المقالات

حماس في مواجهة نظام مابعد الاستعمار

لا تواجه حماس وباقي فصائل المقاومة الفلسطينية الكيان الصهيوني فحسب، بل تواجه نظام الاستعمار الجديد الذي تقوده الولايات المتحدة الامريكية وحلفاؤها من القوى الاستعمارية السابقة. وقد سبق لباحثين، مثل علي المزروعي والمهدي المنجرة أن وصفوا معالم هذا النظام، وبينوا أن مرحلة مابعد الكولونيالية، لا تعني نهاية الاستعمار بل تشهد فرض نظام استعماري جديد، يقوم على التدخل العسكري، والاستغلال الاقتصادي، وترسيخ هيمنة الثقافية المسيحية اليهودية. يتأسس نظام ما بعد الاستعمار أيضا، على الفصل العنصري بين عالم أبيض وآخر أسود وملون، ويستخدم إسرائيل في الشرق الأوسط أداة لقتل المسلمين. لخص علي الأمين مزروعي معالم هذا النظام العالمي الجديد كما يلي: “نذهب إلى أن المسلمين هم ضحايا النظام العسكري من النظام العالمي الجديد، في حين أن السود هم ضحايا الجانب الاقتصادي من هذا الفصل العنصري العالمي الذي يتشكل”[1].  

لقد تشكل هذا “النظام العالمي الجديد بداية التسعينيات من القرن الماضي، بعد سقوط المعسكر الشيوعي، وشن الحرب على العراق، التي اعتبرها جورج بوش أول حرب كبرى لهذا النظام الجديد [2]. ويؤرخ الباحثون مثل المهدي المنجرة [3] وعلي المزروعي [4]  لحقبة الاستعمار الجديد ببداية العدوان الذي شنه التحالف الدولي على العراق. وتتكامل مقاربة هذين الباحثين في توصيف نظام ما بعد الاستعمار. يذهب على المزروعي إلى أن مرحلة مابعد الكوونيالية تقوم على توجيه الآلة العسكرية لأمريكا وحلفائها ضد البلدان الإسلامية: العراق وأفغانستان، وليبيا، وسوريا واليمن، وتنهض على الاستغلال الاقتصادي لثروات شعوب الجنوب، في أفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية، بينما يرى المهدي المنجرة أن مرحلة مابعد الاستعمار، خلافا لباقي مراحل الاستعمار السابقة، تقودها الولايات المتحدة الأمريكية التي لم تكن إمبراطورية استعمارية، وتتحالف مع الدول الاستعمارية السابقة، وتستخدم الكيان الصهيوني وكيلا لها في الشرق الأوسط. حسب المهدي المنجرة، يحرك مرحلة مابعد الاستعمار رهان ثقافي حضاري، في تدمير المقومات الحضارية للشعوب الإسلامية.

تشهد الحرب على غزة على دقة توصيفات هذين المفكرين، فقد “شعر المسلمون – وخاصة في الشرق الأوسط- ببطش البنادق الأمريكية والطائرات الإسرائيلية المدعومة أمريكيا”[5] ، إذ أرسلت أمريكا  وباقي الدول الاستعمارية، منذ اندلاع طوفان الأقصى، شحنات أسلحة وذخيرة حربية لإسرائيل لإبادة الفلسطينيين، هذا من جانب، ومن جانب آخر تمثل الضغوط السابقة على الدول العربية والاسلامية لإدخال تعديلات على نظمها الثقافية والاجتماعية والدينية آليات الإبادة الثقافية، ومنابعها الحضارية، ما دفع بالمهدي المنجرة، وباحثين آخرين إلى الحديث عن ضرورة تصفية استعمار الثقافة، والتحرر فكريا لمواجهة مرحلة مابعد الاستعمار، التي تهدف إلى الحفاظ على الهيمنة الأمريكية، وإخضاع النطاق الحضاري الإسلامي؛ الذي يقدم بدائل لمواجهة الهيمنة الغربية، ومنعه من التعبير عن نفسه كنطاق حضاري مستقل.

