الإيمانُ يتكلّمُ لغةً واحدة
وجودُ الإنسان مرآةُ وجود الله. الإيمانُ نورٌ يكشفُ للإنسان حقيقةَ وجودِه، ثمرةُ الإيمان تُعرف بإثرائه لسكينة الروح، وطمأنينة القلب: “الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ”[1]. الإيمانُ حالةٌ للروح تعيشها، وتجربةٌ للحقيقة تتذوّقها. يسكنُ الإيمانُ الروحَ مثلما تسكنه، ويرتوي بالروح مثلما ترتوي به. الإيمانُ عودةُ الروح إلى أصلها الإلهي، أودع اللهُ في كلّ إنسان روحًا منه، إلا أن هذه الوديعةَ تحتجب متى احتجب الإنسانُ عن الله، اللهُ لا ينسى الإنسانَ إلا عندما ينساه الإنسانُ: “نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ”[2]. لا يستردّ هذه الوديعةَ إلا الإيمان، الإيمانُ إيقاظٌ لصوت الله في ضمير الإنسان، وانبعاثٌ لما ينتمي الى الله فيه. الروحُ تنتمي إلى الله، إنها وديعتُه التي استؤمن الإنسانُ عليها، كما يؤكّد القرآنُ الكريم ذلك، فإذا ذكرَ اللهُ الروحَ في القرآن قرنها به،كما تشير هذه الآية وغيرُها: “فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ”[3].
الإيمانُ يكرّس الروحَ والقلب ويتوحّد بهما، حتى يبلغ توحّدُ القلب والروح بالإيمان مرتبةً لا يخضعان معها لمعادلاتِ الذهن ومشاكساتِه مهما كانت. الإيمانُ حالةٌ ديناميكيةٌ حيّة، تتغذّى وتنمو وتتطوّر وتتجذّر. إنه جذوةٌ متوهجة،كأنها طاقةٌ مشعّة، يضيء الإيمانُ الروحَ لحظةَ تحقّقها به، مثلما تضيء الكهرباءُ المصباحَ المظلم لحظةَ وصله بها، وهذا معنى كونه حالةً نتذوّقها كما نتذوّق الطعامَ الشهي والشرابَ اللذيذ.كلُّ ما يتذوقه الإنسانُ ضربٌ من التجربة، والتجربةُ تفشلُ لغةُ الإنسان في التعبير عن حقيقتها وكلِّ حالاتها وأطوارها.
يفيضُ الإيمانُ على صاحبه طاقةً مُلهِمة، إذ لا يجد نفسَه في غربة إلا ويهمس إليه صوتُ الله، فتستفيق روحُه بعد غفوتها، وتمتلئ بعد خوائها، وترتوي بعد ظمئها، ويتجدّد وصالُها بمن أودعها عنده. في كلّ غيابٍ للإنسان عن ذاته يرى حضورَ الله هو الحضور، واحتجابَ الله هو الاحتجاب.
الإيمانُ مُستقرَّه القلب، ومأواه الروح. إنه ليس صورةً ندركها، الصورةُ يختزنها الذهنُ. الإيمانُ، خلافًا للفهم والمعرفة، لا يتحقّق بالنيابة، في عملية الفهم يمكن أن يتلقّى الإنسانُ معارفَه من شخصٍ آخر، أو يقلّد غيرَه في آرائه. الإيمانُ تجربةٌ تعكس تسامي الروح في سفر النور من الخلق إلى الحق. إنه ضوءٌ ينبعث داخل الإنسان، إنّه صيرورةٌ تتحقّق فيها الروحُ وتتكامل، ونمطُ وجودٍ يرتوي به الظمأُ الأنطولوجي للمقدس، إنه مما تضيق في التعبير عنه العبارةُ، ولا تشير اليه إلا الإشارة.
يحقّق الإيمانُ الإنسانَ في طور وجودي جديد، فحيث يسافر الإنسانُ للحقّ تتكرّس قدرتُه، وتترسّخ إرادتُه، وتتعذّر هزيمتُه. لأنه يتحقّق بالحق فلا يشعرُ بهشاشةِ وخواء وجوده. بذلك يجعل الإيمانُ الاشياءَ المستحيلةَ ممكنة، والشاقّةَ سهلة، والمرّةَ حلوة.
