الكتابة في عصر الفجائية الصاخبة
هل كتبنا بما فيه الكفاية عن معايشاتنا، هل سامرنا المذكرات والكناشات لنسجل كل ملاحظاتنا وأفكارنا، مشاعرنا لحظة الفرح الجديد على كياننا، مشاعر الخوف والتيه والرهبة، مشاعر الزمن والناس والمناخ وفقدان التراث..الخ
سبب هذه الاستفسارات انني أشعر بنقص فيما أدونه عن مشاعري الهاربة وأفكاري المسجاة في مخيال تزاحمه يوميا أفلام نهايات العالم ودماره .. لقد اختمرت في دواخلي مشاعر كثيرة وكبيرة مما نعايشه في أيام الله هذه ..
فمنذ 2011 ونحن نعاين العالم بصورة أخرى .. تفجأ فينا كل شيء، لا نحن واعون بمن نكون ولا ماذا نصير وعلى أي الصور سنرتسم في المستقبل القريب والبعيد .. صور شباب كثر تعج بهم الذاكرة القريبة، بعضهم تقف صورته بجانب شعارته التحررية، وبعضهم تقف صورته بجانب دبابة، وأحدهم بجانب شرطي شرس يحاول الانقضاض على كل شيء، صور بعضهم يقف بجانبها الإحباط مجسدا في مخيال شاحب، وصور بعضهم تجسد الأمل الممتد اللانهائي في عنفوانه وفرحه وفي تخليه عن كل شيء، وزهده في العالم، ما عدا شيء واحد هو حريته … يا لها من صور ثقيلة ترافقني في ممشاي المعتاد وانا أحاول التخفف من أعباء الحياة ..
هل نستطيع نسيان لحظات ممشانا في الممر غير اللولبي، ونحن نجرب رفع عقيرتنا بهتافات الحرية والكرامة .. عندما أسترجع تلك اللحظات أحس بأنني كنت أخرج من قمقم الزمن الخمسيني والستيني والسبعيني الذي سجننا فيه الأسلاف المعاصرون، بكل تفاهاتهم الأيديولوجية، لقد كنا نهتف ضد الاستبداد وضد كل هذه الأشياء المكبلة لنا .. وأحيانا كنت أحس بأنني أهتف لأكتشف من أكون، من نكون..
هل كتبنا عن المستفيدين من هذه الأشياء، وعن المتساقطين عن حبالها، هل كتبنا عن الخوف الذي تلا كل هذه الشعرات، هل كتبنا حجم الارتداد الذي تولد في دواخل الكثيرين، هل كتبنا عن الذين لا يذكرون حراك الشباب إلا وأرفقوه عبارة “ما يسمى” تبخيسا، ونسجا لحياكة مؤامرة ما أراد الله لها أن تتم أو تنكشف أو تتحقق. لكأنها سخّرية أبدية، فهؤلاء كانوا يعيبون علينا محاولة الانفكاك عنهم، لنكتشف أن محاولاتنا في التمنطق والعقلنة في الشرح ليستوعبوا، ما تزيدهم إلا خسارا وتبورا..
لقد كانت لحظاتنا منذ 2011 جاحظية بامتياز … فالصور والأفكار والرسوم والآمال والخيبات والطموحات والإنجازات ملقاة في كل الدروب، على الأرصفة والكراسي وداخل غرف النوم والسجون … كل ذلك يتسابق دون أن يحوز أي منها السيادة .. كأن اللحظة هي ملك لكل هذه الفجائية الصاخبة …
في غمرة السؤال عن الكتابة، تطالعنا لحظة فارقة في زمن الكائن البشري، وهي لحظة الوباء الجماعي، الذي قبض على العالم، فحوله على صورة غير التي كان عليها .. فصار سؤال هل كتبنا، محملا بمزيد من خيبات العجز أمامه، فالتوقف الذي دام عامين، جرد الجميع من أشياء، ومنحهم ربما أشياء، فهل سرعة الآن الذي نحن فيه أمهلت الجميع كي يدون انسيابيته الوبائية .. واستسلام الجميع للخوف .. هل عالمنا المعاصر الذي سجاه الجميع على مقصلة الصورة والفيديو .. لم يعد يعبأ بالكلمة والتدوين .. هل فقدت الدواخل كل حوافزها في الانفجار على بياضات الورق المعتق .. العيون كلها صامتة تترقب، والجميع ينتظر من يكتب ويدون … وربما من يصيح .. نعم .. أحيانا أشعر بالجميع يريد أن يصيح مغتاظا من كم ما ينبغي أن يقوله لنا ..
العالم القديم الذي صدع الكثيرون آذاننا بخبر انهياره وتحوله، هو الآخر يئن راغبا أن نكتب عنه، أن نحفظه في كياننا، ونفصح عن طبيعة تمازجه مع هوياتنا السابقة وشخوصنا التاريخية ..
هل كتبنا بما يكفي عن حجم آلام أجيالنا أمام السجانين، وصائدي مصائر البشر ومستقبلهم، هل كتبنا بما يكفي عن عتبات السجون، هل كتبنا عن سجن الوطن بما يكفي، هل كتبنا عن سجون الأفكار والأيديولوجيات، وسجن الأشخاص..
هل كتبنا بما يكفي عن فلسطين السليبة، وسوريا الجريحة، هل كتبنا عن بلاد المغارب، هل كتبنا عن مصر الرهيبة، هل كتبنا عن تونس الياسمين، عن السودان واليمن، عن الشعبويين الطفيليين، عن اليمينين الأغبياء، وعن علاقتنا بكل هذه الأجزاء التي نجدنا فيها، عن صورنا التي تشارك في كل حدث بها، اشباحنا لا يخلوا منها مكان عام من ساحات الحرية في هذه البلدان التي تشترك الدم والتاريخ والحب والحج والشعر والعجمة والتراب والكفاح والنصر والهزيمة .. هل كتبنا عن انتصار الروابط التي تجمعنا، وانكشافها اليومي أمامنا .. هل كتبنا عن الثقافة التي تجمعنا، هل كتبنا عن اكتشافات التعدد الذي يكمن في دواخلنا.
ونحن نشتكي عدم الكفاية في المكتوب، ينبعث صوت عبدالباسط الساروت من سورية الحبيبة، يسائلنا هل كتبنا عن الغناء في قلب الثورة، عن الغناء للحرية، عن الغناء كرمز للكرامة .. وسط كل ذلك تفاجئنا سورية بتحررها، بعد 13 عاما من التيه في الأرض وحمل الآلام .. وحمل هموم السخرية التي يصعقنا بها الجميع .. تأنيبا على الخروج والمطالبة بالحرية .. لقد أنقذت سورية ماء الوجه .. وذكرتنا بأيام الله، وجددت فينا صوت الحق الذي مهما دثرته الشحوب فهو يعلو ولا يعلى عليه ..
لقد أعادت الثورة السورية تذكرينا بالسؤال المحرق ذاته، هل كتبنا بما فيه الكفاية عن معايشاتنا اليوم، عن حقيقة ما نصنعه في صلب التاريخ، وما ننسجه من رسوم على وجه الزمن، وما نحدثه من تغييرات على صورة الإنسانية ..