الحداثة و مركزية الرؤية العلمية: كيف نفهم الحداثة اليوم
الحداثة هي الأسلوب العلمي موجه إلى كل قطاعات الحياة“هذا ما يطالعنا به كتاب “الحداثة و مركزية الرؤية العلمية“ للدكتور محسن المحمدي الصادر عن دار أدب للنشر و التوزيع، الطبعة الأولى 2022. تتمركز إشكالية الكتاب حول تعريف الحداثة ومحاولة البحث في أصولها و جذورها الأولى، فمن المعروف أن الحداثة إشكالية مزمنة خاض المفكرون العرب والمسلمون معارك كثيرة في ساحاتها مند أن اصطدموا بها أول مرة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، هذا الاصطدام الذي تحول لصدمة انبثقت عنها إشكالات وجودية هزت أعماق الإنسان العربي، لكن الإشكال هو أنه رغم اشتغال الفكر العربي والإسلامي بالحداثة لعقود طويلة إلا أن معناها قد ظل منفلتا، فقد توارى معنى الحداثة خلف نتائجها، وما تظهربه من عقلانية وفردانية وغيرها من مظاهر خارجية لا تعبر عن المعنى الحقيقي للحداثة، فتلك في نظر الكتاب ثمار للحداثة و ليست هي ذات الحداثة.
يؤسس الكتاب لقراءة تفكيكية مغايرة بالمرة لمفهوم الحداثة، فيأخذنا في رحلة فلسفية وابستمولوجية شيقة لكي نقف عند الجذر الأول للحداثة والنبع الأساس الذي تدفقت منه، يؤكد محسن المحمدي في هذا الكتاب على ذلك التماهي بين كل من الحداثة والعلم، فأسس الحداثة هي أسس العلم نفسه، وهو ما يظهر جليا واضحا في شخص العالم، “العالم يشتغل في مختبره“. فالعالم بالنسبة للكتاب هو التجسيد الفعلي للحداثة و الإنسان الحداثي، فمن داخل مختبر العالم سوف يتدفق كل شيئ، وهنا مركز أطروحة الكتاب فكيف ذلك؟ يقول الكتاب: “الطريقة التي ينظر بها العالم للأشياء من قبيل شكه الدائم في المعرفة، و عدم قبوله الجاهز من الأفكار و فصله الذات عن الموضوع، و عزله تكوين الشيئ عن خلقه، و تكميمه للظواهر قصد التحكم فيها، و استبعاده للنظرة الغائية، و تأكيده عل الدليل المحسوس، هي أمور لم تعد حكرا عليه وحده و إنما تسربت إلى بنية التفكير البشري“ يرى الكتاب بأن النظرة العلمية ستصبح بمثابة براديغم العصر، فتلك هي الرؤية المسماة حداثية.
يؤكد محسن المحمدي على أن هذه هي العقلية التي شكلت بنية الإنسان الحديث بوعي أو بدون وعي، وهذه هي الرؤية التي سيطرت ونفذت إلى أعماق الأعماق من أجل هدف نهائي هو التحكم والهيمنة وضمان المردودية والنجاعة، لقد اخترقت هذه النظرة كل الحدود، وكل جانب من جوانب حياتنا من غياهب أنفسنا إلى معمارنا ومدننا وحياتنا الاجتماعية والسياسية، فكل شيء طالته سهام النقد ونقد النقد إلى مالا نهاية، فأينما وليت وجهك، ستسمع لفظة علم. فكيف تبلورت هذه الرؤية؟ كيف نشأت و أين بدأت؟
يرى الكتاب بأن هذا النمط من التفكير سيتشكل بوضوح مند بواكير العصرالحديث، لقد ظهر جليا مند اللحظة الكوبرنيكية التي بينت بأن الأرض ليست هي مركز الكون، وعليه فالكوبرنييكة في نظر الكتاب هي أساس الانقلاب الحداثي لما أحدثته من صدمة كبرى للحس المشترك لما غيرت نظرتنا للكون محولة إياه من كون مغلق محدود إلى كون شاسع ولا نهائي، مما سيفتح الباب واسعا نحو استنطاق الطبيعة وإرغامها على البوح بأسرارها، و فرضت على الإنسان القيام بمراجعة شاملة لوسائل المعرفة لديه، فالحواس لا يمكن الثقة بها، والمعرفة لا تتم بشكل تلقائي عفوي، مما يعني أنه لا بد من تشريح العقل البشري، ووضع القواعد الأساسية التي عليه السير فيها.هنا سيبرز ديكارت الذي سيعكس النتائج العلمية إلى استنتاجات فلسفية، لما سيؤسس المبادئ الفلسفية التي ستواكب هذه الثورة، حيث سيصبح الشك ضرورة لا غنى عنها حتى لا يستمر العالم في إهانتنا و خداعنا.
