المقالات

الاستهلاك أم الاستغناء: آفاق تجاوز أزمات عالمنا المعاصر

يعيش العالم اليوم في دوامة من الأزمات لا تكاد تنتهي، حيث لا مؤشر في الأفق على دنو الخلاص. فلا نكاد نخرج من أزمة، حتى يظهر ما يفوقها حدة، إلى أن بات المشهد مألوفا، وصار لزاما علينا التعود عليه في المستقبل. إن أزمة كورونا وما تلاها من تداعيات اقتصادية، ربما لن تكون مجرد استثناء عابر في واقع مأزوم أصلا.

سبق لزيجمونت باومان؛ عالم الاجتماع البولندي، أن عبَّر عما يحدث في العقود الأخيرة بوصف “حالة الأزمة”[1]، حيث أوضح في كتاب بذات العنوان، كيف أن هذه الصفة أضحت ملازمة لعالمنا المعاصر، إلى حد ينصح معه بالقول: “علينا أن نعتاد العيش مع الأزمة لأنها ستدوم”. ورغم أن ذلك ليس جيدا، لكنه يضيف أن الأمر “يمكن أن ينطوي على أثر إيجابي، لأنه يوقظ الحواس، ويجعلها على أهبة الاستعداد، ويهيئنا نفسيا للأسوأ.”

لقد أشبع هذا المشهد تشخيصا من قبل عدد من الدارسين من مختلف المشارب العلمية، ومن مداخل متنوعة، وأجمعت كلها تقريبا على رد جذورها إلى التحول الاقتصادي الكبير الذي عرفه العالم، على الأقل، منذ الحرب الباردة. غير أننا نزعم أن كشفا متكاملا لتلك الجذور لم يتم بشكل كلي، لأن ذلك من شأنه أن ينعكس إيجابا على اجتراح الحلول الناجعة؛ حيث إن كل تشخيص ناقص لا بد أن يقود إلى توصيف الدواء الخطأ، الذي لن يديم الأزمة فقط، بل إنه سيصنع أعراض جانبية سلبية كذلك، ما سيفاقم الوضع لا محالة.

في جذور ومظاهر الأزمة  

إن أمراض الحضارة المعاصرة تضرب في العمق، إلى أبعد من منتصف القرن الماضي، إنها مرتبطة ببدايات الفترة الحديثة على الأقل. فهي وإن كانت تتصل رأسا بسياق التحول الاقتصادي نحو الرأسمالية، إلا أنها تنهل أساسا من رؤية وجودية حملتها جهود فلاسفة ومفكري الحداثة؛ حيث تم تنصيب الإنسان بمثابة إله، في سياق المعركة الفكرية والوجودية مع الكنيسة الكاثوليكية. وهكذا صارت الحداثة “السياق المرجعي الذي يمضي فيها معظم أفراد المجتمعات الصناعية حياتهم.”[2]

إن الاقتصاد الرأسمالي المعاصر هو المظهر الأكثر وضوحا لتلك الرؤية، وهو البوابة التي تعبر منها كل الأزمات المعاصرة؛ إنه شكل من الاستعمار الناعم الذي يزحف على حقوق وقيم وأفكار ومعتقدات الأفراد عبر كل العالم، معيدا تركيبها بعد أن يفككها بأساليب لينة وممتعة. إنه يستحق كلمات جورج برناد شو الساخرة في وصفه: “لحيتي كثيفة ورأسي أصلع، كالاقتصاد العالمي تماما، غزارة في الإنتاج وسوء في التوزيع.”

