كيف يجب أن ندرس علم الكلام؟
الحديث عن علم الكلام الإسلامي شائك ومعقد لدرجة كبيرة، وهذا التعقيد يجد مصدره في أكثر من نقطة واحدة، إلا أنه من الممكن لنا أن نُرجع هذا التعقيد إلى مجموعة نقاط محددة من أجل تيسير البحث المعاصر في هذا الحقل من الأنشطة الإسلامية النظرية التي يمكن الزعم أنها من أهم الأنشطة التي عرفها تاريخ الفكر النظري في الإسلام.
النقطة الأولى يمكن إرجاعها إلى المصادر التراثية التي تتحدث عن علم الكلام، فهذه المصادر هي غالباً قول على قول، فكما هو معروف أن معظم المؤلفات الكلامية في الإسلام ضاعت، وهي مؤلفات أكثر من أن تحصى،[1] الأمر الذي جعل المصادر التراثية التي تتحدث عن علم الكلام المبكر في القرنين الثاني والثالث الهجريين هي مصادر ثانوية، وليست أصلية، فنحن نتعرف على الآراء والمذاهب الكلامية الإسلامية من خلال الآخرين وليس من خلال أصحابها المباشرين، وهؤلاء الآخرون جاؤوا في مرحلة متأخرة، غالباً في القرن الرابع الهجري ومابعده، أي بعد أن انتصرت تيارات كلامية معينة وانحسرت أخرى وبالتالي فإن الحديث عن نشأة علم الكلام وعن القول الأصلي لرأي ما أو مدرسة ما هو قول تأويلي على قول سابق كان قد ضاع من جملة النصوص التي ضاعت.
إن مصادرنا الأساسية اليوم في الإطلاع على علم الكلام هي مقالات الإسلاميين لأبي الحسن الأشعري (ت. 324هـ/936م) ) و الفرق بين الفرق لعبد القاهر البغدادي الأشعري (ت. 429هـ/1037م)، والملل والنحل لعبد الكريم الشهرستاني (ت. 548هـ/1153م) و الفِصَل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم الأندلسي (ت. 456 هـ / 1064م) وموسوعة القاضي عبد الجبار الهمذاني (ت. 415هـ/1025م)المغني في أبواب التوحيد والعدل بالإضافة لكتابه المهم شرح الأصول الخمسة. من المؤكد أن هذه الكتب ليست المصادر الوحيدة ولكنها الأكثر استعمالاً في البحث العلمي اليوم، هناك الكثير من الكتب الأخرى في علم الكلام كما توجد الكثير من الآراء المتفرقة في كتب التراث عن رأي ما لفرقة من الفرق أو عن شخص ما من أبطال فرقة إسلامية، ولكن معظم هذه الكتب والأراء إن لم نقل كلها هي كتب الفرق المنتصرة التي تتحدث عن آراء الآخرين الذين اختفوا أو هزموا في التاريخ مما يجعل هذه الكتابات نوعاً من التأويل للآراء المبكرة إذا لم نقل أنها تفتقر بطريقة ما إلى الموضوعية، والأمثلة على عدم الموضوعية تلك كثيرة. وهذا أمر يُربك إلى حد كبير البحث العلمي في التصورات المبكرة المؤسسة لعلم الكلام ويجعل التعرف على السياقات الدقيقة للآراء التي طُرحت باكراً صعباً.
هذا التأويل أو إعادة ترتيب الأقوال السابقة الذي قام به الكتاب المتأخرون لايقتصر على هؤلاء الذين يكتبون عن مدارس مختلفة عن مدارسهم، أي لايتعلق الأمر بالمؤرخ الأشعري الذي يتحدث عن المرجئة أو الحركة القدرية المبكرة أو جهم بن صفوان، ولا عن المتكلم الماتريدي الذي يكتب عن الفرق المناوئة، بل إن الأمر يصل إلى الكتاب الذين يستعرضون آراء أبناء مدرستهم المبكرة. عبد الجبار الهمذاني على سبيل المثال يعيد ترتيب آراء المعتزلة المبكرين انطلاقاً من وجهتي نظر أبي علي الجبائي وابنه أبي هاشم اللذين ماتوا في الربع الأول من القرن الرابع الهجري، وهذه المنهجية تدفعه لأن يجعل المعتزلة في حالة اتفاق تام فيما بينهم، وذلك من خلال إعادة تأويل بعض المواقف المبكرة التي لاتتفق مع رأيي الشيخيين الجبائيين، كما أنه يهاجم آراء أخرى لايراها مناسبة في سياق مدرسته، ويقوم بعقد مصالحات وتأويلات بين آراء متعارضة، بالإضافة إلى إهماله المتعمد لآراء كثيرة قيلت في الوقت المبكر ولم تحظ بنصيب لها في موسوعة عبد الجبار.
