المقالات

الأميّة الأكاديمية والثقافية

أسباب ونتائج

 الأميّة الأكاديمية والثقافية *

أسباب ونتائج 

عمليةُ بناءِ الإنسان هي البدايةُ الحقيقيةُ لكلِّ عمليةِ بناءٍ خلّاقة، وما تنشدُه أيةُ تنميةٍ شاملة.رأسُ المالِ البشري هو ما يتكفلُ بناءَ دولة مواطنة حديثة. رأسُ المالِ البشري أثمنُ من كلِّ رأسمال، فمهما امتلكنا من بترولٍ وغيره من مصادر الثروة المادية لن نتفوقَ على من يمتلكُ رأسَ المالِ البشري.الإنسانُ أثمن من كلِّ شيءٍ، لا شيءَ يفوقُ الإنسانَ في قيمته في عالَمنا الذي نعيشُ فيه. الاستثمارُ في الإنسان أهمُ من كلِّ استثمار.تخلفُ البلدان ينشأُ من الفشل في بناء الإنسان، وإدمان الكسل. اليابانُ مثلًا تفتقرُ للموارد الطبيعية، لكنها بارعةٌ في بناء الإنسان، تقدّمت اليابانُ بسبب تفوق إنسانها بتكوينه التربوي والقيمي والتعليمي، وتراكم خبراته المهنية، ومثابرتِه على العمل، وارتفاعِ معدل إِنْتاجيَّته كمًا وكيفًا. سنغافورة أيضًا تفتقر للثروات المادية، لكنها تفوقت على غيرها من البلدان، وقفزت لمعدلات باهرة في التنمية، بسبب أنها وضعت تكوين رأس المال البشري أولويةً في برامجها للتنمية، واعتمدت في ذلك على مكاسب العلوم والمعارف الحديثة، وما أنجزه العقلُ والخبرة البشرية من مكاسبَ مهمة في التربية والتعليم.

التربيةُ والتعليم وبناءُ القيم وترسيخها هي حجرُ الزاوية في كل عملية تنمية خلّاقة، النجاحُ فيها علامةُ كلِّ نجاح، والإخفاق فيها علامةُ كلِّ إخفاق. تتشكلُ معادلةُ التربيةِ والتعليم من ثلاثة عناصر، هي: المعلّم، التلميذ، المقرر الدراسي. ولا تنجز هذه المعادلةُ وعودَها ولا يمكن قطف ثمارها من دون إعادة بناء متوازية لكل عناصرها، وان أيَّ اختلال في أحد عناصر هذا المثلث يفضي إلى اختلال كل المعادلة. التربيةُ والتعليم وبناءُ القيم هي مأزق التنمية في أوطاننا، ذلك هو السببُ العميق لكلِّ فشل وإخفاق في أية عملية للتنمية الشاملة.

الأميةُ الثقافيةُ والأكاديميةُ

تتفشى الأميةُ الثقافيةُ والأكاديميةُ بين أعضاء هيئات التدريس في الجامعات العربية بشكل مخيف، فقلّما ترى من يلاحق ما هو جديدٌ في تخصّصه الأكاديمي، وأقل منه من يهتم بمواكبة الإنتاج الفكري بالعربية فضلًا عن غيرِها من اللغات، أو يتعرّف على الأعمال الجادّة في مختلف الحقول.

منصاتُ التواصل الحديثة وتطبيقاتُها المتعدّدةُ والمتنوعةُ تجاوزت دورَ الكتاب التقليدي في التربية والتعليم والتكوين المعرفي، وتغلّبت على مركزيته في البناء الثقافي. غير أن كثيرًا من التدريسيين من الجيل القديم لا يحضر على منصات التواصل الحديثة، ولا يعرف شيئًا عن معظم تطبيقاتها، وإن حضرَ لا يتخطّى حضورُه الإسهامَ في العلاقات العامة والمناسبات الاجتماعية، ونادرًا ما نعثر على مشاركات نوعية لتدريسيين تعكس ثقافتَهم وتكوينَهم الأكاديمي.