لم يكن كارل ماركس مخطئا، حين صرّح بأن “الرأسمالية ستحول الحياة إلى عملية ركض متواصلة، ينسحق فيها تحت الحشود كل من يتوقف ليلتقط أنفاسه”. لا يبدو هنا أي خلط بين الحداثة والرأسمالية، لأنهما في الواقع وجهان لعملة واحدة، إن رؤية الحداثة الوجودية هي التي انتهت إلى الاقتصاد الرأسمالي كواقع مجسد. إن جذور الأزمة إذن تتجاوز الشكل الخارجي إلى الرؤية التاوية خلفه؛ لأن “فكرة التغير الدائم، والتقدم، والتطور ملازمة للحداثة”.[3]

ثمة مفارقة قلما نقف عندها بتمعن كاف، تتمثل أساسا في حجم الخسارة المحتملة التي تكتنف مكاسب الرأسمالية؛ فكلما ارتفعت معدلات الرفاهية لدى الأفراد إلا وازداد معها الإحساس بالخوف من فقدان تلك النعمة. ثمة تقابلا بشكل سالب بين ثمار الرأسمالية المادية وآثارها النفسية السيئة على الحياة الخاصة والعامة معا. يتحدث آلان دو بوتون عن مرض الرأسمالية المزمن ذاك بوصف “قلق السعي إلى المكانة”، حيث يعبر عن الأمر بالقول: “تمثلت المفارقة في أن الانخفاض الحاد في مستويات العوز الحقيقي قد يصحبه إحساس متواصل بل متصاعد بالخوف من العوز. لقد حظوا بثروات وإمكانات تفوق أي شيء تخيله أسلافهم ممن حرثوا التربة متقلبة المزاج لأوروبا العصور الوسطى، وعلى الرغم من ذلك فقد أبدى أبناء العصور الحديثة مشاعر مبالغ فيها بأن لا شيء يكفي بالمرة، سواء من حيث هوياتهم كأشخاص، أو من حيث ممتلكاتهم.”[4]

في معرض اجتراح الحلول

نشرت سلمى نبيل على منصة ميدان الالكترونية، منتصف شهر يناير من عام 2023، مقالا بعنوان “فلسفة النيكسن: هل يمكن للخمول أن ينقذنا في هذه الأيام الصعبة؟”[5] جاء فيه: “تنقسم “النيكسن” ( (NIKSEN في اللغة الهولندية إلى نصفين: “niks” التي تعني “لا شيء”، و “doen” بمعنى “عمل”، ليقصد بها إجمالا تعمد عدم فعل أي شيء.” وبغض النظر عن المنافع النفسية والبدنية على مستوى الفرد، التي عددتها الكاتبة جراء اعتماد “فلسفة النيكسن”، التي تشدد على ضرورة تخصيص أوقات فراغ مهمة للراحة من ساعات العمل والدراسة التي لا تنتهي، فإن هذا التوجه يمكن أن يشكل خيارا استراتيجيا لجل أزمات الحياة المعاصرة الناتجة مجملا عن التوجه الرأسمالي.

فعمليات التطوير المستمر التي شملت كل شيء، لا تترك للأفراد بديلا غير مسايرتها بدون توقف، وبدون تفكير أو تساؤل حول جدوى التحديث الذي لا ينتهي. وحتى إن حدث وتساءلوا فإن ذلك يحدث لأسباب عملية ولحظية، وليس بسبب تفكير نقدي يحمل هما كونيا. ذلك أنه “بالنسبة لطائفة من الناس، تبرز مشكلة المغزى (= يقصد الكاتب معنى الحياة ككل) بشكل مباشر في مستوى الحياة اليومي أكثر من بروزها في مستوى الرؤى الكونية.”[6] ولا يمكن التفكير في حلول جذرية دون البحث في جذور الحداثة ذاتها، حيث أن “مدار المعضلة الحديثة على قضية المعنى.”[7]

إن هذا التيه القيمي لن يوقفه سوى مسلك مخالف تماما لذلك الذي سارت عليه الحداثة، ومعها عمليات التحديث القسري التي طالت حضارات متعددة ومختلفة. لقد أوهمتنا الحداثة أن العمل مهم في ذاته، وأن الإنتاج المتزايد ضروري، لكن الجانب المخفي هو أن ذلك لا يخدم المجتمع، بل فئة واحدة فحسب، هي الطبقة الرأسمالية المالكة لكل أسباب القوة المادية. إن تعظيم القوة المادية خلف فقرا قيميا مخيفا جدا.

الكسل: مزية أم نقيصة؟

بغض النظر عن كون الإنسان مستهلك بطبعه، وعلاوة على أن مستويات الاستهلاك تتزايد اطرادا بتطور المجتمعات المعاصرة ومتطلبات الحياة فيها، فإن ثمة مشكلة معاصرة – سبق لباومان أن ناقشها- ترتبط أساسا بشيوع الإقبال على الاستهلاك؛ حتى صار ثقافة تحدد جودة الحياة عبر مقدار استهلاك الفرد؛ على نحو “كلما استهلكت، كلما نعمت بحياة أفضل”.

إن هذا العطب، لا يمكن مواجهته فقط بالتعويل على المؤسسات السياسية، التي صارت في عصر “الحداثة السائلة”[8] مجرد أدوات، تخدم مؤسسات الاقتصاد الرأسمالي: المتحكم الفعلي في مصائر الناس عبر العالم. بل لا بد للأفراد أن يبادروا ضد هذه الثقافة الجارفة. ويبدو أن ذلك ينطلق من تعطيل وسائل الضبط التي تنهجها تلك المؤسسات، وعلى رأسها الحد من الاستهلاك إلى أقصى الحدود الضرورية.

وطالما كنا نعيش في واقع معولم، فإن التركيز فقط على الحلول المحلية لن يجدي سوى في تكريس الأزمات وتعميقها، ناهيك عن هدر الجهود دون نتيجة تذكر. والحال هكذا، فإننا بحاجة إلى تطوير ثقافة عالمية، تقوم على الامتناع عن مجاراة نسق الرأسمالية الذي يدفع نحو إعادة بناء هوية للإنسان، بشكل قسري، تختزل في كونه كائنا مستهلكا. لذلك فكل فرد على حدة يتحمل مسؤولية خاصة في رفض هذا الاختزال المخل لماهيته؛ وهو، بالتالي، مطالب بمقاومة النزوع الاستهلاكي للرأسمالية، من خلال الاحجام عن المساهمة جزئيا في الدورة الاقتصادية الرأسمالية بتقليص الإنتاج والاستهلاك معا، تماما مثلما فعلت حركة من الشباب الصيني منذ سنة 2021، التي انخرطت في ما يشبه العصيان المدني الصامت، داخل إطار حركة سميت ب”المستلقين” (الإسم مستوحى من الاستلقاء في المنزل دون عمل شيء يذكر) التي تدعو الشباب إلى رفض ثقافة العمل الزائد، التي تجبرهم على العمل لساعات أطول بأجور لا تتناسب مع المجهود المبذول.

إن هذا السخط المتزايد، عبر العالم، بخصوص تنامي الفوارق الاجتماعية، يدل على انعدام الجدوى من الانخراط في دورة اقتصادية لا تبدو عوائدها عادلة أصلا. وعليه، لا بد من توظيف هذا الامتعاض، وما خلفه من لامبالاة، في اتجاه إيجابي من أجل تكثيف الجهود للتحرر من سلطة سبق “لألكسيس دوطوكفيل” أن وصفها في كتابه “الديمقراطية في أمريكا” بالقول: “إنها سلطة جبارة ووصية تتكلف وحدها بضمان استمتاع الحشود… إنها سلطة مطلقة ودقيقة، ومنظمة ولينة، سلطة كان بإمكانها أن تشبه السلطة الأبوية، لو كانت مهمتها هي تهيئ الأفراد للرشد، ولكن هدفها هو عكس هذا، تثبتهم في حالة القصور بصفة دائمة: فهي تحب أن يستمتع المواطنون شريطة ألا يفكروا إلا في الاستمتاع.”

وهكذا، فإن الدعوة إلى الكسل والبطء من شأنها أن تمثل توجها مقاوما ضد ثقافة الاستهلاك، التي تحاول إجبارنا بلطف على تصديق أن الإنتاج المتزايد هو عنوان الحياة السعيدة، دون الانتباه إلى أن ذلك الإنتاج ربما يكون مجانبا للأهداف الإنسانية، بل وضدا لها. فعلى حد تعبير إميل سيوران تبقى “القدرة على التخلي هي المقياس الوحيد للارتقاء الروحي، حين نغادر الأشياء وليس حين تغادرنا”.

إن طبيعة الكسل الذي ندعو إليه، يقوم على تغيير اتجاه الإنتاج والاستهلاك، والاقتصار على الضروري منه، بما يخدم حقيقة الوجود الإنساني كوجود لا يمكن اختزاله، في بعده المادي الحيواني. وذلك بوصفه الوسيلة الوحيدة حاليا لتحرير الإبداع الذي يخدم الانسان، وليس سلسلة الإنتاج الرأسمالي، التي تفرض علينا معاييرها، حتى في اختياراتنا اليومية، معتمدة في ذلك على الخبرة التقنية فقط، التي تناقض تماما التيقظ الفكري. وهو ما عبّر عنه آلان دونو في كتابه “نظام التفاهة” بالقول: “فالجودة التقنية لازمة لإخفاء الكسل الفكري العميق الذي تنطوي عليه العديد من المهن ذات العقيدة الامتثالية.”[9]

فالدعوة إلى الكسل هي في الحقيقة دعوة للزهد؛ الزهد في المتع الزائفة التي أوهمتنا الرأسمالية أنها جوهر الحياة. إنها دعوة للعمل؛ العمل الذي يخدم الأهداف الإنسانية من الحياة. إن هذا الزهد ليس تهربا من الواقع، كما تفعل بعض الاتجاهات الصوفية، بقدر ما هو مجاهدة النفس في اتجاه مواجهة الآلة الرأسمالية التي تخدم أقلية، ضد جموع البشر البائسين عبر العالم. وقد لا نجد تعبيرا أنسب مما سبق أن صرح به الرئيس الأوروجوياني الأسبق خوسيه موخيكا، قائلا: “لست فقيرا، أنا فقط زاهد في الحياة … هناك فرق كبير بين الأمرين … الأفقر هو من يحتاج إلى الكثير ليعيش.” فهل من الممكن إذن اتخاذ “فلسفة” موخيكا سبيلا لمواجهة أزمات الفترة المعاصرة؟؟ هل يمكن أن نكون زهادا أم أننا نفضل أن نظل فقراء؟

[1]  زيجمونت باومان وكارلو بوردوني، حالة الأزمة، ترجمة حجاج أبو جبر، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، الطبعة الأولى 2018.

[2]  تود سلون، حياة تالفة: أزمة النفس الحديثة، ترجمة عبد الله بن سعيد الشهري، ابن النديم للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 2021، ص 42.

[3]  نفسه، ص 33.

[4] آلان دو بوتون، قلق السعي إلى المكانة: الشعور بالرضا أو المهانة، ترجمة محمد عبد النبي، دار التنوير للطباعة والنشر، الطبعة الأولى 2018، ص 40.

[5]  يراجع المقال بموقع ميدان على الرابط التالي: https://1-a1072.azureedge.net/midan/art/finearts/2023/1/16/%D9%81%D9%84%D8%B3%D9%81%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%8A%D9%83%D8%B3%D9%86-%D9%87%D9%84-%D9%8A%D9%85%D9%83%D9%86-%D9%84%D8%B9%D8%AF%D9%85-%D9%81%D8%B9%D9%84-%D8%A3%D9%8A-%D8%B4%D9%8A%D8%A1

[6] تود سلون، حياة تالفة، مرجع سابق، ص 41.

[7] نفسه، نفس الصفحة.

[8] زيجمونت باومان، الحداثة السائلة، ترجمة حجاج أبو حجر، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، الطبعة الأولى 2019.

[9]  آلان دونو، نظام التفاهة، ترجمة مشاعل عبد العزيز الهاجري، دار سؤال للنشر، الطبعة الأولى 2020، ص 73.

حسن الفجح

باحث مغربي، حاصل على الإجازة في علم الاجتماع من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة ابن زهر، له مجموعة من المقالات والدراسات .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى