القيم بين سندان “الأحادية” ومطرقة “التعدديّة”

يبحث المجال الفلسفي عن “المعاني”، وهي قوامه، وفق أُطر تعريفات بحسب كل اتجاه؛ منهم من ينزع إلى المادية فيحكمها بمبادئ الماديّات، ومنهم من يغلو في الإشاريّة حتى يجعلها دائمة التحوّل الدلالي، ومنهم من هو بين هذين الفريقين. وهذه المعاني تَستجلب في سبيل إعمالها معاناة تحمل صاحبها على إعادة النظر في هذه التعريفات، بعد اشتباكها بالواقع. ولعل التمثيل بمصطلح “التعدديّة القيميّة” يوضح أهمية النظر في مآلات المفهوم والقول الفلسفيّ؛ وأخذه عند المفهمة تنقيحاً للمفاهيم. ومن أهم اشتباكات المفاهيم الفلسفيّة المعاصرة: الاشتباك بين الحقل الفلسفيّ والحقل السياسيّ، ومن ذلك ما تعلّق بأمر مُلح هو “التعدديّة القيميّة”، لمواجهة قساوة “الأحادية القيمية”، التي تنبجس بحسبها مشكلات عدّة، وحروب مدمّرة، وليس أقلها أثر غموض دلالة “إرهاب” أو “حقوق إنسان”، ونحوها، مما يُنصُّ عليه في المواثيق أو العلاقات الدوليّة. في حين هذه المفاهيم في أصلها الاستعماليّ مستوردة من حقل فلسفيّ لم يحلّ الإشكال، خصوصاً ما تعلق بالقيم بين أحاديّتها وتعدديّتها، أو حقيقتها، فضلاً عن سلم تراتبيّة القيم بحسب كل أمّة، وضغط توحيد الرؤى العالمية وفق رؤية السلم القيميّ للأقوى! فأصل الإشكال عدم تحديد “القيم”، وزاد عليه أن خُصص غير الواضح بـ “التعددية”! وقد بين بيتر لازمان في كتابه “التعددية”، أن مشكلة التعددية القيمية عميقة فلسفيّاً لمركزية النظرية السياسية في توجيهها؛ إذ يمكن تمييز حضورها حتى ولو لم تكن ظاهرة من النظرة الأولى.
ومن الجدير بالذكر غرابة تسلل لغة “القيم” اليوم بسهولة إلى المجالين الحديثين للفلسفة والنظريات السياسيّة، رغم انحداره من جدل لم يحسم بعد حول “القيم”، مستعارة من اللغة السياسية الاقتصادية الألمانية خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، والمأخوذة بوضوح من نيتشه “تطوّريّة القيم”، إضافة لعدِّ القيم وليدة تشكيك عميق في القيم الميتافيزيقية وفق وجود قيمي تناقضيّ. ثم انتقل الجدل حول القيم بين ثنائيّة “الطبيعة” مقابل “الإنسان” في بواكير القرن العشرين، مع ويبر وغيره. ومع الكانطيين الجُدد ظهر التصوير العام وفق جدل بين الحقيقة والقيمة.
وللفحص لا بدّ من أسئلة هي: أي نوع من المشكلات هي مشكلة “التعدديّة القيميّة”؟ لماذا يراها المنظّرون السياسيّون مشكلة؟
وللإجابة عن هذين السؤالين المتعلّقين بالمشكلة من جهة تحديدها في ذاتها، وفي رؤية المنظّرين لها، يوجّه لازمان إلى فحص كيفية خروج واستعمال مصطلح “التعددية القيميّة”، كذا ظروف استعماله في السياق الاجتماعي الغربيّ الحديث، إضافة لاستعماله وفق سياق الجدل الفلسفيّ عن “طبيعة القيمة”. متنقلاً بين سياقات فلسفية نظرية محضة إلى سياقات مشتبكة بالشأن السياسيّ الحديث؛ من كانط إلى نيتشه إلى الكانطيين الجدد، وكيف ارتبط مفهوم “التعددية القيمية” بالعدميّة. وحتى لو بالغ المعرّفون في تعريف “التعددية القيمية” تعريفاً فلسفياً محضاً، فإنه سيوظف وسيُظهر تداعيات سياسيّة؛ إذ -بحسب ريتشارد ولتمان- أغلب النظريات السياسيّة الحديثة تَبرزُ بوصفها “تعددية” في عدّة نطاقات، ومن تلك النطاقات رؤيته لسعة انتشار الدلالة الجوهريّة لـ “التعددية القيميّة”، تحت إطار “الاعتراف بالتعدديّة” عند الأشخاص والجماعات الملتزمين بها، مع تفاوت درجات التزام الناس بالتعددية، فبعضهم يتخذها شعاراً سطحياً ويخفي تحتها توجهه “الأُحاديّ”.
فإن كان مصطلح “التعدديّة القيميّة” غير واضح في المجال الفلسفيّ؛ وهو الذي يروم الوضوح، فكيف به في المجال السياسيّ الذي يبني جلّ مفاهيمه على الغموض؟ وعموماً، يتخذ مصطلح “التعدديّة القيميّة” في عموم المناقشات السياسيّة دلالة “إرادة الخير العام”، نحو: التحرير والمساواة والعدالة. ومن الضبابية يمكن للمتلاعب أن يستعمل كل ملتبس وحمّال للدلالات بحسب أغراضه. كما أنّ مصطلح “تعددية القيم” الذي يسود المجال السياسي الحديث؛ ليس محلّ قبول من جميع المنظّرين السياسييّن، بل هناك اعتراض عليه من عدة جهات، وهذه الاعتراضات يقوي نقدها لبعضها التوجه لتحديد محلّ الإشكال. ومن ينزع للتنظير الواضح لـ “التعددية القيمية” لا يعني بالضرورة قبوله للنتيجة المفضية للعمل بهذه الرؤية الفلسفيّة، خصوصاً في ظل السياسات الليبراليّة، وهذا ظاهر في معايير السياسة الغربيّة ذات الوجهين.
ولو فرضنا صلاحية المفهوم فلسفياً فإنه غير صالح لتداعياته التوظيفيّة في السياسة، ومن ثمّ يمكن التوصية بتوسيع النظر الفلسفي ليشمل التعريف ولوازم التعريف، واستعمال ما درج الفقهاء على تقعيده: “ألا يعود الفرع على الأصل بالبطلان”، مع تحمّل مسؤولية ما يفضي إليه القول الفلسفيّ؛ حتى لا تغدو الفلسفة عمى وانفصالاً عن الآثار الواقعية، وبعثاً للمشكلات لا حلّها[1].
[1] Lassman, Peter. Pluralism. UK: Polity Press, 2011.