تُجسد مقاومة غزة للاحتلال استعداد النطاق العربي الإسلامي للدفاع عن نفسه باعتباره نطاقا حضاريا، فقد استندت هذه المنطقة المحاصرة من كل الجهات إلى التراث الإسلامي في مختلف الميادين، دون أن تحيد عنها، ومكنها ذلك من الصمود في وجه حرب الإبادة، فواصل سكانها الدفاع عن أرضهم، غير عابئين باختلال موازين القوى بينهم وبين المحتل، وتمكنوا بإلحاق هزائم بجيش الكيان المدعوم دوليا، وتفوقوا عليه عسكريا وأمنيا واستراتيجيا، ما يبين أن بناء الإنسان، يتفوق على صناعة الأسلحة وتطوير التكنولوجيا الحربية.

صحيح أن طوفان الأقصى أعاد من جديد القضية الفلسطينية إلى المسرح الدولي، وصحيح أنه أيضا كشف عنصرية النظام العالمي، وتحيزاته، وعجز مؤسساته عن توقيف جرائم الإبادة، عندما تقترف ضد الآخر، المسلم والهندي والأسود. ويواجه نظام ما بعد الاستعمار النطاق الحضاري الإسلامي، لأن الإسلام “في الوقت الحاضر [يعد] الثقافة الكبرى الوحيدة التي تتمرد على الغرب”[6]، وتعرض رؤية حضارية مختلفة، تُمكن من كشف مساوئ الحداثة الغربية، ونزعتها التدميرية للإنسان والطبيعة.

لقد وصفت بعض قيادات الكيان الصهيوني الفلسطيني المسلم ب”الحيوان البشري”، ودعت إلى تدمير قطاع غزة تدميرا كاملا وإبادة سكانه، دون أن ينتفض العالم ضد تلك التصريحات، ودون أن يمارس المنتظم الدولي ضغوط على الكيان الصهيوني لاعتقال لمحاكمة تلك القيادات. ويمكن التأكيد، إن العدوان على الشعب الفلسطيني، وفّر الكثير من الشواهد المادية على عنصرية النظام العالمي، وتحيزه للنطاق المسيحي اليهودي، كما تحدث عن ذلك مفكرون تحرريون منذ عقود [7]، وبيّن هذا العدوان، دون شك، أن منابع العدوان والتدمير تكمن في الإرث الغربي، العقلاني الحداثي والتنويري والإنسانوي، الذي صنف شعوب العالم وفق سلم حضاري، يحتل فيه الغربي، المسيحي اليهودي مرتبة متقدمة، وتصنف وفقه باقي الشعوب المندرجة في صنف الآخر، مثل المسلمين والسود وباقي الملونين في مرتبة دنيا.

وبقدر ما أزال عدوان الكيان الصهيوني اللثام عن هذا الواقع، ساهم في تحريك مقدرات أحرار العالم لمواجهة نظام ما بعد الاستعمار، فلأول مرة ينتفض طلاب الجامعات الغربية لفصل المعرفة عن نظام القوة، فقد طالب هؤلاء بوقف التعاون العسكري مع الكيان الصهيوني، وتصدير السلاح إليه، ما يشكل في نظرنا تحديا غير مسبوق لآليات اشتغال نظام ما بعد الاستعمار. وتمثل دعوى جنوب افريقيا، ومبادرات الدول التي انظمت إليها، وعيا متقدما بعنصرية النظام العالمي الجديد. وقد استفادت جنوب أفريقيا من تجربتها في مواجهة الفصل العنصري، وحاولت استثمارها لمواجهة عنصرية النظام العالمي الجديد، ودفعت دولا أخرى مثل ايرلندا وإسبانيا والنرويج إلى اتخاذ خطوات مؤثرة في نظام الاستعمار الجديد، من قبيل الاعتراف بالدولة الفلسطينية، وعزز ذلك القرار الاستشاري لمحكمة العدل الدولية، الذي اعتبر الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية غير قانوني.