كما ستدفع الكوبرنيكية كذلك نحو إنشاء فيزياء جديدة تتلائم والفتح الكوبرنيكي المستجد، وهو ما سيعمل غاليلي على تجسيده انطلاقا من مبدأ العطالة، هذا المبدأ الذي سيغير نظرتنا للمادة عندما سيجعلها عاطلة لا حياة فيها، إنها مجرد آلة ضخمة صماء واجبة الاختراق، فهي خاضعة للحتمية و منطق السبب والنتيجة، والوسيلة الوحيدة لفهمها وعزل ذواتنا عنها هي الرياضيات.
إن جوهر الحداثة في نظر الكتاب يكمن في كشف المضمرات وإماطة اللثام عن المخفيات، وكشف بؤر التسلط والتحكم بغاية التحرر، وبالتالي فلا بد من كشف الزيف والخداع عن طريق تفكيك القضايا و تشريحها، فهو الأداة المسعفة لفهمها، من الشفرة الوراثية، صوب الجسم البشري، صوب خفايا النفس البشرية. هنا يمكن أن نفهم الفيلسوف الألماني إمانويل كانط، الذي سيشرح العقل حتى يتلائم مع القلب الكوبرنيكي، فمع كانط سيدور العالم على الذات وسيصير العقل هو المركز الثابت باعتباره مجموعة إطارات وصور يفرضها على معطيات التجربة، وبالتالي فالمعرفة ليست نتاج لتأثر الذات بل الذات هي التي تؤثر في الأشياء.
من بين المبادئ الأساسية التي قام عليها المنهج العلمي في القرن السابع عشر مبدأ العزل المنهجي بزعامة غاليلي، هذا المبدأ الذي سيطبع بطابعه الحداثة، ومعناه عزل الظواهر و إدخالها المختبر في ظروف نموذجية ومثالية كي نحصل على منطلق واضح وبعدها يسهل بناء تصورات وأفكار على ضوء هذا المنطلق.هكذا فالحداثة تجد مرتكزها إذن في العلم القائم على أساس أن الحقيقة صناعة بشرية، يصنعها بجهد جهيد، وبمواجهة الواقع مباشرة، و كذا الارتباط بما هو كائن لا بما ينبغي أن يكون، فسحق الأوهام هذا سيمس كل المجالات و ليس الطبيعة فقط.
تكمن الجدة في الكتاب، في تأكيده على أن الحداثة بنيان طويل ومستمر، وهي ليست نموذجا غربيا بالأساس، فالحداثة حداثة كونية، و هي واحدة لا متعددة، فهي نتاج “للدار العالمية“ كما يقول الكتاب، وتاريخ الفلك دليل مباشر على كونية الحداثة، إن هذا التاريخ ستقدم فيه الحضارة العربية الإسلامية إسهامات جليلة، فستعرف الحضارة العربية الإسلامية فلكيين بارزين أمثال نصر الدين الطوسي وابن الشاطر وابن الهيثم، كما ستعرف مجموعة من المراصد مثل مرصد سمرقند ومرصد مراغة، وكان للفك العربي إسهام كبير في تطور الفلك الأوروبي، فأعمال هذا الفلك صارت تدرس في مدارس فلسفية أوروبية في أوربا، وسيتعرف عليه أبرز الفلكيين الأوروبيين في عصر النهضة، فأعمال الفلك العربي لم يتبق لها سوى نقطة وحدة هي تحريك الأرض، فقد أبدعوا هيأة جديدة سابقة على كوبرنيك إلى حد يمكن اعتبار كوبرنيك من أتباع مدرسة مراغة، لهذا فلا نستغرب من ذكر كوبرنيك للبتاني في كتابه دوران الأجرام السماوية، و هو الأمر الذي ينطبق كذلك على تاريخ الميكانيكا فلا يمكن إنكار الإسهام الكبير لأعمال كل من يوحنا النحوي وابن سينا وابن باجة في حل إشكالات الحركة القسرية عند أرسطو من خلال نظرية الإندفاع التي ستكون تمهيدا لقانون العطالة، وهو ما استفادت منه مدرسة باريس خلال القرن الرابع عشر، في فترة يمكن أن نسميها مخاض ولادة العلم الحديث.
يؤكد محسن المحمدي على أن الصراع القائم بين مجتمعاتنا المعاصرة والحداثة ليست مسألة غريبة، لأن هذا الصراع قد عرفته أوروا قبلنا، فقساوة الحداثة تجعل هذا الصراع مسألة طبيعية لأن جوهرها تكسير الأوهام وتحطيم كل اليقينيات التي من شأنها تبديد أمان الإنسان، لكن هل هذا يعني رفض الحداثة؟ يؤكد الكتاب على أننا أمام خيارين فإما الانخراط في الحداثة أو الاحتواء و التلاشي، وبالتالي فلا بد من الجهد التربوي و البيداغوجي لتبيئة مفهوم الحداثة باعتبارها “الأسلوب العلمي“ لضمان ولوج زماننا بصفاء ووضوح نظريين والسير في طريق المجتمع الإنساني الظافر، الطريق الذي لا بد منه.