الإيمانُ وحبُّ الله كلاهما كيمياءٌ للروح،كلاهما ينبثقان من جوهر واحد. يولدان معًا، ويرتضعان معًا، ويتكرّسان معًا، ويتوحّدان معًا، فحيث ينمو الإيمانُ ينمو الحبُّ، وحيث يذبل الإيمانُ يذبل الحبُّ. إنهما في صيرورة وتفاعل وفوران، يتحوّل الإيمانُ إلى حب،كما يتحوّل الحبُّ إلى إيمان. الإيمانُ عصارةُ الحبّ، والحبّ عصارةُ الإيمان،كلا الحالتين تستقيان من الشلّال ذاته، يصبح كلّ منهما صورةً لحقيقة واحدة متعدّدةَ الوجوه. حين يصير الإيمانُ حبًّا والحبُّ إيمانًا تشهد حياةُ الإنسان أنوارَ الأبد. ما أجمل التعبير الوارد في مناجاة المحبين للامام السجاد “ع”: “اِلـهي مَنْ ذَا الَّذي ذاقَ حَلاوَةَ مَحَبَّتِكَ فَرامَ مِنْكَ بَدَلاً، وَمَنْ ذَا الَّذي أنـِسَ بِقُرْبِكَ فَابْتَغى عَنْكَ حِوَلاً”.
الإيمانُ فرحُ الروح في زمن قلما تفرح فيه الروحُ، إذ يتهدّدُ العالَم تدينٌ كئيبٌ يغمر الروحَ بالأسى. في الإيمان تتناغم الأديانُ وتتعايش وتأتلف، بعد أن تكتشف شفرةَ اللغة الروحية الواحدة المشتركة التي يتكلّم فيها إيمانُها، وإن كانت في الاعتقاد تتكلّم لغاتٍ شتى لا تفقه كلٌّ منها الأخرى. يقول ابن عربي: “تنوعت المشاربُ، واختلفت المذاهبُ، وتميزت المراتبُ، وظهرت الأسماءُ الإلهية والآثارُ الكونية، وكثرت الأسماءُ والآلهةُ في العالم”[4].
لا يولد السلامُ بين الأديان في فضاء الاعتقاد، بل يولد السلامُ بين الأديان في فضاء الإيمان. الإيمانُ يتكلّمُ لغةً واحدة، المؤمنون في كلّ الأديان يستوحون إيمانَهم من منبع مشترَك هو الحق، وإن تجلّى لكلّ منهم في صورة، تتنوّع صورُ الحق بتنوّعِ دياناتِهم، وبصمةِ ذواتهم وبيئاتهم، غير أنهم يعيشون التجاربَ الروحيةَ المُلهِمةَ للطمأنينة والسكينة والسلام. الإيمانُ حقيقةٌ يتجلّى فيها جوهرُ الأديان، وأرضيةٌ تتوحّد في فضائها، ومنبعٌ مُلهِم للحياة الدينية فيها. لا يتخلّص الإنسانُ من نزاعات الأديان وحروبها إلا في فضاء الإيمان.
إن كانت نصوصُ الدين مقدّسةً غير أن تفسيرَها وتأويلَها وفهمَها يتجلى فيه الأفقُ التاريخي الذي يتموضع فيه الكائنُ البشري، لا يمكن أن يكون ذلك الفهمُ عابرًا للإطار المعرفي الذي يعيش فيه ذلك الكائنُ. إن تطبيقَ المناهج العلمية في دراسة الأديان وفرقها ومذاهبها ضرورةٌ يفرضها التعرّفُ على كيفيةِ ولادتها وصيرورتها عبر التاريخ، والآثارِ المتنوعة لها في الحياة البشرية. الأديانُ تولد في عصر مؤسّسيها، لكنها تظلّ تتخلّق وتنمو في صيرورة لا تتصرّم عبر الزمان والمكان، في سياقات نسيجِ المتطلبات المتنوّعة لحياة الإنسان فردًا وجماعةً، والعلاقاتِ العضوية بين السلطة والمعرفة، كما يشرحها ميشيل فوكو.
ما لم يتسع حقلُ دراسةِ الأديان ومقارنتِها لدى الباحثين في الدراسات الدينية، لا يمكن تصويبُ سوء الفهم والأحكام السلبية السابقة، وحذفُ الكثير من الأخطاء المتراكمة في فهم أتباع ديانةٍ لمقولات ومعتقدات أتباع ديانةٍ أخرى، إذ تتوالد من سوءِ الفهم والأحكامِ السلبية السابقة دائمًا أحكامٌ إقصائية حيالَ الآخَر المختلف.
إن دراسةَ الأديان ومقارنتَها هي المعيارُ الحقيقي لاختبار وفاءِ الأديان بوعودها، ومصداقيةِ ادعاءات أتباعها. ولا يتحقّق ذلك إلا بالعودة إلى نصوصِها المقدّسة، ومدوناتِها الخاصة الموازية لهذه النصوص، والتعرّفِ على أنماطِ حضورها في حياة الأفراد والمجتمعات التي تعتنقها، ومدى تأثيرِها الإيجابي في تنمية الحياة الروحية والأخلاقية، والتفتيشِ عن أثرها السلبي، وفضحِ ما تعمل على إخفائه أو تتعمّد حذفَه من تراثها وتاريخها الخاص. دراسةُ الأديان الوحيانية مثلًا لا تصحّ إلّا بالعودة إلى نصوصِها المقدّسة وتراثها الخاص، وطبيعةِ تأثيرها في حياة الفرد والمجتمع الذي يعتنقها، وكيفياتِ حضورها في التاريخ البشري، وما تركته من آثار مختلفة في البناء والهدم.
ليس هناك ديانةٌ تستأثر وحدها بالمحبة والحرياتِ والحقوقِ واحترامِ كرامة الإنسان، وليس هناك تاريخُ ديانةٍ منزّهٌ من التعصب والعنف وانتهاك الكرامة. لا يكفي الحكمُ على أخلاقية وإنسانية الديانة بما تشتمل عليه مدوّنتُها، وليس بشهاداتِ أتباعِها عنها، مهما ادعوا من انحصار الأخلاق والإنسانية فيها. لا يكون الحكمُ صادقًا إلا بمقارنتها بالديانات الأخرى، وتفحّص وغربلة مسيرتها التاريخية، وما صنعته في محطات رحلتها عبر الزمان، وما قدمته من مكاسب للحضارات البشرية، مضافًا إلى اكتشاف مقدار تجلّي القيم الإنسانية لهذه الديانة وأخلاقياتها في سلوك معتنقيها أفرادًا وجماعاتٍ في الماضي والحاضر.
كي تتعايش الأديان وتأتلف ينبغي العمل على تكريس المشترك الإنساني الروحي والأخلاقي والجمالي للأديان، وتوظيف الرصيد الايماني والرمزي الحي لها من أجل صناعة السلام في العالَم. والكفّ عن نبش ذاكرة حروبها المريرة والانتهاكات الشنيعة في مسيرتها، وما يختبئ في أرشيفاتها من تعصّبات وكراهيات وصراعات دينية مريرة. وأن ينشد الكلُّ الكفَّ عن ثنائية أنا / أنت، والانتقال إلى الـ “نحن”، على وفق رؤية البابا فرنسيس في ترسيخ معنى “العائلة البشرية”، بوصفها مقصدًا إنسانيًا أسمى يكشف عن الغاية العظمى لكلّ الأديان، وبوصف: “الأخوّة أقوى من قتل الإخوة، الرجاء أقوى من المَوت، السلام أقوى من الحرب”.
أما أن نعيشَ معًا وذلك ما ينشده كلُّ حكيم في الأرض، وأما أن نموت معًا وذلك ما يعمل عليه كلُّ متعصب أحمق.كتب الأديان المقدسة وميراثها منجم يكتنز بالمعاني الروحية والأخلاقية الأصيلة، التي تبني أُسس العيش معًا. “إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ”[5].
من الضروري الارتقاءِ بالحوار بين الأديان، والانتقالِ من الكلام المكرّر، كلام العلاقات العامة والمجاملات إلى اعتماد المناهل الروحية والقيم الأخلاقية المختزنة في جوهرها، والبناءِ عليها بوصفها منطلقاتٍ للبحث في دراسة الأديان والحوار بين أتباعها. في ضوء ذلك ينبغي رفضُ مواقف كلّ من يستخفّ بمعتقدات أيّ دين آخر أو يسفهها، وأن تتعاقدَ كلُّ الأديان على رفض التكفير، وإن كان التكفيرُ يمتلك حججَه وأدلتَه داخل منطق الديانة وتراثها، مهما كانت تلك الحجج والأدلة مقنعةً ومقبولةً لأتباع الديانة. وأن ينطلق الكلُّ من واقع الحياة البشرية، وليس من الرغبات والأماني والأحلام والأوهام، هذا الواقع الذي يدلل على أن الناسَ لا يمكن أن يجتمعوا على قناعة واحدة، أو اعتقاد مشترك، أو ديانة واحدة. “وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ”[6].
ـــــــــــــ