمور التالية: الانتصار والاحتفاء بنزع الطابع الصناعي على المنطق الأرسطي من طرف بعض الفقها؛ ابن حزم وابن تيمية خاصة (تجديد المنهج:329-350)، الانتصار للمنطق الطبيعي، تفضيل الجدل والمناظرة على المنطق.
3-الوضعية العقلية: يساهم موقف طه ونظرته إلى العقل بشكل أقوى في إشكالية التباس فكره، وذلك للأسباب التالية: التوسل وتوظف آخر مستجدات العقل الفلسفي ومنجزاته (التداولية مثلا)، القول بتعدد العقل وتكوثره، اتهام ما يسميه “العقل المجرد” بعدم القدرة على ارشاد الانسان، وعجزه على إدراك ما هو ضار وما هو نافع في الحياة، تفضيل العقل الديني بنوعيه الفقهي (المسدد)، والصوفي (المؤيد) على العقل الإنساني المشترك (المجرد)، وتصنيفه في المرتبة الأدنى في تقسيمه للعقل؛ فالدين أقوى من العقل ومنه يستمد المشروعية. (روح الدين: 152)
4-الوضعية الكلامية: تبرز هذه الوضعية أكثر من غيرها في كتاباته؛ فأغلب مؤلفاته تمت صياغتها بطريقة الجدل والحجاج، المؤسسة على الادعاء والاعتراض وتعبر بشكل أفضل من غيرها من الوضعيات عن المهمة “الفكرية” والثقافية للمشروع الخطابي لطه، والمؤهلة، في رأينا، لئن تحدد هويته الفكرية أو الثقافية، ويأتي في مقدمة عواملها: ممارسة الوظيفة المميزة لعلم الكلام وهي الدفاع، العمل على تجديد علم الكلام من خلال التأليف: أصول الحوار وتجديد علم الكلام (روح الدين: 391)، الانتصار للكلام الأشعري وتبني مقولاته (نفي الفاعلية عن الانسان، الكسب، العادة)، تفضيل الجدل والمناظرة (فقه الفلسفة، الفلسفة والترجمة:256)، تصنيف علم الكلام وأصول الفقه النموذج الأصيل للفلسفة الإسلامية. (روح الدين: 391) و(تجديد المنهج: 386)
5-الوضعية اللغوية واللسانية: تعكس كتابات طه عبد الرحمن تمكنه واقتداره اللغوي واللساني؛ وهي في الحقيقة، الوجه الآخر لاقتداره المنطقي؛ فهما معا يرشحانه لمهمة الابداع الفكري والفلسفي كما سبقت الإشارة إليه، وتدل على هذه الوضعية المعطيات التالية: تدريس فلسفة اللغة بالجامعة، التمكن من لغات انتاج الفلسفة القديمة والحديثة، التمكن من العربية وأدوات التوليد فيها، الاشتغال على المفاهيم الدينية والتراثية على مقتضى الصناعة الفلسفية الصورية المنطقية، واخراجها في صيغ وموازين تضفي عليها مسحة من الابداع، ويحدد لهذا التصنيع وظيفة أيديولوجية واضحة: حفظ الدين وانتزاع التصديق له (سؤال الأخلاق: 226)، تجعلها منسجمة مع الأنساق الخطابية الحديثة، توليد مصطلحات ومفاهيم كثيرة، وهو نتيجة للمعطى السابق، العمل على إعادة مفاهيم ومصطلحات الموروث الديني والتراثي إلى الخدمة.
6-وضعية رجل الدين والداعية؛ أو الوضعية الأيديولوجية: وتتمظهر فيما يلي: الدفاع عن المعارف الدينية التراثية، وتقديمها بوصفها تتضمن فلسفة ومناهج عقلية، إعادة انتاج الموروث الديني بإضفاء الصنعة الحديثة عليه، رجل التصوف والمنظر للتصوف الطرقي، العمل على تقديم السند الفكري للحركات الأصولية (مقدمة كتاب: العمل الديني وتجديد العقل)، رفض السياسة المدنية، والدعوة إلى اعتماد “التدبير” الديني للمجتمع عبر تقسيم السلطة بين الزاوية والسلطة، تتولى الأولى “التدبير الديني”، وتتولى الثانية “التدبير السياسي”، اعتبار نظام “الخلافة” التاريخي النموذج المثالي للحكم. (روح الدين: 360-361)
تلك هي الوضعيات التي استشكلنا من خلالها طبيعة حضور فكر الأستاذ طه في الثقافة؛ ولعل البعض يعترض بالقول إنها وضعيات تعكس تعدد أبعاد فكر طه وغناه؛ فنقول سيكون الأمر كذلك لو أن طه قارب قضايا تلك الحقول الفكري والتراثية من زاوية البحث العلمي، وما يفرضه من الموضوعية وخدمة الحقيقة، فضلا عن احترام الحدود المميزة لكل حقل؛ لكن ما يميز عمله واشتغاله هو التوظيف والخلط؛ فهو يوظف بعض تلك الحقول أداة لخدمة البعض الآخر، ولهذا تجده ينقلب في سياق واحد، أو داخل كتاب واحد من حقل على آخر بنفس منطق التوظيف أو التخديم.
وأحيانا يعرض مفاهيم وأفكار حقل تحت عناوين حقل آخر، ومثاله: أن يتحدث عن التصوف ومقولاته، ويعرضها تحت عنوان الأخلاق، أو مفهوم المقاصد تحت نفس العنوان، مما يجعل الثلاثة شيئا واحدا؛ ومثل عرض التصوف الطرقي في سياق “نقد” الحداثة، بوصفه بديلا لتجاوز أزماتها، ومثاله أيضا اعتماد “العقل المجرد” وآلياته ضد الخصوم ونقدهم، ثم تنزيله المنزلة الأدنى والأخس، بهذا العقل اكتسب ما اكتسب من معارف، وقدرات في القراءة والكتابة و (…)، فلو افترضنا طه بدون اطلاع على الفلسفة فهل يستطيع هو نفسه اليوم اعتمادا على العقل الصوفي، أو بعبارته “العقل المؤيد”؟ أن يكتسب ما اكتسب من معارف واقتدار على القراءة والكتابة (روح الدين: 495).
وخلاصة القول إن فكر طه ينتظمه حقلان معرفيان، يعدان أقوى حقول المعرفة تأثيرا في الحياة والانسان، هما المعرفة الفلسفية والمنطقية، والمعرفة الدينية؛ الأولى تؤثر في النخبة، بل تصنعها، والثانية تؤثر في العامة وتؤطرها. وفي هذا تتجلى قيمة أو خطورة ما يعرضه الرجل على المتلقي من تصورات ومواقف وأفكار وقرارات وأحكام (…) وللاقتراب أكثر من طبيعة مشروعه الفكري، نعرض نماذج لمواقفه وقراراته والتي، حتما، تكون قد مررت للنخبة.
يقول عن العلم والتقنية، بوصفهما النموذج الأبرز للمعرفة الحديثة، ولنمط الحياة الحديثة؛ أو للحداثة: “والقول الجامع أن النمط المعرفي الحديث غير مناسب؛ إن لم يكن غير صالح للتوسل به في بناء معرفة إسلامية حقيقية”. ولا يكتفي بالتقرير؛ بل يدعو إلى التطهر منهما؛ إذ يحدد للصوفية الطرقية وظيفة: “تجديد التربية لمداركنا، حتى تطهرنا من هذه الطبقات المعرفية المترسبة”. (سؤال الأخلاق:110-111)
فالطرقية تولد في المتصوف: “فاعلية تعيد إليه تكامله المادي الروحي، فينهض إلى تطهير نفسه من الطبقات العقلية والعلمية الموروثة عن النمط المعرفي المتداول”. (نفسه: 112) ويقول عما يسميه “أخلاق العمق”: “تدعونا إلى الشروع في بناء حضارة جديدة لا يكون السلطان فيها ل “اللغوس”، وإنما ل “الإيتوس”” (نفسه: 146)، ويقول في السياق ذاته: “لست أرى رأي من يقول بأن مآل التجديد الإسلامي رهين بإنشاء المؤسسات الصناعية، والمراكز التقنية ووضع البرامج التحديثية وتجنيد الطاقات المادية” (نفسه: 195)
وفي سياق نقد من يسميهم “محترفي التقليد” يضع من أسباب عدم التقليد: “لأن، في مجالات ثراتهم، غناء عن هذا الذي يقلدون ويتبعون فيه غيرهم”. (بؤس الدهرانية: 183) وينتقد الأصولية في اقتباسها الآليات الديمقراطية في التدبير، ويبرره بأنه مخالف ل: “إرادة تدبير أمور المعاش بما يخدم المصالح الأخروية على طريقة المتقدمين”. (روح الدين: 337)
وليس غريبا، بناء على ذلك، أن يصدر عن الرجل مثل هذا الموقف. يقول: “ليس في جميع الأمم، أمة أوتيت من صحة العقيدة وبلاغة اللسان وسلامة العقل مثلما أوتيت أمة العرب، تفضيلا من الله”، والقول: “إن العرب أوتوا رجاحة في العقل لم تتقدم لغيرهم”، ويقول إن الشعور بالتميز العقلي متفرع عن التفوق الديني واللغوي. لماذا؟ لأن: “من تكون له أفضل شريعة وأفضل لغة، لزم أن تكون له أفضل معرفة ما دام يستمد هذه المعرفة من أحق الحقائق التي جاءت بها أصدق شريعة”. (تجديد المنهج: 252-254) فليس يحتاج المسلم إلى المعارف الحديثة، لأنه يملك “أفضل معرفة”.