الإشاعة سلاح الحرب والسلم
يلاحظ المتتبع للواقع اليومي المعيش ، سواء منه المحلي أو الإقليمي أو العالمي على حد سواء ، رواج عديد الأخبار والمعلومات غير البريئة وغير المؤكدة بما أنها لا تكشف عن مستنداتها وعن سياقاتها وحقيقة نواياها . وزادت وسائل الإعلام المختلفة ، المسموعة منها والمكتوبة والمرئية ، من رواج مثل هذه الأخبار عن الشخصيات والأنظمة والمذاهب وعن الظواهر الاجتماعية والطبيعية . وهو ما خلق الكثير من التشويش ومن الهلامية ومن عدم الشفافية حولها . بل أصبحت لمثل هذه الإشاعات مؤسسات إنتاج وخبراء وتقنيات وحتى المناسبات والمواعيد الرسمية المعروفة عالميا أيضا والتي ينتظرها خلالها الناس ويتقصون أطرفها وأكثرها جذبا للانتباه ولفتا للأنظار ، إنه موعد سمكة أفريل وما يشاع خلالها من طرائف تتفكه وسائل الإعلام بترديدها وبالترويج لها ، منها ما يؤخذ على محمل الجد ومنها ما يُرد إلى المناسبة ويسجل على أنه إشاعة . فما معنى الإشاعة ؟ ما هي خاصياتها ؟ وكيف يكون التعامل معها ؟
1 – تعريف الإشاعة :
لغويا ” الإشاعة كلمة مشتقة من فعل أشاع ، وهو يعني نشر الخبر على نطاق واسع باستعمال جميع الوسائل التي تؤمّن هذه العملية . وتحصل الإشاعة بواسطة الحوار أو الرسائل أو المناشير مرورا بوسائل الإعلام الأخرى من صحافة وإذاعة وتلفزة وهاتف ثابت ونقال وشبكة انترنيت .” (1) وما يمكن استخلاصه من هذا التعريف هو الموازاة بين الإشاعة والإخبار مع الاستعاضة عن الغوص والتعمق في ماهية الخبر المشاع وقيمته بإبراز دور الوسائل التكنولوجية الحديثة في الترويج له وبالتالي في بث الإشاعة ومزيد نشرها . ولعل ذلك من سلبيات هذه الوسائل الاتصالية الحديثة ومن أوجه التوظيف السيء لها . أما اصطلاحيا فالإشاعة ” هي رواية مصطنعة عن فرد أو أفراد أو مسؤولين ، يتم تداولها شفهيا ، بأية وسيلة متعارف عليها ، دون الرمز لمصدرها أو ما يدل على صحتها . ومعظم الشائعات مختلفة ، ذات دوافع نفسية أو سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية ، وتتعرض أثناء التداول للتحريف والزيادة والنقص ، وتميل غالبا للزيادة ” (2). وواضح أن هذا التعريف يركز خاصة على :
- طبيعة الإشاعة بما هي مقصودة أي مصطنعة ويقع إنتاجها
- أنها مجهولة المصدر وليس لها اسناد صحيح . هي كلام الناس الذي يبنى للمجهول . وهو ما يوفر للرواة حرية الإحالة والإسناد وتخيّر المصدر الأكثر مصداقية وإقناعا . والكثير منهم يلح على ذلك ويدّعي أن مصادره موثوق بها ومطلعة على أدق تفاصيل الخبر وقد تكون أيضا مقربة من المصادر الرسمية للأخبار ولاتخاذ القرار بالوزارات مثلا وبالدوائر الرسمية الحكومية منها والحزبية والأمنية … الخ
- كثرة الرواة وانعدام الإسناد الدقيق يجعل الإشاعة قابلة للتضخيم والتحريف والتعديل بما يوفر لها المزيد من عناصر الإقناع والتصديق ، وهو ما يجعلها تختلف على مستوى الصياغة والإخراج مثلا ، من مكان لآخر ومن شخص لغيره . الإشاعة هي ككرة الثلج التي تزداد ضخامة كلما ازدادت تدحرجا .
- تعدد الدوافع والغايات منها العفوي البريء ومنها الخبيث المضمر وكذلك الهزلي التفكهي .
كما أن بعض التعريفات الأخرى تجعل من الإشاعة نبأ هادفا ، مجهول المصدر ، سريع الإنتشار وذا طابع استفزازي أو هادئ حسب طبيعة ذلك النبأ ، بل قد تماثل بين الإشاعة والدعاية التي تحاول هي أيضا التأثير في الأفراد والسيطرة على سلوكهم لأغراض مبيتة ومشكوك فيها . وهو ما يؤكد عدم البراءة من ترويج هذه الإشاعات . أما الدكتور جمال السيد فيعرف الإشاعة بأنها ” خبر ينتقل من فم إلى فم ، مجهول المصدر ، يتحرك بين الأفراد ، ولا يجعل معه دليل صحته ويفتقر إلى المسؤولية ، وتتغير بعض تفاصيله من فرد إلى آخر .” (3) وفي كل الحالات هنالك تشديد على الطابع السلبي للإشاعة ، كما أن كل التعريفات تِؤكد أنها ضروب من الأباطيل التي تعد وتجهز أو تصنع بهدف الـتأثير على الرأي العام بشكل إجمالي لتحصيل غايات مضمرة وغير بريئة .
2 – دوافع الإشاعة وأهدافها :
تجمع كل التعريفات على عدم براءة الإشاعة ، بل هي تستهدف غايات وتبيّت نوايا عادة ما لا تعلنها ولا تصرح بها ، لكنها لا تخفى على أي منتبه فطن ينظر إليها بميزان العقل ويتابع تمفصلاتها بالتحليل المنطقي وبالتساؤل وبالشك البناء الذي يطور الوعي وينفذ إلى خفايا الأمور ، ليدرك أن للشائعات دوافع شتى منها السياسي ومنها النفسي ومنها الإجتماعي والاقتصادي أيضا .
أ – فالإشاعة قد تطلق بقصد الترهيب والتأثير المعنوي الذي يروم الحظ من العزائم والإحباط النفسي للمستمعين ويكون ذلك خاصة خلال الحروب والصراعات العسكرية بين الجيوش وهو ما دأبت على ترويجه مثلا وسائل الإعلام الغربية والصهيونية تمجيدا للجندي الإسرائيلي ولكفاءته وامتلاكه لمواصفات حربية لا تقهر ولا يحوزها غيره من الجنود في المنطقة العربية والشرق أوسطية . وواضح أن غاية ذلك هي ترهيب الجندي العربي والحط من معنوياته وإحباطه حتى يكون لقمة سائغة لأعدائه .
ومعلوم أن مثل هذه الدوافع والإشاعات معروفة ومعمول بها منذ القديم عند الكثير من الشعوب ، خلال معاركها وحروبها ، مثل ما كان يشاع من بطش ووحشية جنود جنكزخان الذين لا يقوى أحد على مواجهتهم والوقوف أمامهم . وهو ما ساعد على تيسير مهمة هذا الجيش في احتلال مدن عدة في الشرق الأوسط الإسلامي . وجلي هنا أن الإشاعة هي سلاح نفسي بليغ التأثير وموازية للعمل العسكري الميداني . وقديما أشاع الكافرون في معركة أحد موت الرسول للتأثير على معنويات المقاتلين المسلمين .
ب – في المستوى السياسي ، الإشاعة هي اليوم أداة معارضة للحكومات تتوخاها الأحزاب والتنظيمات المناهضة للحكم والتي لم تقوى على مواجهة منافسيها وإزاحتهم من الحكم وفق الأساليب والطرق الديمقراطية المشروعة ، فتعمد إلى التحريض ضد هذه الحكومات وضد الأحزاب الحاكمة بإشاعة الأغاليط والترهات حول برامجها ونواياها ورموزها . ولقد برعت في ذلك عادة الحركات السياسية والمجموعات التي لم تجد قبولا لدى المواطنين ولم تضمن لنفسها موطن قدم في الساحة السياسية . فنراها تتوجه بشائعاتها إلى الشرائح الاجتماعية الأكثر اندفاعا واستعداد لتصديقها ، مثل شرائح التلاميذ والطلبة التي تعير أهمية كبرى لكل ما تعلق بالحياة المدرسية وبمقاييس النجاح وبمواد التدريس وبمستقبل سوق الشغل . وهي نفس الأهمية التي تعيرها النساء مثلا لمجلة الأحوال الشخصية ولمسائل الطلاق والنفقة وتعدد الزوجات … الخ . لذلك نرى الكثير من الشائعات الموجهة إلى هؤلاء خاصة إذا ما تعلقت بوضعيات ذات أهمية قصوى لها .
ج – أما في المستوى الإقتصادي ، فهنالك العديد من الإشاعات التي تركز على الزيادة في أسعار عديد المواد التي يتابعها المواطنون باستمرار وعن قرب ، مثل المواد الغذائية والمحروقات وتعريفات النقل والغاز والماء والكهرباء …الخ ، فهي جميعا وحسب ما أكدت ذلك الأحداث التاريخية في عديد البلدان مثيرة لردود فعل مباشرة وعنيفة لدى المواطنين وعامة الشعب وذوي الدخل المحدود الذين يرون في أي تغيير في أسعار مثل هذه المواد إثقالا لكاهلهم ومساسا بالمستوى المعيشي لأسرهم .
د – بهذا تتضح الدوافع الاجتماعية أيضل للكثير من الإشاعات الرائجة في المجتمع ، إذ هي تروم خلق الفتن بإثارة الشرائح الاجتماعية ضد بعضها أو ضد السلط والنخب الحاكمة . فتحدث من وراء ذلك تغييرات تعدل فيها الخارطة السياسية أو يعاد رسمها كليا بكيفية تستفيد منها هذه القوى المحرضة وهذه الحركات السياسية التي لم تحقق ما تعتزمه من الوضعيات السياسية والإجتماعية الراهنة .
وقديما أيضا كانت الرهانات على إحداث الفتن الإجتماعية والتأثير على الروح المعنوية للمسلمين وقطع ثقتهم ببعضهم ، كانت رائجة عند الأعداء والمنافقين ، مثل حادثة الإفك التي أشاعها هؤلاء ، حتى أنزل الله تعالى قرآنا يبين براءة عائشة رضي الله تعالى عنها ويكذب ما جاء به الإفك . بل إن العودة إلى التاريخ الإسلامي تكشف العديد من المآسي الإجتماعية والسياسية والدينية التي صنعتها الشائعات والروايات الكاذبة ، مثل ما دُبّر ضد الخليفة عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه والتي لازالت آثارها السيئة على الأمة ماثلة للعيان إلى اليوم . نعم ، لقد قتل عثمان بعد حصاره في بيته ، وقامت الحروب بين الصحابة الكرام ، كمعركة الجمل وصفين …. بسبب الإشاعات . كما انتشرت البدع وظهرت الفتن وكثرت القلاقل التي مازالت الأمة الإسلامية تعاني من آثارها إلى اليوم بسبب الإشاعة أيضا التي جنت كذلك على الإمام البخاري الذي شُرّد وعرفت حياته التقلبات . إذ يروى أن خلافا جد بينه وبين أمير بخارى خالد بن أحمد الذهلي : فقد رفض البخاري طلب الأمير بالتحول إلى القصر ليروي لهم الأحاديث النبوية قائلا : ” إني لا أذل العلم ولا أحمله إلى أبواب السلاطين ” . كما رفض طلبه ” بتعيين وقت خاص للأمراء ( بالمسجد ) لا يشترك فيه بقية الناس … وطلب من الأمير أن يحضر دروسه في داره أو في المسجد إن كانت له حاجة إليها ” … فغضب الأمير وأوعز لبعض الناس أن يشيعوا ما يغضب الناس عن البخاري ويجعلهم ينفضون من حوله ويتخلون عن دعمه . فروج هؤلاء أن البخاري ” أفتى بأن طفلين لو رضعا من لبن شاة واحدة ثبت لهما حرمة الرضاعة أي يصبحا أخوين ” . كما أشاعا آخرون أن البخاري ” يقول : أن ألفاظ القرآن مخلوقة ” . وهذا ما خلق فتنة في المدينة صدر على اثرها الأمر للبخاري بالمغادرة والرحيل ، وبذلك أمكن للأمير الإنتقام منه والتخلص من وجوده بالمدينة كليا (4 ).
أما في حياة الأمة الآن ، فقد أتقن البعض حبك الإشاعات والمغالطات التي فندها الواقع ولم يظهر لها أي مؤشر صدق . بل أن وجود الكيان الصهيوني بني على إدعاءات وإشاعات في الحق التاريخي في فلسطين وجدت في القوى الإستعمارية الغربية من يصدقها ويدعمها في مجلس الأمن وعلى الميدان العسكري . كما أتقن آخرون حبك الإشاعات والمغالطات المروجة لامتلاك بعض التنظيمات والأنظمة المعادية لهم لأسلحة نووية ولترسانات من أسلحة الدمار الشامل المحضورة ، لحشد التأييد لما بيتوه من اعتداء على هذه البلدان ومن تدمير لها بهدف تحقيق غايات اقتصادية وعسكرية بالغوا في مواراتها بمثل هذه الإشاعات .
3 – ظروف انتشار الإشاعة :
يؤكد الكثيرون أن الإشاعة هي أكذوبة تنشد التصديق ، بمعنى أنها تواجه الفشل الذريع متى امتنع الناس عن نقلها وعن ترديدها ومتى لم تسندها الظروف ولم يتهيأ لها المناخ ومتى افتقدت الحبكة والبناء المنطقي الذي يواري نقائصها . لذلك فإن بث الإشاعة عادة ما يستفيد من مكتسبات علم النفس الاجتماعي ويخضع لدراسة نفسية الجمهور المتلقي وطريقة تفكيره ، ومدى استعداده للتفاعل المرجو مع الأحداث . ويتحين تهيأ الظروف الضامنة لنمو الإشاعة وتيسر رواجها والاقتناع بها مثل :
أ – ظروف التوتر والأزمات الاجتماعية التي تتراكم فيها الصعوبات المالية والاقتصادية مثلا ، ينوء بها المواطنون فتتوتر نفسياتهم وتتأثر علاقاتهم بحكامهم وبمسؤوليهم سلبا إذ هم يحملونهم سبب هذه الصعوبات ، وتكون عندها الأرضية خصبة لانتشار الإشاعات والدعايات المغرضة .
ب – ظروف حرب وأزمات إجتماعية وانخرام أمني يتحفز فيها انتباه المواطنين ويصبحون شديدي الحساسية لأي طارئ . لذلك يعد الكثيرون الإشاعة ضربا من الحرب النفسية الموازية والخطرة أيضا على مشاعر المواطنين وعلى معنوياتهم وتتجند لها مختلف وسائل الإعلام .
ج – ظروف الجهل وانحسار الوعي والمعرفة الذي يعجز معه المواطنون على إعمال العقل وفرز غث الأخبار من سمينها وعلى التفطن إلى كل النوايا المبيتة الكامنة وراء الإشاعات .
د – ظروف التعتيم الإعلامي وانعدام الشفافية في المؤسسات الإعلامية حيث لا يجد المواطنون الخبر اليقين والمعلومة الشافية التي تستجيب لكل حاجاتهم للإعلام وتذهب ما وصلهم من إشاعات .
4 – أنواع الإشاعات :
تتعدد الإشاعات وتتلون حسب نوعية محتواها وما تروم تحقيقه من أهداف ، لذلك يتحدث الباحثون عادة عن :
أ – إشاعة بيضاء : وهي عبارة عن نشاط إخباري علني مكشوف ، وغير مستتر تروج له وسائل الإعلام المختلفة بتحريض من المسؤولين ومن الدوائر الرسمية ، للتهيئة لاتخاذ إجراء ما ، مثل إلغاء الدعم عن بعض المواد الحيوية أو إقرار ضريبة معينة ، ومتابعة ما يمكن أن ينجر عن ذلك من ردود أفعال لدى الرأي العام واستشرافها والاحتياط منها مسبقا .
ب – إشاعة وردية : أي إشاعة للأمل والتمني ” مملوءة بالأماني والآمال ، تعبر عن الرغبات المتفائلة التي يأمل الإنسان حدوثها ويعجز عن تحقيقها في عالم الواقع ” (5) مثل الحصول على منافع معنوية أو اجتماعية أو أرباح وإيرادات اقتصادية . فعديد الموظفين يشيعون قرب حصولهم على ترقيات هامة وقرب تسميتهم في مناصب ذات بال وعدهم بها أعرافهم ومسؤولوهم . وما ذلك في حقيقة الأمر إلا دعاية مبطنة لشخصهم تذكر بمؤهلاتهم وبكفاءتهم التي بقيت مغمورة ولفها النسيان إضافة إلى ما فيها من إشباع نفسي لرغبة دفينة وتجسيد ذهني لطموح لم يفز بتلبية وإقرار في الواقع .
وشبيه بهذا ما يشيع في عالم النساء من روايات عن خطبة فلانة وعن فوز الأخرى بزواج محترم جدا ومن تقدم فلان لطلب يد هذه الفتاة أو تلك . في حين أن المسألة وما فيها لا تعدو أن تكون إشاعة مبيتة ومنمقة تروجها الخاطبات بغية لفت النظر إلى هذه الفتاة أو تلك وتذكير شبان الأسرة أو الحي بما تحوزه من المواصفات النسوية المحبذة ، قبل أن يمر بها قطار العمر .
ج – إشاعة رمادية : وهي إشاعة الخوف وإثارة القلق والرعب في نفوس المواطنين أثناء الكوارث والأزمات والحروب ” أي حين يشعر الإنسان بالقلق وتصبح قابليته للتوهم كبيرة وتفسيراته للأحداث خاطئة ، فيصدق كل ما يقال ، وكل ما قد يخفف عنه ثقل مشاعر الرعب والخوف تلك وينشره ” (6) . ولعلنا نصنف انفلوونزا الطيور وعدوى الكورونا وعديد الفيروسات ضمن هذه الخانة وكذلك تسونامي أو غيره من الأعاصير التي يقع الترويج لها أحيانا والتحذير منها .
د – إشاعة سوداء : وهي الأخطر بما أنها تروم إشاعة الحقد والبغضاء والكراهية وتسعى إلى إثارة البلبلة والفتن وضرب الوحدة الوطنية وبث الفرقة بين المذاهب والطوائف والقوميات والأحزاب . فهي ” تعبر عن اتجاهات عدوانية ، ومشاعر حقودة تجيش بها بعض النفوس البشرية . وهذه الشائعات عادة ما تنتشر بين الأحزاب ، والفئات المتعارضة وبين الطوائف والأقليات المختلفة ، بغرض إثارة الفتن والتفرقة ” (7) . وفي هذه الخانة يمكن أن نصنف إشاعة موت الرئيس أو مرضه الميؤوس شفاؤه منه التي يطلقها البعض وترددها بسرعة وسائل الإعلام وقنوات التواصل الإجتماعي ، وكثير ما حدث ذلك في عديد البلدان العربية .
5 – أساليب نشر الإشاعة :
يعتمد منتجو الإشاعات ومروجوها عديد الأساليب والطرق التي من خلالها يسعون إلى نشر إشاعاتهم والإقناع بها وتثبيتها ، ومن ذلك :
- أسلوب النكتة : التي قد يكون تأثيرها أكبر وأعمق من المقالات الصحفية ، وهو أسلوب فكه ، يمكن أن يضيف إلى تندره عديد الضمنيات الخطرة على القناعات وعلى السلوك .
- أسلوب التكرار الذي من شانه أن يضمن تثبيت الأفكار والمعلومات المراد إشاعتها بين الجماهير
- الشعارات : وهي كلمات محدودة ، بسيطة وذات وقع موسيقي يجعلها سهلة الحفظ والترديد .
- الاستضعاف والاستعطاف : مثل ما تقوم به إسرائيل بكل براعة في نشر دعايتاها ضد الدول العربية ، وفي ابتزاز الدول العظمى والرأي العام العالمي بالتباكي على وضعهم التاريخي وما لاقوه من المحارق النازية رغم ما أكده عديد المؤرخين والمفكرين العالميين ، مثل روجي غارودي ، على أنها مجرد إشاعات وأكاذيب لاقت الآذان الصاغية وحازت التأييد بفضل هذا الاستعطاف والتباكي .
- أسلوب الكذب والإختلاق بغاية التحريض والتشويه وتأليب الرأي العام ، مثال ذلك ما دأبت عليه بعض الصحف ووسائل الإعلام من نشر لتقارير ومراسلات عن حوادث وانفلاتات وهمية أو مضخمة أو لقاءات وزيارات لا أساس لها من الصحة مثل المظاهرات والمصادمات مع قوات الأمن والشرطة ، أو قدوم شخصيات معادية أو ضالعة في الإجرام العالمي لغايات تحريضية غير خافية على أحد ، ومثال ذلك تسريب زيارات شخصيات محترز عليها وتثير الريبة لدى الرأي العام إلى بعض الدول العربية وما يصاحبه من ترويج لأحداث ثبت أنها مبرمجة ومبيتة وجرى تضخيمها عمدا سواء من قبل الأنظمة القائمة أومن قبل معارضيها على السواء .
- أسلوب الصورة الكاريكاتورية ، وهي وسيلة مختصرة ، عميقة الدلالة والأثر وتنفذ إلى العقل دون عناء ، مثل الصور التي نشرتها جريدة دانماركية عن الرسول الكريم وهو كث اللحية ، يحمل القنابل بيديه وتتبعه عديد النساء المحجبات ، أي صورة تشيع الإرهاب عن الإسلام وتشهر بالتهالك على الجنس وبسوء المظهر ، وتناقلتها عنها عديد الوسائل الإعلامية الغربية .
- اختلاق عدو وهمي للأمة أو للشعب يتربص به وبمصالحه في أي لحظة بحقد وكره عنصري غير مبرر يكشف الحسد على نجاحات هذه الأمة وعلى إنجازاتها وقيمها ومبادئها . وهو أسلوب يستخدمه عادة الحكام الدكتاتوريون ليصرفوا الإنتباه عن القضايا المصيرية ، وقد برع في ذلك مثلا بعض المسؤولين الأمريكيين السابقين وأفراد إدارتهم الذين اختلقوا أعداء شرقيين ومسلمين للغرب ولحضارته . ونفس الأسلوب كان متبعا أيضا من طرف القادة الشيوعيين وأجهزتهم الإستخباراتية سابقا .
- غير أن بعض الإشاعات يمكن أن تكون مناطيد اختبار أو جس نبض للرأي العام المحلي كما ذكرنا سابقا ، يطلق خلاله بعض الحكام أو بعض المؤسسات الرسمية شائعات بين المواطنين في وقت معين ثم يكون تحليل مواقف الرأي العام من هذه الشائعات وردود فعله ، وتعتمد نتائج ذلك في تصحيح وتعديل المواقف والقرارات .
- كما يمكن أن تعتمد الإشاعة كذلك أسلوب ” المبالغة أو التهويل أو التشويه في سرد خبر فيه جانب ضئيل من الحقيقة أو إضافة معلومة كاذبة أو مشوهة لخبر معظمه صحيح ، أو تفسير خبر صحيح والتعليق عليه بأسلوب مغاير للواقع أو للحقيقة “(8) . وإلى جانب كل هذه الأساليب التي ذكرنا تبقى ” من الخصائص الأساسية للشائعة أنها مشحونة بشحنة انفعالية وجدانية قوية ومتميزة دائما بالغرابة والإثارة مما يجذب إليها الناس الميالين بطبعهم إلى الفضول والمبالغة ، والبعيدين عن المواقف والإتجاهات الحيادية “(9) .
6 – آثار الإشاعة ونتائجها :
من المؤكد أن الشائعات بإمكانها خلق جو من القلق والخوف والتوتر والإضطراب ، قد يزيد أثرها سوءا على الأمن والإستقرار إذا ما نجحت في بسط الفوضى وإرباك الرأي العام وتشتيته إلى فرق متناحرة . وقد يؤدي ذلك حتى إلى تعطيل مصالح الدولة والمجتمع وتحطيم معنويات المواطنين المستهدفين والحط منها . كما يمكن أن تنجح الشائعات في طمس مصادر الأخبار الحقيقية التي يمكن أن يلجأ إليها الناس وحجب هذه الحقائق بستار سميك من الكذب والأباطيل تساهم جميعا في التأثير السلبي على سير الحياة الإجتماعية وتشيع روح التحلل والفساد الأخلاقي ، خاصة إذا لم ينجح الناس في النفاذ إلى هذه المصادر الحقيقية للأخبار .
لقد نجحت عديد الشائعات في إلحاق الأضرار المادية والمعنوية بعديد البلدان وبسمعة الشخصيات التحررية وبحياة الشعوب الحضارية . وما يتعرض له الشعب العربي الفلسطيني وقياداته المناضلة ، خاصة زعماءه التاريخيين مثل الراحل ياسر عرفات ، هو مثال للصورة السلبية التي تحاول الصهيونية والإستعمار تقديمها للرأي العام العالمي عن المناضلين وأحرار العالم ، فتشيع عنهم التقتيل والإرهاب والسرقات وسوء التصرف هادفة من وراء ذلك إلى عزلهم وطمس عدالة قضاياهم التي يناضلون من أجلها ، وبالتالي تقليص عدد الداعمين لهم . أما على مستوى الشرائح الإجتماعية الأكثر تأثرا بالشائعات ، فقد أبرزت دراسات المختصين أنها الطبقات الإجتماعية الدنيا أي أن الشائعات تنتشر بين الفقراء أكثر من الأثرياء وبين المتقدمين في السن أكثر من الصغار والشبان وكذلك بين الأقليات أكثر من غيرهم من جماعات الأغلبية العددية (10) . وكلها ملاحظات دالة تستدعي الكثير من التمعن لاستجلاء النتائج ورسم الإستراتيجيات .
7 – في معالجة الإشاعة وكيفية التعامل معها :
من المؤكد أننا في وضع مواجهة الشائعات والمغالطات التي يروجها الخصوم وأصحاب النفوس المتربّصة ، نكون في أوكد حاجة إلى تطوير التزامنا الوطني والارتقاء بوعينا الفكري وبقناعاتنا وقيمنا إلى أعلى المراتب وتدعيم ثقتنا بخياراتنا وبمبادئنا وبقياداتنا . وبمثل هذه القناعات نفوت على الخصوم والأعداء تحقيق أغراضهم المخربة ونمنعهم من التسلل إلى معنوياتنا ومن السيطرة على خياراتنا . ومن هذا المنطلق يكون من الضروري عدم تصديق أي خبر مجهول المصدر أو لم يكن مصدره مما يستثاق به ، مثل بعض وسائل الإعلام المتحيزة والمغرضة وبعض صحف الفضائح والأسماء المعروفة بسوء سريرتها . وعدم تصديق هذا الخبر يعني كذلك عدم إعتماده كدليل وعدم نقل كل الإشاعات بصفة عامة حتى لا نساهم في نشرها ولا نضع أنفسنا في خدمة المغرضين ومطامحهم .
لابد كذلك من تبليغ الحقيقة إلى الناس ومن صيانة الرأي العام وحمايته من التضليل والجهل والفوضى ، ويكون ذلك بتوضيح المسائل وبالتعريف بخفايا الأمور وبالنوايا المبيتة للمغرضين ، حتى نكسب الناس المناعة ضد هذه الإشاعات والتضليل ، مستحضرين دائما أن الوقاية خير من العلاج ، ومذكرين الجميع بقوله تعالى ” يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين”(11) . علما وأن التصدي للشائعات لا يكون عفويا أو ارتجاليا بل يخضع هو الآخر لتقنيات علمية وأساليب مدروسة تضمن نجاحه وفعاليته . وفي هذا المجال ينصح الباحثون المختصون أيضا :
– بتقديم أدق الأخبار الممكنة للناس واعتماد الشفافية المطلقة في ذلك ، لأن الصدق والوضوح وسرعة الرد والتحرك هي التي من شأنها أن تضمن استعادة ثقة الناس . وفي هذا الشأن ” يرى الأستاذ لودون K .Loudon أن توفير المعلومات والحقائق وتدفقها مع تكرارها بصفة دائمة ، وفي مواعيد منتظمة وأساليب ملائمة للعرف القائم ، ولسلوك الجماهير ، هو السبيل العلمي للقضاء على الشائعات . وعموما فإن التغطية الإعلامية المكثفة للأخبار والأحداث والوقائع عند حدوثها ، تحد كثيرا من نشوء الشائعات ، شريطة أن يكون قوام أسلوب التغطية الصدق ، السرعة ، والوضوح والصراحة إلا في أمور قد يستدعي فيها التكتم لأغراض أمنية قصوى ” ولو إلى حين (12).
– إن تكذيب الشائعة هو في حد ذاته تكرار لها ، وتكرارها يدفع لانتشارها ولمزيد ترسيخها لدى المستمعين . لذلك يرى المختصون أن معارضة الشائعات وتفنيدها على صفحات الجرائد يجب أن يراعي الأسس التالية ، مثل ” عدم تكرار نص الشائعة ، وعدم الإشارة إلى الشخصيات أو الجهات أو المناطق التي تدور حولها الشائعة ، مع استبعاد أي عبارة وردت في الشائعة قد تستغل كشعار أو نداء . والتركيز فقط على عرض المحتوى العام للشائعة ، والكشف عن مصدرها وغايتها وحالة مروجيها النفسية “(13).
والملاحظ أن هذه الطريقة لا ينصح باستخدامها إلا عن طريق وسائل الإعلام المقروءة وفق بعض الباحثين ، مثل عبد الرحمان العيسوي في كتابه نقلا عن ألبورت F. Allport الذي أثبت في بحوثه الميدانية ” أن الأشخاص الذين يقرؤون عن الشائعات في أعمدة الصحف المخصصة لذلك ، كانوا أقل تصديقا للشائعات من غيرهم . ومعنى ذلك أن القراءة المتكررة عن طبيعة الشائعات تحصن القارئ وتعطيه نوعا من المناعة ضد تقبلها أو نشرها ” (14) . أما وسائل الإعلام الأخرى فهي تقدم خدمة للأميين الذين يخشى أن يكتفوا بسماع مضمون الإشاعة دون تكذيبها ويصبحون تبعا لذلك ناشرين لها ، وفي ذلك يكمن الخطر .
– في الحرب العالمية الثانية ، لما أشيع موت قيادات الحزب النازي الألماني أضاف وزير الدعاية الألماني جوبلز أن هتلر كان من ضمن المعدمين أيضا ، أي انه عدل هذه الإشاعة بالطريقة التي ستمكنه من تفنيدها في ما بعد ، عندما ظهر هتلر في عديد الأماكن مع الجماهير ونقلت ذلك وسائل الإعلام على نطاق واسع . وبذلك تم القضاء على الإشاعة المنتشرة بأخرى مختلفة يمكن إثبات كذبها بيسر .
– بعض الأساليب الأخرى تعمد إلى تكذيب الإشاعة بنشر عكسها ، دون الإشارة إليها ، فإذا ما تعلقت مثلا بنقص إحدى المواد الهامة أو غلائها ، فيمكن أن تصور وسائل الإعلام توفرها بالأسواق بكميات كبيرة وتنشر تعريفتها وعدم تغيير أي شيء في تسعيرتها . وكذلك إذا ما أشيع هرب أحد المسؤولين أو خيانة إحدى الشخصيات الوطنية أو موتها ، فيمكن تقديمه في وسائل الإعلام وهو في وضع نشاط وتركيز على مهامه المناطة بعهدته دون الإشارة إلى الإشاعة المتعلقة بشخصه بالتأكيد ، لأن ذلك قد يزيد من إنتشارها إذ أن ” من لم يكن له علم بالشائعة قد يسمعها عن طريق مكذبها فيصدق الشائعة ، ولا يصدق تكذيبها إنطلاقا من المثل القائل ليس هناك دخان بدون نار . لذا فإن الطريقة المثلى لتكذيب الشائعة يكون في نشر عكسها دون الإشارة إليها “(15) .
وإجمالا نلاحظ أن المستهدف بالمجابهة والفضح والتفنيد هي بالطبع الإشاعات الخطرة التي من شأنها أن تخلق تأثيرات سلبية على الرأي العام ، أما العفوية التي لا يتأتى منها أي ضرر أو تلك التي أوجدت عن قصد وبإيحاء أو طلب مباشر من الدوائر الرسمية ” في إطار منظم ينصهر ضمن استراتيجية استطلاعية أو تعبوية الهدف من ورائها تحضير الأرضية المناسبة لقبول قرار سياسي أو إقتصادي أو اجتماعي تنفيذا لمخطط موضوع وذلك قبل الإعلان عنه والشروع في انجازه “(16) ، فهي غير معنية بأساليب الدحض والتفنيد هذه . بل هي على عكس ذلك محتاجة إلى الدعم والتأكيد .
هكذا يتضح أن الإشاعة التي يتفكّه بها الناس ويتخيرون أطرفها لتأثيث مجالسهم وتنميق نكاتهم وأحاديثهم ، ليست بريئة الغاية ولا عفوية المصدر دائما ، بل ذات أهداف مقصودة ومبرمجه من أطراف عدّة ولخدمة نوايا مضمرة تصل أحيانا إلى حدّ إدارة الحكم ودعم السلطة القائمة والتهيئة لتمرير قراراتها ودعم خياراتها ، فتصبح الإشاعة من آليات الحكم النافذة والخطيرة التي توظّف لها مراكز الإنتاج ومتابعة التأثير والفعالية وليس قنوات النشر والترويج وتحيّن المواعيد فقط . لكن الوعي العام بحقيقة الإشاعة وبخطورتها غير مؤكّد دائما ، بما يتطلب إجراءات صادقة للحماية منها وفي طليعتها شفافية المعلومة ووضوح النوايا والمقاصد ورقي العلاقات بين الجميع بما في ذلك بين الحاكم والمحكوم .
————————————————————–
المراجع :
1 – محمد المنصف الباروني ، أي آليات لمقاومة الإشاعة ؟ جريد الحرية – 23/1/2007 ص2 .
2 – د. محمد عثمان الحنشت ، الشائعات وكلام الناس ، ص 31 ، مكتبة ابن سينا ، 1996 .
3 – د . جمال السيد ، أضواء على الحرب النفسية ، ص 173 ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة 1972 (عن كتاب الرأي
العام بين الدعاية والإعلام ص 136 ) .
4 – د عبد الله زلطة ، الإمام البخاري شخصية لها تاريخ ، مجلة الوعي الإسلامي الكويتية ص 46 عدد 226 جويلية – أوت 2017
5 – د. عواشة محمد حقيق ، الرأي العام بين الدعاية والإعلام ، ص 138 ، منشورات الجامعة المفتوحة ، الجماهيرية الليبية ، 1994 .
6 – نفس المرجع السابق ، ص 138 .
7 – نفس المرجع السابق ، ص 138 .
8 – مختار التهامي ، الرأي العام والدعاية ، ص 13- 14 ، دار الهاني للطباعة والنشر ، القاهرة 1989 . أورده عواشه محمد حقيق بمرجعه الذكور سابقا ، ص137.
9 – الرأي العام بين الدعاية والإعلام ص 137 .
10 – نفس المرجع السابق ، ص 139 .
11 – سورة الحجرات ، الآية 6 .
12 – الرأي العام بين الدعاية والإعلام ص 141.
13 – نفس المرجع السابق ، ص 142 .
14 – عبد الرحمان العيسوي ، دراسات في علم النفس الإجتماعي، بيروت ، دار النهضة العربية 1974 ص144 ، أورده د. عواشة محمد حقيق بنفس مرجعه المذكور سابقا ، ص 142 .
15 – نفس المرجع السابق ، ص 144 .
16 – محمد المنصف الباروني ، مرجع مذكور سابقا .