الكون العابد شريك مكافئ للإنسان في الحياة
مما تداوله الكثيرون تزامنا مع لزوم الناس في العالم لبيوتهم، استجابة للحجر الصحي وإعلان حالات الطوارئ؛ أنهم فسحوا بذلك المجال للطبيعة والبيئة أن تأخذا حقهما من النفس والاستراحة. و أن تنعما بنظافة استثنائية في الماء والهواء والتراب؛ وأن تنعم بذلك أيضا المخلوقات والكائنات الأخرى، حية و”جامدة”. والتي كانت عرضة لعدوان الإنسان السافر عليها، تلبية لأطماعه واستجابة لجشعه في الاغتناء والتملك. حيث لاحظ المتتبعون أن نسبة التلوث قد تراجعت كثيرا، وأن الصفاء والنقاء أصبح لائحا على صفحة المياه وفي الأجواء. و أن مخلوقات بحرية وبرية وجوية، كانت محتجبة خوفا من التلوث أو من البطش، بدأت بالظهور والبروز للاستمتاع بجمال الحياة ولو قليلا.
والواقع أن ما يحدث اليوم هو فرصة لمراجعات كثيرة، ذكرنا منها “استعادة الإنسان لإنسانيته” كما مر معنا في اللمعة السابقة، ونذكر منها ضرورة استعادته لنظرته الإيجابية إلى الكون والمخلوقات، باعتبارها شريكا حقيقيا مكافئا له في الحياة والوجود، وفي الاستجابة لأمر الله خالقها تعبدا طوعيا، كما يستجيب هو لله خالقه تعبدا كدحيا.
إن آية التكليف المتجلية في قوله تعالى: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) [الأحزاب، 72]، تقرر حمل الإنسان للأمانة بعد أن أشفقت السماوات والأرض والجبال من حملها؛ وتطرح أكثر من سؤال بخصوص هذا التكليف الخطير، الذي ناءت بحمله تلك العوالم الكونية الضخمة، وتحمله هذا الكائن على ما به من وهن وضعف. فما هي هذه الأمانة؟ وما سر إعراض وإشفاق السماوات والأرض والجبال عن حملها، واختيارها الهداية الطوعية بدل الكدحية؟ وما معنى إباءها وإشفاقها في ذلك؟ وهل ذلك حقيقة أم مجاز؟
يذهب أغلب المفسرين بهذا الصدد الى أن الآية في تقريرها عرض الأمانة على غير العاقل، إنما ذلك مجرد مجاز وضرب مثل على ثِقلها والقوة اللازمة في حملها. وهذا كقوله تعالى: (لَوْ أَنزَلْنَا هَٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ۚ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [الحشر، 21]”. وكما تقول العرب: عرضت الحمل على البعير فأباه. والمراد: قايست قوته بثقل الحمل فرأيت أنها تقصر عنه”.
وأما الأمانة ذاتها فهناك مُختَصِر في بيانها، مثلما ذكر الإمام الرازي أنها: “التكليف”. وهناك مُتوسط مثلما ذكر الطبري أنها: “الإيمان والفرائض التي افترضها الله على عباده”. وذكر القرطبي أنها: “تعم جميع وظائف الدين على الصحيح من الأقوال وهو قول الجمهور”.وبخصوص إباء السماوات والأرض حمل تلك الأمانة، نجد للإمام الرازي تفسيرا جميلا في قوله تعالى: (فأبين أن يحملنها). حيث يذهب إلى أنه “لم يكن إباؤهن كإباء إبليس في قوله تعالى: (إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) [الحجر، 31]، من وجهين: أحدهما أن السجود هناك كان فرضا، وههنا الأمانة كانت عرضا. وثانيهما أن الإباء كان هناك استكبارا، وههنا استصغارا. استصغرن أنفسن بدليل قوله (وأشفقن منها)”.وإن مما يوسع إدراك ووعي الإنسان بمعنى التكليف، استحضارُه للكائنات حوله باعتبارها مكلفة كذلك؛ وإن اختلفت طبيعة التكليف بينه وبينها. فإن كان تكليفه سعيا وكدحا وجِدا واجتهادا، لقوله تعالى:(وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ)[النجم، 39-40] وقوله تعالى: (يا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ)[الانشقاق، آية 6]؛ فإن تكليفها تكليف طوعي، وهدايتها هداية طوعية، لقوله تعالى (ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) [فصلت، آية 11]فالإنسان إذن مُشْتَرِكٌ في العبادة مع الكون والكائنات، تسبيحا وسجودا وخشية؛ وذلك ما تقرره آيات كثيرات نذكر منها قوله تعالى:-( تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ۚ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ۗ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا)[الإسراء، آية 44] .(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ ۖ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ ۗ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ) [الحج، آية 18]-(وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِن دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ) [النحل، آية 49]-(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ ۖ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ) [النور، آية 41] -(وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [البقرة، آية 74]ذكر الرازي في قوله تعالى: (ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) [فصلت، آية 11] أن “المقصود من هذا القول إظهار كمال القدرة، أي: ائتيا شئتما أم أبيتما (…) طائعين أو مكرهين” وقوله (أتينا طائعين) “بيان لامتثالهما التام لأمره”. وقيل إن عبادة الكائنات إنما هو ذل وخضوع، وقيل سجودها وتسبيحها حقيقي يليق بها. ولذلك قال تعالى (ولكن لا تفقهون تسبيحهم). وقد ثبت أن جميع الكائنات تصدر أصواتا ولكننا لا نسمعها ولا نعلمها؛ فقد قيل في شأن داود عليه السلام: (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا ۖ يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ ۖ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) [سبأ، 10]. ومعنى أوِّبي: سبحي معه عند معظم المفسرين. وقيل في شأن سليمان:(حَتَّىٰ إِذَا أَتَوْا عَلَىٰ وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ، وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ، لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ، فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ)[النحل: 17-22].فالله تعالى أسمع سليمان صوت النملة وهي تُحَذِّرُ النمل، مما استوجب منه شكر هذه النعمة؛ كما أن حديثه مع الهدهد كان حول قضية تعبدية خطيرة، وهي إطلاع الهدهد له على ما كان عليه أهل سبأ، في عبادتهم للشمس من دون الله، مما استوجب تدخل سليمان عليه السلام.
إن التعامل مع الكون باعتباره شريكا في التكليف والعبادة، يستوجب الدخول معه في علاقة سلمية لا عدائية؛ ويعزز مرة أخرى ما ذكرناه من ضرورة نسج علاقة صداقة وتفاعل إيجابي معه. على خلاف تيارات النزوع المادي الجشع، نحو الاستغلال المفرط لموارد الطبيعة، والضرر الذي يسببه لمخلوقاتها؛ حينما تراها مصدرا للأرباح والإشباع الاستهلاكي، والتفوق الصناعي والإنتاجي؛ وليس مجالا للاستخلاف والإعمار، والارتفاق الحسن بها وبكائناتها.
وتذكر لنا كتب الحديث والسيرة أثارا رائعة في تفاعل النبي صلى الله عليه وسلم مع الجمادات، بل ومخاطبته لها مخاطبة الأحياء. فعن جابر بن عبد الله: «كَانَ المَسْجِدُ مَسْقُوفًا عَلَى جُذُوعٍ مِنْ نَخْلٍ، فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا خَطَبَ يَقُومُ إِلَى جِذْعٍ مِنْهَا، فَلَمَّا صُنِعَ لَهُ المِنْبَرُ وَكَانَ عَلَيْهِ، فَسَمِعْنَا لِذَلِكَ الجِذْعِ صَوْتًا كَصَوْتِ العِشَارِ، حَتَّى جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا فَسَكَنَتْ» (صحيح البخاري).
وقال النبي سلى الله عليه وسلم في جبل أُحد وقد كانت هزيمة المسلمين عليه بعد نصرهم ببدر: «هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ» (صحيح البخاري). وتذكر رواية أخرى عن أنس بن مالك أنه قال: ” صَعِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أُحُدٍ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، فَرَجَفَ بِهِمْ، فَضَرَبَهُ بِرِجْلِهِ، قَالَ: «اثْبُتْ أُحُدُ فَمَا عَلَيْكَ إِلَّا نَبِيٌّ، أَوْ صِدِّيقٌ، أَوْ شَهِيدَانِ” (صحيح البخاري).
إن المنظور الاستخلافي في الكون، والتسخيري للكائنات، ومشاركتها في العبودية لله؛ يوجب على الإنسان تدينا، الارتفاق بها والإحسان الكبير في التعامل معها، والتدبير الأمثل في استخدامها، ونسج علاقة صداقة وبر وتعاون معها. وسنن الدين الشرعية متماهية مع سنن الكون القدرية، وسنن الاجتماع والعمران والحضارة تَبَعٌ لهما في ذلك. كما أن نظام اشتغال هذه السنن واحد مطرد في الجميع، في آيات النص وفي آيات الأنفس وفي آيات الآفاق؛ دال على وحدة الخالق تعالى في خلقه، وعلى وحدة المخلوقات رغم تنوعها وتعددها. كما أن تحرير الإنسان بالتوحيد من العبودية للمخلوقات التي كان يعتقد بقهرها له، لا يعني أنه هو القاهر لها، بل شريك لها في مهام الاستخلاف والعمران.
ولهذا نجد الدين يرفض بشكل جازم، كل مظاهر الإسراف والتبذير والإخلال بالتوازن الطبيعي في الكون ومع الكائنات. نقرأ في ذلك مثلا قوله تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الأعراف،31]؛ (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ۖ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا) [الإسراء،27]. وعن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ بالصحابي سعد وهو يتوضأ. فقال: («مَا هَذَا السَّرَفُ» فَقَالَ: أَفِي الْوُضُوءِ إِسْرَافٌ، قَالَ: «نَعَمْ، وَإِنْ كُنْتَ عَلَى نَهَرٍ جَارٍ») (سنن ابن ماجة).
يلحق بهذا أيضا أن الإسلام دين الجمال كما هو دين الجلال. فإذا كانت عظمة الخلق والنظام في المخلوقات دالة على جلال الخالق، فإن التناسق والانسجام والتنوع والاختلاف بين هذه المخلوقات دال على الجمال الملازم لذلك الجلال. وفي الحديث: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ»، قَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً، قَالَ: «إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ» (صحيح مسلم).
بل ويحرص الدين على جعل النظافة من الإيمان، وعلى جعل إماطة الأذى عن الطريق من الإيمان كذلك، دفعا لاستصغاره أو توهم حقارته وتفاهته؛ ففي الحديث «الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ -أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ -شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ» (صحيح مسلم). فهو عمل من الأعمال، وليس في العمل تافه أو حقير مادام يترتب عليه ثواب أو عقاب؛ ونحن نقرأ قوله تعالى:(فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة، 6 ـ 7]. وذلك يعني في سياقنا: وإن يكن العمل بمقدار الذرة فهو معتبر دينا. فكيف إذا كان بحجم تنظيف المحيط والبيئة، والإسهام في تطهير الماء والهواء، الذين يحيا بهما الكون وتحيا بهما الكائنات.
يحرص الدين كذلك على الإحسان إلى الكائنات والمخلوقات والارتفاق بها إلى درجة جعلها “أمما” على اختلاف أجناسها وأنواعها، مثل “أمة” الناس: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ ۚ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) (سورة الأنعام 38). وعن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا عائشة، إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطى على الرفق ما لا يعطى على العنف، وما لا يعطى على ما سواه»، (رواه مسلم). ولكثرة وصيته عليه السلام بالعناية والارتفاق بالمخلوقات الأخرى، سأله الصحابة مرة فقالوا: يا رسول الله: وإن لنا في البهائم أجرا، قال: «في كل كبد رطبة أجر»، (متفق عليه(.
فهل يا ترى يؤثر تخلف المسلمين عن تعاليم دينهم على جمال وجلال هذا الدين؟
أبدا.. فجمال الدين وجلاله من المطلق الذي لا يتأثر بالزمان ولا بالمكان؛ وإنما يتأثر واقع المسلمين وواقع البشرية، حينما تتنكب عن سُبل الهداية الحقة، وتتبع سبل الأهواء والإغواء والطغيان. ومنظومة القيم في الدين، هي للناس جميعا هي من أجل تحصيل سعادتهم الدنيوية والأخروية، ومن أجل رفع العنت والشقاء عليهم، فإن أهملها أناس حملها آخرون، وتلك سنة التداول التي ينبغي أن ينتبه إليها المسلمون قبل غيرهم.