هذا الأمر ينطبق على الأشاعرة بالدرجة نفسها، فابن فورك (ت. 406هـ/1015م) والباقلاني (ت. 402 هـ/1013م)وعبد القاهر البغدادي يقومون بطريقة انتقائية باستدعاء مايريدون هم من آراء أستاذهم أبي الحسن، الذي عُرف بتنوع كتاباته وعدم استقراره على آراء واحدة في كل ماكتب.
النقطة الثانية التي تزيد من تعقيد الحقل الكلامي هي المتعلقة بالقراءات الحديثة لهذا العلم، فهذه القراءات كانت قليلة ولكن مع قلتها اتخذت من الفكر الغربي مرجعاً لها في قراءة علم الكلام، وغالباً ما تمت التسوية النظرية بين القراءة الحديثة لعلم الكلم الإسلامي مع الثيولوجيا المسيحيةكما صار يتحدث عنها الغربيون في عملية تأريخهم لأنفسهم.[2] وقد ساعد على هذه التسوية والقراءات الحديثة الاستشراق نفسه الذي كان يدرس علم الكلام على أنه ثيولوجيا إسلامية مشابهة للثيولوجيا المسيحية، رغم الاختلاف الكبير بين النوعين من الفكر.
وهنا نجد أنفسنا مرة أخرى أمام تأويل آخر وجديد على التأويل الأول الذي مارسه المسلمون أنفسهم. الامر الذي يجعل من علم الكلام المتداول في الدراسات الحديثة مادة قد خضعت لأكثر من تأويل واحد. إن المثال الأبرز على هذه التأويلات المضاعفة على النشأة المبكرة لعلم الكلام نجدها في النصوص التراثية والدراسات الحديثة التي تناولت جهم بن صفوان الذي تعتبر آراؤه الأبكر زمنياً والأكثر نسقية في علم الكلام الإسلامي. إن النصوص التراثية تقدم لنا أكثر من جهم واحد، فالتناقضات بين الآراء التي تتحدث عنه واضحة بجلاء، الأشعري والبغدادي والشهرستاني وابن حنبل والدارمي لايقولون الشيء نفسه عن آراء الجهم بن صفوان (ت. 128 هـ/746م)،[3] الأمر الذي يربك الدراسات الحديثة ويفتح الباب واسعاً أمام إعادة تأويل هذا المفكر المهم. ثم تأتي الدراسات الحديثة لتنتقي بعض نصوصه من تلك التأويلات السابقة من أجل وضعه في سياق محدد يمكن القول فيه أنه سياق إشكالي قابل للنقد.
إن البحث في علم الكلام اليوم لايكفي فيه أن نؤكد فقط على ضرورة أن يكون البحث نزيهاً وموضوعياً، ولكني أعتقد أن الأهم هو الذهاب لجذر المشاكل التي بدأ المتكلمون المبكرون الحديث بها والبحث في الدوافع والأسئلة التي كانوا يريدون الإجابة عنها. ربما يمكن لنا إذا استطعنا الإمساك بالأسئلة العميقة التي شغلت المبكرين أن نتمكن من إعادة صياغة أكثر دقة لطبيعة علم الكلام الإسلامي دون أن نزعم أن هذا الإمساك ليس تأويلاً بدروه، ولكنه تأويل يعيد بناء هذا الفكر مرة أخرى بما يجعله أكثر قرباً من همومه الخاصة وبيئته الإسلامية.
على الأرجح بل ربما من المستحيل التخلص من كل التأويلات التي خضع لها هذا الفكر ولكن من الممكن لنا أن نطرح تأويلنا الخاص اليوم الذي يجعل من هذا الفكر مقيماً ومتجذراً بعمق داخل بيئة ثقافية لها همومها ومشاغلها وأسئلتها.
أقترح أنه من الأفضل لنا اليوم في حديثنا عن علم الكلام الإسلامي أن نبدأ نقاشنا من سؤال: مالذي كان علم الكلام يريد قوله؟ بعيداً عن التأثيرات الخارجية وعن العوامل الداخلية السياسية والاجتماعية، ذلك أنه بهذا السؤال نذهب في دراستنا لعلم الكلام باتجاه يختلف لهذه الدرجة أو تلك عن الاتجاه السائد في مايسمى الدراسات الأكاديمية التي تذهب إلى النص الكلامي للتأكد من نسبته إلى صاحبه أو لمقارنته مع نصوص أخرى من الحقل الإسلامي نفسه أو مع نصوص شبيهة قيلت في أوساط دينية مماثلة يهودية أو مسيحية. وفي اتجاه مختلف أيضاً عن الدراسات الأكاديمية التي تريد عقد صلة بين نص كلامي محدد وبين الظروف السياسية والاجتماعية التي كانت سائدة في مرحلة تاريخية معينة. في هذا النوع من الدراسات التي تفسر نشأة هذا الحقل النظري بأسباب سياسية واجتماعية لايعود مهماً البحث عن خصوصية علم الكلام الإسلامي بقدر الأهمية التي تعطى لتأكيد وجهة نظر معينة عن الأوضاع السياسية التي عرفتها النشأة الأولى لهذا الفكر.
لقد راجت إلى حد مذهل وجهة النظر التي تقول إن الفكر الجبري في الإسلام الذي يحرم الإنسان من حقه في الحرية والاختيار يعود إلى الفترة السياسية التي كان فيها الأمويون هم أصحاب السلطة السياسية، فالأمويون الذين يريدون تبرير عسفهم السياسي أرادوا التأكيد على أن مايجري في الحياة هو إرادة إلهية مقررة مسبقاً، الأمر الذي يعني أن حاكماً معيناً أو شخصاً معيناً لايمكن تحميله مسؤولية أفعاله لأن الله من وجهة النظر الجبرية قد قرر أفعال البشر منذ الأزل. وتأخذ وجهة النظر هذه حادثة إعدام معبد الجهني (توفي تقريباً 80 هـ/ 699 م) و غيلان الدمشقي (ت. 106 هـ/724م) دليلاً على وجهة النظر تلك لأن هذين المفكرين كانا من أنصار فكرة مسؤولية الإنسان عن أفعاله وأن أفعال العباد لم يقررها الله منذ الأزل على الناس، مما يعني أن الحاكم مسؤول بشكل مباشر عن كل فعل يقوم به، الأمر الذي لم يعجب الأمويين فحكموا على الجهني والدمشقي بالقتل، حسب التأويل السياسي.
إن تفسير وجهة النظر الجبرية في الإسلام بوصفها انعكاساً لما يسمى الاستبداد الشرقي والإسلامي تحديداً قد طغى بشكل هائل على الدراسات الكلامية الحديثة، فقد استقبل المثقفون المسلمون والعرب منهم هذا القول ليؤكدوا غلبة الفكر الجبري في الإسلام نتيجة الظروف السياسية للدولة الإسلامية.
هذه الطريقة بالتفسير لاتهتم بالأسئلة العميقة التي كانت وراء نشوء علم الكلام بوصفها أسئلة وجود تتعلق بعلاقة الله بالعالم، بقدر اهتمامها بالنصوص التي تحقق غرضها أو برنامج عملها المقرر مسبقاً بأن الجبرية الدينية والاستبداد السياسي متلازمان.
إن القراءات السياسية لعلم الكلام أو القراءات الاقتصادية والاجتماعية لاتقدم لنا الكثير عن هموم وأسئلة هذا الحقل من التفكير بقدر ماتحاول تجيير النصوص التي تلائم تفسيراً معيناً يراد له أن يشرح نشوء بعض القضايا الكلامية. بهذه الطريقة من البحث الذي يفسر علم الكلام بعناصر خارجية عنه لايتم استنطاق النص نفسه، ولكن توظيفه بطريقة براغماتية لصالح مسألة أخرى، وتأويله وفق سياق قد لايقول تماماً مايريد علم الكلام قوله.
إن الأدلة من علم الكلام نفسه على أن الارتباط المزعوم بين الاستبداد السياسي وفكرة الجبرية الدينية ليس ارتباطاً وثيقاً أدلة كثيرة جداً ولكن هذه الأدلة يتم تجاهلها تماماً من أجل إثبات برنامج العمل البحثي الذي تم تقريره.
إن السلطة العباسية كانت أكثر عسفاً من السلطة الأموية، ومع ذلك فإن السلطتين لم يكن لهما هذا الموقف المتشدد اتجاه أصحاب حرية الإرادة الإنسانية، الكثيرون من الحكام الأمويين رعوا وتصادقوا مع أصحاب وجهات النظر التي تقرر حرية الفعل الإنساني، في الوقت الذي أخذ الحاكم العباسي المأمون الذي قتل الآلاف في حربه الأهلية مع أخيه المأمون من أجل السلطة كان مدافعاً عن رأي المعتزلة في حرية الفعل الإنساني، ومن الصعب أن نجعل مثلاً ثلاثة خلفاء عباسيين (المأمون والمعتصم والواثق) حالة استثنائية في دفاعهم عن الرأي القائل بحرية الإرادة الإنسانية وهم يمارسون العسف على الناس.
كل ذلك يدفعنا للبحث في علم الكلام من موقع آخر، من موقع الأسئلة الوجودية التي طرحها الإسلام منذ البدء وهي الأسئلة التي تتعلق بالله وكيفية حضوره في العالم.
إن سؤال الله في علم الكلام المبكر سؤال مفتاحي، لأننا بإدراكنا لهذا السؤال لانصبح قادرين فقط على فهم المشروع الثقافي الكبير الذي حمله المسلمون المبكرون في صياغة رؤية للعالم، ولكن أيضاً نمتلك التصور المناسب الذي يجعلنا أكثر قدرة على فهم المسائل الكلامية المتعددة كمسألة الفعل الإنساني ومسألة الحسن والقبح وطبيعة الجزاء الأخروي، وفي مقدمة هذه المسائل مسألة التوحيد وصفات الله التي كانت من أبرز نقاط الاختلاف بين المتكلمين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] يذكر أبو الفرج محمد بن أبي يعقوب اسحق (النديم)، كتباً كثيرة كتبها المتكلمون الأوائل ضاعت كلها، فواصل ابن عطاء كتب المنزلة بين المنزليتن، وكتاب التوحيد، وكتب عمر بن عبيد كتاب التفسير عن الحسن وكتاب العدل والتوحيد وكتاب الرد على القدرية، ويذكر مايقارب الخمسين كتاباً كتبها أبو الهذيل العلاف، وعدة كتب كتبها بزرقان والأسواري وبشر بن المعتمر والنظام والدمشقي والمردار ومعمر السلمي وابن الأشرس، وجعفر بن حرب والإسكافي وعشرات الكتب لضرار بن عمر، وهشام بن الحكم ومحمد بن نعمان، وأبو سهل النوبختي، وعشرات الأعلام الآخرين الذين كتبوا مئات الكتب، انظر، الفهرست، (بيروت: دار المسيرة، 1988) ط. 3، ص ص. 202- 247.
[2]لويس غارديه & جورج قنواتي، فلسفة الفكر الديني بين الإسلام والمسيحية، ترجمة صبحي الصالح & فريد جبر، 3 ج (بيروت: دار العلم للملايين، 1979) ج. 1، ط. 3، ص ص. 11-12.
[3]عبد الحكيم أجهر، الله: الآخرية في الحضور (بيروت & الدار البيضاء: المركز الثقافي للكتاب، 2018) ص ص. 150-167.