كما يجهل أغلبُ التدريسيين من الجيل القديم الابتكاراتِ المدهشة للذكاء الاصطناعي، وما يعدُ به من مكاسب عظمى، تتغيرُ بتأثيرها أنماطُ العمل والإنتاج والتسويق، وتختفي مهنٌ مختلفة وتحل محلها مهنٌ بديلة، ويحدث تحولٌ نوعي في وسائل تلقي العلوم والمعارف والثقافة، وتتبدل طرائقُ التدريس ووسائلُ وأساليبُ التعليم،ويطال التغييرُ مختلف مجالات الحياة، فـ”عندما نتحدث عن حضور الذكاء الاصطناعي في حياتنا اليوميّة، فنحن عمليًّا نتحدث عن كل شيء. يشمل ذلك ظهور كومبيوتر قادر على قراءة وثائق مكتوبة بخط اليد، وروبوت يُجري بنفسه عمليات جراحيّة معقدّة وبصورة مستقلة عن التدخّل البشري، وصُنع قاعدة بيانات مكثّفة تتضمن الصفات والسلوكيّات والسجايا الشخصيّة لكل فرد منا، استنادًا إلى كل ما نقرأه أو نكتبه على الإنترنت… ومع التعمّق في تحسين أداء الذكاء الاصطناعي، ينكشف أمام أعيننا أنه لن يكتفي بمجرد الحلول بدلًا من البشر، بل يستطيع التفكيرَ بطرق يعجز الإنسان عنها.ثمة خوارزميات متطوّرة تستطيع التعامل مع كميّات هائلة من المعلومات، وتتوصّل إلى استنتاج الأنماط الموجودة فيها، ما يجعلها (= الخوارزميات) على أهبة الاستعداد لتغيير المجتمع”[1].

الذكاءُ الصناعي معنى جديد لرأسِ المالِ يختلفُ عن المعنى الكلاسيكي لرأسِ المالِ، إنه أثمنُ ثروةٍ يمتلكها الإنسانُ في عالَمنا اليوم، مَنْ يمتلكها يمتلكُ حاضرَ العالَم ويتمكن من التحكم بمصائره، ومَنْ يفتقدها يفتقدُ القدرةَ على الحضور في العالَم، مثلما يفتقدُ القدرةَ على التحكم بمصائره.مهما كانت قيمةُ الثرواتِ المادية فإنها لا تساوي القيمةَ الحقيقيةَ للذكاءِ الصناعي، وما يمكن أن ينتجَه من سلعٍ وخدماتٍ ومعطياتٍ معرفيةٍ وماديةٍ متنوعةٍ في مجالاتِ الحياة البشرية المختلفة.

إن الأميةَ بأجلى تمظهراتها اليوم تعني الجهلَ بالذكاء الاصطناعي وما ينجزه اليوم ويعد به غدًا، والجهلَ بتوظيفِ منصات التواصل وتطبيقاتها المتنوعة، والعجز عن الإفادةِ من ذلك في التكوين المعرفي والثقافي، وعدم استثماره في التنمية العلمية والأكاديمية، والغفلة عن أن مصادرَ المعرفة وطرائقَ تلقيها لم تعد كما كانت أمس، ولا أساليب التعليم هي ذاتها. منصاتُ التواصل وتطبيقاتها المتنوعة كسرت احتكارَ الكتاب الورقي، وكلَّ الطرق التقليدية للتكوين المعرفي والثقافي، وتغلبت على وسائل تداولها ونشرها المتعارفة، بل أضحت موازيةً لعملية التكوين الأكاديمي في الجامعات المتوارثة منذ ما يزيد على تسعة قرون[2]، وأراها ستتفوق عليها بعد مدة ليست بعيدة.

ابتكر الذكاءُ الاصطناعي ومنصاتُ التواصل وتطبيقاتُها المتنوعة طرائقَ تدريس بديلةً تعبّر عن هوية عالَمها الوجودية، فصارت من خلالها أدقُّ المباحث وأشدُّها تعقيدًا واضحةً تُفهَم بيسر وسهولة، بأساليب بصرية وسمعية ليست رتيبة أو مملة. أزاحت الأساليبُ الجديدةُ طرائقَ تدريس ميكانيكية توارثتها عدةُ أجيال، وأقعدت معلمين متمرسين فيها عن مهنتهم، لأنها لم تعد مستساغةً للجيل الجديد.

من يحرص على التكوين المعرفي والثقافي واللغوي المستمر في أيّ مجال يرغب، يمكنه الظفرُ بمعلمين محترفين متطوعين في مختلف العلوم والمعارف واللغات، ولمختلف المستويات. فمثلًا لا يحتاج من يريد تعلّمَ لغة أخرى إلى حضور منتظم في المعاهد المعروفة لتعليم اللغات، لأن بإمكانه العودةَ إلى مواقع متخصّصة في اليوتيوب وغيرِه، تقدّم له تعليمًا ممتازًا مجانيًا وهو في بيته، ومن دون أن يتحمّل عناءَ الذهاب إلى مكان آخر، وبلا أن ينفق شيئًا من ماله، ويبدّد وقتَه.

لقد بلغ حجمُ الكمية المتدفّقة من البيانات، في مختلف العلوم والمعارف والفنون والآداب، حدًا يفوق قدرةَ الإنسان على مواكبته فضلًا عن استيعابه، لذلك لا يستطيع المتخصّصون أو الهواة الاطلاعَ إلا على مساحةٍ محدودةٍ جدًا منه. إذ “ستتجاوز كمية البيانات الرقمية المنتجة خلال السنوات الثماني المقبلة 40 زيتا بايت، وهو ما يعادل 5200 جيجا بايت من البيانات لكلّ رجل وامرأة وطفل على وجه الأرض.ولوضع الأمور في نصابها 40 زيتا بايت هو 40 تريليون جيجابايت. وتشير التقديرات إلى أن هذه الكمية تبلغ 57 ضعفَ عدد كل حبات الرمال على جميع الشواطئ على وجه الأرض. ومن المتوقّع أن تتضاعف جميع البيانات كلّ عامين حتى عام 2020م”[3].

النمطُ الجديدُ للحياة أضحى فيه الإنسانُ في صيرورة أبدية، لا تكفّ عن التحوّل، ولا تتوانى عن العبور، ولا تتوقف في محطة إلّا لتلتقط أنفاسَها فتواصل الرحيل. لم يعد الإنسانُ كما عرفته أكثرُ الفلسفات القديمة؛ كائنًا عاقلًا يلبث حيث هو، لا يكون جزءًا من شيء أو يكون جزءًا لشيء، بل صار الإنسانُ في المفهوم الحديث كأنه جزءٌ من كلّ، هو محصّلةٌ لما حوله، أي إنه في “حالة المابين”، كأن الإنسانَ مسافرٌ أبدي، لا ينفكّ عن الترحال، لا يمكث بمحلٍّ إلّا ليغادرَه الى محلٍّ غيره، تبعًا لنمطِ الوجود السيّار المتحرّك لكلّ ما هو حوله، فكلّ ما حوله يسير به، ويسير معه.إنسانُ اليوم كائنٌ سندبادي، يتلقّي مختلفَ الثقافات في الآنِ نفسِه، من دون أن يغادرَ موطنَه. إنه يعيش جغرافيا جديدة، تضاريسُها هلاميةٌ، حدودُها واهيةٌ، أمكنتُها متداخلةٌ، ثقافتُها ملوّنةٌ، هويتُها تركيبيةٌ. شكلُ حياته هو الأشدُّ غرابة منذ فجر التاريخ[4].

أسبابٌ ونتائج

الأميةُ الثقافية والأكاديمية ليست خاصةً بكثيرٍ من التدريسيين في الجامعات العربية، بل إنها تغطي أكثرَ الجامعات التي أعرفها في المحيط الإقليمي خارج فضاء التعليم العالي العربي، كما تشير بعضُ البيانات والتقييمات في جامعات شرقية وغربية إلى أنها تعاني الأزمةَ نفسَها. ويعود ذلك إلى فقدان الرؤية الاستراتيجية لبناء التربية والتعليم والثقافة، والافتقار للارادة الحازمة لتنفيذها،حتى إن كانت موجودةً في بعض البلدان فإنها غيرُ صبورةٍ وهشةٍ، وعدم الحماس لذلك لدى القيادات، وعدمِ توفر الخبراء المؤهلين تأهيلًا جادًا لانجازها، وضعف البنية التحتية المادية والتكنولوجية اللازمة لولادتها.

نحاول هنا أن نتعرفَ على أسس العملية التعليمية، والكيفيةِ التي يتوالدُ فيها اغترابُ الأستاذ عن التلميذ، واغترابُ التلميذ عن الأستاذ، وأثر ذلك على التكوين الأكاديمي، وما ينتهي إليه هذا الاغتراب من أميةٍ معرفية وثقافية، ونوجزها بالآتي:

  1. إن زمانَ التلميذ يختلف عن زمانِ الأستاذ، وأعنى الزمانَ بمعناه التربوي والتعليمي والثقافي.كلُّ زمانٍ مشتقٌّ من نمطِ وجودٍ يختلف عن زمانٍ مشتقٍّ من نمطِ وجودٍ آخر. نمطُ وجودِ التلميذ في العالَم هو راهنُ العالَم، ونمطُ وجودِ كثيرٍ من الأساتذة في العالَم هو ماضي العالَم. أغلبُ الأساتذةِ يعيشون اغترابًا عن حاضرهم، فينحازون بثقةٍ مفرطة للماضي، وكأن ذلك الماضي على صواب أبدي. القليلُ من الأساتذة من جيل الآباء استطاعَ حضورَ راهن العالَم، ومواكبةَ الذكاء الاصطناعي وما تقدّمه له منصاتُ الاتصال وتطبيقاتُها المتنوعة من جديد العلوم والمعارف والثقافة كل يوم.

2.كلُّ نمطِ وجودٍ يفرض نظامَه التربوي والتعليمي والثقافي المشتقَّ منه والمتناغمَ معه، وذلك النظامُ يفكّر بمنطقِ عقلانيةِ نمطِ ذلك الوجود، ويتعاطى تقاليدَه الثقافية، ويعتمد نظامَ قيمه، ويتحدّث لغتَه المتفرّدة. الجيلُ الجديد من الشباب اكتشف ذاتَه الفردية مبكرًا، وأدرك أن نسيانَ الذات ضربٌ من الضياع في أوهام لا تنتمي للواقع، وذلك ما كرّس النزعةَ الفرديةَ في وعيِه وشعورِه وشخصيتِه، فأصبح عصيًا على استعبادِ الأصنام بمختلف صورها. لذلك يخفقُ التعليمُ اليومَ عندما ينشد إنتاجَ كائناتٍ بشرية متماثلة،كأنها آلاتٌ مادية تتشابه بكلِّ شيء، وتُلغى فيها فرادةُ الشخص البشري واختلافاتُه الذاتية عن كلِّ أحدٍ في الأرض، تلك الاختلافاتُ الذاتية التي هي منجمُ الإبداعِ والقدرةِ الفذة على الخلقِ والابتكار[5].