غالبا ما لا يضع جانب كبير من التحليلات السائدة عدوان الكيان الصهيوني على غزة، وباقي الحروب التي كان الشرق الأوسط مسرحا لها في إطار مابعد الكولونيالية، ونادرا ما تربط هذه التحليلات بين الثقافة الحديثة وتدمير الإنسان غير الغربي، وفي حالات قليلة فقط تكشف هذه التحليلات، كما فعل على مزروعي، عنصرية النظام الدولي، وتحيزه ضد الإسلام [8]. وآن، الأوان، لنقد تحيزات النظام الدولي العرقية والدينية؛ تحيزاته للإنسان الأبيض وللثقافة الدينية المسيحية اليهودية، على نحو ما بيّن علي المزروعي، وتقويض الحداثة، والحداثة السياسية الغربية بالخصوص، وعلى رأسها فكرة الدولة-الأمة، التي بررت جرائم الإبادة في حق الفلسطينيين، كما كشفت دراسات محمود ممداني [9].

لقد أسقطت  المقاومة الإسلامية حماس نظام الخوف الذي أرسته سرديات الاحتلال من قبيل “الجيش الذي لا يقهر”، “والدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط”،  “والجيش الأكثر تسلحا في منطقة الشرق الأوسط”، و”الأكثر استخداما للتكنولوجيا الفائقة”، وحررت المتخيلات الاجتماعية حول قدرة الفلسطينيين حول المواجهة، وفككت البناءات الاستشراقية حول الإسلام، من خلال المعاملة الأخلاقية لأسرى الكيان مقارنة مع تعامل الكيان الصهيوني مع الأسرى الفلسطينيين، وكشفت الحرب على غزة الطبيعة الاجرامية للعقيدة العسكرية الإسرائيلية التي تستهدف الأطفال والنساء والشيوخ لحسم المعارك، والأهم من كل هذا كله، أن طوفان الأقصى دفع أحرار العالم إلى مقاومة نظام الاستعمار الجديد. ويمكن لهذه التطورات أن تفضي إلى تغيرات فكرية كثيرة لصالح منبوذي العالم، سيما وأن هناك موارد فكرية يمكن للمفكرين التحررين استثمارها.

لقد وفر الفكر مابعد الاستعماري، والديكولونيالي والفكر الإسلامي الجديد [10] ، مفاهيم تسعف على فهم النظام الجديد، وبين سبل التخلص من الهيمنة الفكرية والثقافية التي يفرضها. ويدشن طوفان الأقصى مرحلة جديدة للتحرر الفكري؛ تحرر يضع موضع النقد الجذري الحداثة/الكولونيالية الغربية، كونها مسؤولة عن أزمات العالم المعاصر، إلا أن هذا الفكر التحرري في حاجة إلى إعادة بنائه من موقع حضاري، عربي إسلامي.

—————————————————————————————————–

مراجع

[1] علي الأمين المزروعي، براهمة العالم .. ومنبوذوه، ترجمة أحمد حسن المعيني، كتاب نزوى، مؤسسة عمان للصحافة والنشر والإعلان، 2015، ص 18.

[2] Mahdi Elmandjara, La décolonisation culturelle, défi majeur du 21ème siècle, éditions Walili,  Marrakech, 1996, p. 208.

[3] علي الأمين المزروعي، مرجع سابق، ص 20.

[4] المرجع نفسه.

[5] المرجع نفسه.

[6] علي الأمين مزروعي، القوى الثقافية في السياسة العالمية، ترجمة احمد حسن المعيني، منتدى العلاقات العربية والدولية، 2017، 394.

[7] تنظر مثلا، أعمال رونيه غينون، وعبد الوهاب المسيري، وطه عبد الرحمان…

[8] علي الأمين المزروعي، براهمة العالم .. ومنبوذوه، مرجع سابق، ص 17.

[9] محمود ممداني، لامستوطن ولامواطن، صنع أقليات دائمة وتفكيكها، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، 2022.

[10] يعتبر عبد الوهاب المسيري الخطاب الإسلامي الجديد، جزءا من خطاب الجنوب، ينظر مقاله: “معالم الخطاب الإسلامي الجديد”، مجلة المسلم المعاصر، عدد 86، 1997.

رشيد بن بيه

أستاذ بكلية اللغات والفنون والعلوم في أيت ملول، جامعة ابن زهر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى