التديّن الأخلاقي
لا تتطابقُ تمثلاتُ الدين في الواقع الذي يعيشه الإنسانُ لدى كلِّ الأشخاص والجماعات، لذلك تختلفُ أنماطُ التديّن تبعًا لطبيعةِ البناءِ النفسي للأشخاص، وتكوينِهم التربوي والتعليمي والثقافي، والواقعِ الذي يعيشون فيه. وهكذا تختلفُ أنماطُ التديّن في حياة الجماعات تبعًا لسياقاتِ تاريخها السياسي والاقتصادي وطرائقِ عيشها،وثقافاتِها، ولغاتِها، وهوياتِها، ومعتقداتِها الماضيةِ المترسبةِ في اللاوعي الجمعي.
إن التديّنَ الذي تظهر فيه التعبيراتُ العمليةُ للدين يتجلّى في أنماط متنوعة في حياة الفرد والجماعة. كثيرٌ منها تديّنٌ شكلي، وقليلٌ منها تديّنٌ أخلاقي. وإن كانتبعضُ أنماط التديّنُ الشكلي لا تتميّز بوضوحٍ عن التديّن الأخلاقي، عندما تتخفّى بذكاء، فتتداخل مع التديّن الأخلاقي، على الرغم من التضادِّ في الجوهر الروحي والأخلاقي بين هذين الضربين من التديّن.
التديّن الأخلاقي تديّن يتجلّى فيه صوتُ العقل، بموازاة حياةِ الروح، ويقظةِ الضمير الأخلاقي، ويتذوّق فيه المتديّنُ تجلياتِ الجمال في العالَم. تديّنٌ تتكرّس فيه كينونةُ الكائن البشري، ويحقّق فيه الدينُ وظيفتَه في إرواء ظمأ الإنسان للمقدّس. تديّنٌ يتموضعُ فيه الدينُ في مجاله الخاص به، وينجز وعودَه في الحياة الروحية والأخلاقية والجمالية.
إنه تديّنٌ مُتصالحٌ مع العقل والروح والقلب. لا يقترنُ الدينُ في هذا النمط من التديّن بالخوفِ، ولا المقدّسُ بالرعبِ. الإيمانُ بالله في هذا التديّن حالةٌ يتذوقها الإنسانُ وليس معلومةً يدركها، والتوحيدُ يعني نمطَ حياةٍ توحيديةٍ مُلهِمة، وليس اعتقادًا بمفاهيم ذهنية محنطة. الإيمانُ فيه ليس فكرةً يتأملها المتديّن، أو معرفةً يتعلمها، أو معلومةً يتذكرها. الإيمانُ فيه حالةٌ للروح يعيشها، وتجربةٌ للحقيقة يتذوقها.
يحتفي هذا التديّنُ بالفن، ويدرك حاجةَ كلِّ كائن بشري العميقةِ للجمال، كحاجته لكلِّ ما هو أساسيّ من الاحتياجات في حياته. إنه تديّنٌ يدرس الدينَ بوصفه ظاهرةً لها حقيقةٌ تقع داخلَ أفق الدين ذاته، ويمكن إدراكُ جوهرها في الفضاء الخاص للحياة الروحية. الدينُ حقيقةٌ يمكن اكتشافُ تعبيراتِها وتجلياتِها وآفاقِها من خلال العقل والعلوم والمعارف البشرية، لكن هذه المعارفَ والعلومَ لا تدرك تمامَ مدياتِها الباطنية القصيّة وجوهرَها الروحي العميق، وإن كانت تستطيع أن ترسم حدودَها، وتحدّد خارطةً لتمييز ما هو ديني عمّا هو دنيوي.
يدركُ هذا التديّنُ أن احترامَ الآخر المختلف ضرورةٌ تفرضها ثقةُ الذات بدينها وهويتها وثقافتها، والتدليل على أخلاقية دينها وانسانيته، فمن لا يحترمُ الآخرَ المختلف في مجتمعه تعوزه الحجةَ في البرهنة على مصداقية أخلاقية دينه وانسانيته، ويغتربُ عن مجتمعه وعصره.
يرى هذا التديّنُ أن أكثرَ الأساليب الموروثة للتبشير بالأديان انتهت صلاحيتُها. لذلك تجده يشدّدُ على أهميةِ الذكاء العاطفي للمتديّن، وأثرِه النفسي الإيجابي الفاعل في نظرة الآخَر لمصداقية تديّن أيّ إنسانٍ وأخلاقيةِ دينه، فللعواطف الصادقة سحرٌ آسرٌ على مشاعرِ كلِّ إنسان، ومن طبيعة البشر أنهم ينجذبون بقوةٍ لكلِّ إنسانٍ يحبُ الناسَ، ويشفقُ على البؤساء ويرعاهم، مهما كانت ديانتُهم. عبر العواطفِ الصادقة، والكشفِ عن الجوهر الروحي المشترَك لدى البشر، والحوارِ الأخلاقي البعيدِ عن المنطق الوثوقي للمقولات الاعتقادية المغلقة، يمكن التدليلُ على الدورِ الذي يقوم به الدينُ اليومَ لإنتاج ما يمنح الحياةَ معناها، ويمكن التدليلُ على ضرورةِ التديّن الأخلاقي لإنتاج ما يمنح الروحَ سكينتَها وطمأنينتَها، وإيقاظِ الضمير الأخلاقي.
يذهبُ هذا التديّنُ إلى أن الحاجةَ للمعتقدات تكفي لاعتناقِها، واعتناقُ الإنسان لها لا يعني بالضرورة إقامةَ الدليل عليها والقناعةَ العقليةَ بها، فمهما حاولتَ أن تقيمَ من أدلةٍ على عدم صحة معتقدٍ ما، لن يتخلى عنه صاحبُه مادام محتاجًا إليه. واذا أردتَ تحريرَ إنسانٍ من معتقداته المغلقة المتشددة حرِّرهُ من احتياجاتِه النفسية والمادية التي تدعوه للاعتقادِ بها، وحاول أن تُعيد موضعةَ احتياجاته في أفق تدين أخلاقي منفتح.
ينشد هذا النمطُ من التديّن التحرّرَ من كلِّ ألوان الاستعباد والصنمية. هذا التديّنُ ضدّ كلّ ما يستعبدُ الروحَ، وضدّ كلّ ما يستعبدُ القلبَ، وضدّ كلّ ما يستعبدُ الضميرَ، وضدّ كلّ ما يستعبدُ العقلَ، فكلُّ صنم يستعبدُ على شاكلته. جوهرُ الصنمية موقفٌ اعتقادي يعبّر عن الإعلاء من قيمةِ شيءٍ وتوثينِه، مقابلَ الحطِّ من قيمة الإنسان وهدرِ كرامته، بنحو يكون معه ذلك الشيءُ معبودًا من دون الله، ويصيرُ الإنسانُ مسخًا.
لا تختصّ الأصنامُ بالأوثان المصنوعة من الحجر أو الخشب أو الحديد، الصنمُ كلُّ ما يُعبَد، لذلك تصير أحيانًا ديانةً أو مذهبًا أو عقيدةً أو فكرةً أو أيديولوجيا صنمًا، أو يغدو طقسٌ أو عبادةٌ أو شعيرةٌ صنمًا، أو قد تتحوّل كلمةٌ أو شعارٌ أو كتابٌ إلى صنم، أو يصبح زعيمٌ سياسي أو عسكري أو روحي صنمًا، وربما يمسي حزبٌ أو جماعةٌ أو طائفةٌ أو قوميةٌ أو قبيلةٌ أو عائلةٌ صنمًا. ومن أجمل ما قرأتُ في توضيح هذه الحقيقة جوابًا لأبي يزيد البسطامي على سؤال: “مالنا نعبد الله ولا نجد لذة العبادة؟ قال: إنكم عبدتم العبادة، ولو عبدتم الله لوجدتم لذة العبادة”.
التديّنُ الأخلاقي هو الأقلُّ حضورًا في الحياة الفردية والاجتماعية اليوم، وعادةً ما تصدر الأحكامُ السلبية على الدين بسبب شيوعِ الأنماط الأخرى للتديّن في حياة الفرد والجماعة، ويظن كثيرون أنها المعبّرةُ عن الدين لا سواها، وقلّما يتنبه من ينتقد الدينَ إلى وجود التديّن الأخلاقي لدى شخصياتٍ روحانيةٍ أخلاقيةٍ مُلهِمة.
إن أخطرَ ما يهدّدُ وجودَ الدين في المجتمع هو ضمورُ الحسِّ الأخلاقي في حياةِ الفرد المتديّن، واتخاذُ الدين وسيلةً للارتزاق، وتوظيفُه في صراعات السلطة والثروة، واستغلالُه كقناعٍ يُخفي الكثير من الممارساتِ اللاأخلاقيةَ والمواقفَ اللاإنسانية.