  1. النظامُ التعليمي الذي يعبّر عن المتطلبات التعليمية للتلميذ غيرُ النظام التعليمي الذي يعرفه الأستاذُ ويتعلّمه التلميذ،كلٌّ منهما يفكّر بمنطق عقلانية العالَم الذي ينتمي إليه، ويتعاطى تقاليدَه الثقافية، ويعتمد نظامَ قيمه، ويتحدّث لغتَه الخاصة. اللغةُ ليست أداةً محايدة، اللغةُ تنتمي إلى منطقِ عقلانية العصر وثقافته، وذلك يعني أن الأستاذَ يفتقر لمعرفة لغة التلميذ، والتلميذ يفتقر لمعرفة لغة الأستاذ، فيكون الحوارُ بينهما بمثابة حوار الطرشان.
  2. العمليةُ التعليمية عمليةٌ ديالكتيكية وليست ميكانيكية، التلميذُ فيها يُعلِّم الأستاذَ، مثلما يُعلِّم الأستاذُ التلميذَ،كلٌّ منهما مُلهِم للآخر، ومكوّنٌ لعقله، ومولِّدٌ لوعيه،ومحفزٌ لذهنه بطرح الأسئلة وابتكار الأجوبة.
  3. عندما تكون العمليةُ التعليمية ميكانيكيةً تكفُّ عن أن تكون تعليمية، وتفشل في أن تظل مُلهِمةً للتلميذ والأستاذ، وتضمحل فاعليةُ الأثر والتأثير المتبادَل فيها، وغالبًا ما يصاب ذهنُ كلٍّ من المعلم والتلميذ بالوهن، ويشعران بالملل والإحباط، الذي ربما ينتهي لدى البعض لشعور بالقرف وحتى الغثيان.
  4. تكرارُ الأستاذ المملُّ لكلامٍ لا يفقه أسرارَ اللغة التي ينجذب إليها التلميذُ، ولا يدرك طبيعةَ انفعالاته ومشاعره، لا يمكن أن يمنح التلميذَ علمًا ومعرفة ووعيًا بالعالم الذي يعيش فيه، ولن يؤثر في تكوين أسئلته ومتخيّله وأحلامه وهمومه المعرفية، ولا صلةَ له ببناءِ منظومةِ قيمه، وتقاليدِه الثقافية.وينتهي ذلك إلى أن يتعاطى كلٌّ من التلميذ والأستاذمع العملية التعلمية بوصفها فرضًا، كلٌّ منهما ملزَمٌ بتأديته على شاكلته، الأستاذُ تلزمه ضروراتٌ معيشية، والتلميذُ تلزمه ضروراتٌ يفرضها تقليدٌ مكرَّسٌ لتعليمه، بغضّ النظر عن ثمراته ومآلاته.
  5. الجيلُ الجديدُ يتلقى المعرفةَ والثقافةَ والقيمَ من وسائلِ الاتصال وتطبيقاتِها الكثيرة، وما تقدّمه مجانًا من موضوعاتٍ متجدّدة فاتنة جذابة، متنوعةٍ بتنوّع مراحل العمر، ومتناغمةٍ مع مختلف مستويات الإدراك والفهم والاستيعاب. تتنوع الموادُ التي تنتجها وتسوقها وسائلُ الاتصال لكلِّ مرحلةٍ عمرية حسب مستوى إدراكها وتذوقها. سما بنت ابني إبراهيم، بعمر سنتين، تمضي ساعاتٍ طويلةً كلَّ يوم تشاهد أفلامّا مخصّصةً لمرحلتها العمرية، يبثها اليوتيوب، ولفرط تذوقها لها وتفاعلها معها، تصرخ فزعةً لحظةَ يمنعها أحدُ الأبوين طالبًا منها الكفَّ عن إدمان ذلك.

8.مأزقُ أعضاء هيئة التدريس أنهم يعيشون في عالَم جديد لا يشبه عالَمَهم أمس، عالَمٌ يمضي بسرعةٍ فائقةٍ إلى الأمام، لذلك ينسى هذا العالَمُ من لم يتكيَّف معه، بل سرعان ما يمسي حضورَه عبئًا عليه فيحذفه. أكثرُ الأساتذة عجزوا عن التكيّف مع هذا العالَم، لأنهم يفتقرون للوعي العميق به، فيعجزون عن الاستجابةِ لمتطلباته ووسائله ورموزه ولغته. وأغلبُهم لا يمتلك إرادةَ التمرّد على ماضٍ شديدِ الحضورِ في أذهانهم، والسطوةِ على مشاعرهم، ولأنه مكوّنٌ عميقٌ للاوعيهم، مازال عالقًا فيهم ومازالوا عالقين فيه.إن إيقاعَ التحولات أسرعُ من استجابة النظام التعليمي لاحتياجات الأبناء، ذلك أن وتيرةَ التبدّل في كيفية عمل الذهن أسرعُ من القدرة على مواكبتِه والانتقالِ بما يستجيب له ويتناغم معه في أنظمة التربية والتعليم، من هنا ستتسع الفجوةُ بالتدريج بين هذه الأنظمة وطبيعةِ احتياجات الجيل الجديد، التي قد يعجز عن تلبيتها حتى النظامُ التعليمي في البلدان المتقدمة[6].

وكما تتطلب كلُّ الأجهزة التي تعمل على وفق أنظمة الذكاء الصناعي تحديثًا مستمرًا يرتقي بكفاءة أدائها، كذلك هو النظام التعليمي، فما لم يتم تحديثُه تنتهي صلاحيتُه ويخرج من التداول.

  1. لا غرابةَ ألا يحرص أعضاءُ هيئة التدريس على التكوين المعرفي والثقافي المستمر في عالَم لا يشبههم، وأكثرُهم فشلوا في التكيّف معه. ذلك أن طرائقَ ووسائلَ وأداواتِ التكوين المعرفي والثقافي في العالَم الجديد تختلف عن تلك التي عرفوها وتمرّسوا بها وأدمنوا عليها أمس حتى صارت مكوّنًا لهويتهم المعرفية، لذلك نجد أكثرَهم يفتقدون أيَّ حافزٍ لامتلاك ما هو جديد.
  2. يُصاب الأستاذُ بالملل عندما تنضب منابعُ الإلهام لديه، ويفتقر للطاقة المُلهِمة للاستجابة الفاعلة، فيفتقد الحوافزَ العميقةَ للتكوين المعرفي والثقافي المستمر ولتعلم ما هو جديد، وربما يُصاب الأستاذ بالقرف وهو يكرّر كلامًا لا ينتج علمًا لدى المتلقي ولا يكوّن معرفةً، ولا يؤثّر في بناء وعي التلميذ ومتخيّله وأحلامه وهمومه المعرفية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* كتبت هذه المقالة جوابًا لسؤال وجهه لي الصديق الدكتورعلي أسعد وطفة “أستاذ علم الاجتماع التربوي في كلية التربية بجامعة الكويت حاليًا وجامعة دمشق سابقًا”، الذي يعد بحثًا ميدانيًا عن الأمية الأكاديمية في الجامعات العربية.

 [1] المطيري، غادة، “الذكاء الاصطناعي”، اندبندت عربية 11 يونيو 2019.

 [2] تأسست جامعة بوبونيا في ايطاليا سنة 1088م، ويقال أنها أول جامعة للتعليم العالي في الغرب، ومازالت مفتوحة إلى اليوم. وتأسست جامعة أوكسفورد في بريطانيا سنة 1167م ومازالت مفتوحة إلى اليوم.

[3] البيانات الضخمة.. خصائصها وفرصها وقوتها، الفيصل العلمية، الصادرة بتاريخ 28-11-2017. أحمد، د. أبو بكر سلطان،

 [4] الرفاعي، د. عبدالجبار، “الدين والاغتراب الميتافيزيقي”، بيروت، مركز دراسات فلسفة الدين ببغداد، ودار التنوير، الطبعة الثانية، 2019، ص 65.

[5] الرفاعي، د. عبدالجبار، “ثناء على الجيل الجديد”، مقالة منشورة في صحيفة ثقافات الألكترونية 30-1-2018.

[6]  المصدر السابق.

عبدالجبار الرفاعي

د. عبدالجبار الرفاعي مفكر عراقي، ‏متخصص في الفلسفة وعلوم الدين. من مؤسسي علم الكلام الجديد في المجال العربي. منذ ثلاثين عامًا يكرّس منجزه لفلسفة الدين وعلم الكلام الجديد. مدير مركز دراسات فلسفة الدين في بغداد، ورئيس تحرير مجلة قضايا إسلامية معاصرة، منذ إصدارها عام 1997 وحتى اليوم. أصدر أكثر من 50 كتابًا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى