مقاربة إشكالات تعديلات مدونة الأسرة بالاجتهاد التنزيلي
أولا: سياق الموضوع
بعد الإعلان عن جملة من القضايا الأسرية المراد تعديلها، وتحويلها إلى قواعد عامة، تسري على الأسر المغربية، نتج عن ذلك ظهور طرفين متعارضين ومتناظرين، طرف ينوه بتلكم التعديلات ويتبناها، ويدافع عنها ويثمنها، ويعتبرها مكسبا حقوقيا، غير أن طرفا آخر يرى فيها وسيلة للتنفير من الزواج، وتحويل الأسرة من مؤسسة أساسها السكن والمودة والرحمة، إلى مقاولة أساسها المكايسة والمشاحاة.
ثانيا: إشكالية الموضوع:
إلى أي حد يمكن القول بإمكانية تجاوز إشكالات تعديلات مدونة الأسرة المغربية بالاجتهاد التنزيلي؟
ثالثا: مفهوم الاجتهاد التنزيلي:
فالاجتهاد من الجهد وهو المشقة، وأما من الناحية الاصطلاحية حسب هذا السياق، فيمكن أن أعرفه بالقول: بذل الوسع لانتزاع المناطات الواقعة والمتوقعة وتنزيل القواعد القانونية عليها. وذلك لأن تعديلات مدونة الأسرة ينبغي أن تستوعب الواقع والمتوقع عند الصياغة، لتجاوز الإشكالات الراهنة والمتوقعة، ولا يتوصل إلى ذلك إلا بنوعين من الفهم:
الأول: فهم الإشكالات التي طرحها العمل القضائي منذ صدور مدونة الأسرة إلى إخضاعها للتعديل.
الثاني: فهم الأسباب الرئيسية الداعية إلى تعديل مدونة الأسرة، والتمكن من القدرة على اقتناص القواعد القانونية منها.
رابعا: إشكالات وحلول
– الإشكال الأول: عدم فهم الطبيعة المعرفية للقضايا الأسرية، لترددها بين العبادات والمعاملات، لأن فيها شبها بالعبادات، وشبها بالمعاملات، وهو ما جعل المذاهب مختلفة في تبويبها وترتيبها، إذ رتبها البعض بعد المعاملات، فاقتضى ذلك قياسها عليها، لأن تقديم المعاملات من باب تقديم الأصل على الفرع، إلا أن ترتيب المالكية باب الأنكحة بعد العبادات يبين تغليبهم شبهها بالعبادات، وهو مبدأ أصيل عند المالكية يستلزم ملاحظته عند صياغة مواد مدونة الأسرة، كما لا ينبغي تجاهل شبهها بالمعاملات لقربها إليها باعتبارها فاصلا بين العبادات والمعاملات، وهذا المبدأ تنزيلي.
–الإشكال الثاني: عدم التمييز بين المناطات العامة والخاصة، وقد أدى هذا الإشكال إلى فصل المرجعية الفقهية والجانب التعبدي عن القضايا الأسرية، بتحويل المناطات الخاصة إلى عامة، والعامة إلى خاصة، وذلك أشبه بمن ينقل النكاح من دائرة الندب، إلى دائرة الحرام في الوضع العادي، ومن دائرة الحرام، إلى الندب في الحالات الاستثنائية كوجود مرض معد، هذا من باب البيان، وأما من باب التمثيل فيمكن إيراد ما يلي:
–المثال الأول: مسألة النفقة التي طالها النقاش العمومي، حيث تم الاستدلال بنفقة بعض النساء على أسرهن على ضرورة تحكيم هذا المبدأ الإحساني غير الملزم قانونيا وفقهيا في مواد مدونة الأسرة كلها، باعتبار النفقة مناط القضايا الأسرية، بما في ذلك قضايا الإرث وغيره.
-المثال الثاني: مسألة العمل المنزلي، فقد يبدو في الوهلة الأولى اندراج هذه المسألة تحت عرف “تمزالت الأمازيغي” الذي عبر عنه الفقهاء بالكد والسعاية، إلا أنه في حقيقة الأمر إلغاء لهذا العرف وإبطال له، لأن العمل المنزلي أعم من عرف “تمزالت” من جهة، وأخص من جهة أخرى، فأما وجه عمومه فمن جهة إطلاق العمل، بينما عرف “تمزالت” قيد ذلك بالسعي والجري المصاحب للمشقة المعتبرة، وأما وجه خصوصه، فناشئ عن تعليقه بعمل المرأة المتزوجة، مع أنه عرفيا منوط بالمرأة عموما، زوجة كانت، أو أما، أو أختا، أو بنتا، وهذا التخصيص من دون حدود وضوابط موجهة للعمل القضائي من باب نقل العرف العام إلى خاص ، وقد يؤدي إلى إقصاء وهضم حقوق أطراف أخرى تساهم في هذا العمل المنزلي، أو تنفرد به ، وبرهان ذلك الواقع ، لوجود الحالات الآتية:
الحالة الأولى: انفراد المرأة المتزوجة بالعمل المنزلي، وغالبا ما نجد هذا في الأسر النووية، المكونة من الزوج والزوجة، أو المكونة أيضا من الأبناء الصغار، أو الذكور الكبار دون الإناث، أما عند وجود البنت فقد تشارك أمها في هذا العمل المنزلي.
الحالة الثانية: تعاون الأمهات، والأخوات، والزوجات على العمل المنزلي، وغالبا ما يكون هذا في الأسر الممتدة، وقد يكون عمل طرف أغلب من الآخر.
الحالة الثالثة: قيام الرجل مقام زوجته في أداء هذا العمل، إما إحسانا، أو اقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم الذي يكون في مهنة أهله، وقد يكون ذلك للحاجة التي تنزل منزلة الضرورة، كمرض الزوجة، أو عملها خارج المنزل، فيؤدي الرجل حينئذ عملين: العمل خارج البيت لتوفير النفقة الملزمة، والعمل المنزلي، وهذه أهم الحالات على وجه الإجمال والتمثيل، لا على وجه الحصر والتفصيل.
وعليه فماذا لو تم إقرار العمل للزوجة دون غيرها، هل سيكون إلزامها كإلزام الزوج بالنفقة؟ وماذا لو لم تؤد الزوجة هذا العمل؟ هل سيكون إسناد هذا العمل لها قانونيا موضوعا للتقاضي؟ وما هي وسائل إثباته؟
ولتجاوز هذا الإشكالات يمكن اعتماد مقاربة الاجتهاد التنزيلي في صياغة مواد مدونة الأسرية، وذلك ببذل الوسع للتمييز بين المناطات العامة، والمناطات الخاصة. فتصاغ كل مادة بمبدأ المناط العام والخاص، وفق المدرسة الفقهية المغربية، والأعراف المحلية، والتحولات الاجتماعية، غير أن المناطات الخاصة، لا ينبغي أن تعود على مناطاتها العامة بالإبطال، لأنها خادمة، ولأن الحقائق الشرعية لا تتغير بتغير الزمان والمكان والأحوال.
الإشكال الثالث: عدم مراعاة الخصوصيات والضمائم والتقييدات التي تحتف بالوقائع، في صياغة مواد مدونة الأسرة، مع أن قضايا الأسرة في حاجة ماسة إلى قواعد قانونية مرنة، تستمد مشروعيتها من النصوص والمرجعيات، إلى جانب استمداد روحها من محلاتها التي تتنزل عليها، وهو أصل يستمد قوته من تصرفات الشارع، فلا وجود لنازلة دون مبدأ عام يراعى فيه الوضع العادي، ومبدأ خاص يراعى فيه الوضع الاستثنائي، فما تقرير الشارع للعزائم والرخص إلا مظهر من مظاهر ملاحظته للظروف والأحوال العادية، والاستثنائية، وهو مبدأ شرعي قائم على العدل والمساواة، وتشتد الحاجة إلى هذا الأصل وتطبيقه عند تزاحم الحقوق، ومجال الأسرة مورد هذا التزاحم، لأن فيه حقوق الله، وحقوق العباد، وهي نفسها مورد التزاحم، لتركبها من حقوق الأصول، والفروع ، والزوج، والزوجة ، والورثة، وإذا تحقق هذا الأمر، فإن تنزيل القاعدة الأسرية العامة القانونية والمجردة على كل حالة، دون مراعاة الضمائم والتقييدات، مظهر من مظاهر الجور والظلم. فإذا تقرر هذا المبدأ تأصيلا وتطبيقا، فينبغي تعميمه على كل مادة أسرية، بدءا بالخطبة إلى مقتضيات المادة ٤٠٠ من المدونة التي أحالت مالم يرد في المدونة على المذهب المالكي، فلو تأملنا القضايا الأسرية المطروحة للنقاش العمومي سنجد الإشكال فيها عائدا إلى عدم مراعاة هذا الأصل التنزيلي، ويمكن التمثيل لذلك بما يلي:
-المثال الأول: مسائل الطلاق، تم إفراغها من جانبها التعبدي، مع أن هذا البعد ينبغي استثماره في تحقيق التماسك الأسري، لأن الدين وسيلة من وسائل ضبط المجتمعات، كما أنها مفتقرة إلى تقييدات وضوابط يراعى الأطفال، والمرأة، والرجل، ولا يتحقق ذلك إلا بإخضاع موادها عند الصياغة لمبدأ الاجتهاد التنزيلي الذي يقتنص الضمائم من الإضافات والنوازل السابقة فيصوغها في مناطات خاصة تصلح لأن تكون مرجعا للمهتمين بصياغة القواعد القانونية، وذلك لتوجيه العمل القضائي لدراسة كل حالة على حدة، يراعى فيها سبب الطلاق، نظرا في المآل، وسدا للذريعة أمام التلاعب بالأسرة، وحقوق الأطفال، ويكون ذلك بمراعاة ظروف وملابسات الطلاق وأسبابه، والجهة المتعسفة في تفكيك الأسرة، لمعاملتها بنقيض القصد، إعمالا للقواعد الفقهية، وسعيا لتحقيق التماسك الأسري، فيؤخذ هذا الجانب في تقرير المبالغ المالية عند الطلاق، وتحديد المتعة، وإسناد الحضانة، حتى لا يكون ذلك ذريعة لاستقواء طرف على طرف بما يخوله له القانون من المميزات.
–المثال الثاني: مسألة الحضانة، وهي من أهم المسائل التي تقتضي العناية والضبط، لارتباطها بطرف ضعيف، وهو الطفل، مما يستلزم تحديد المبدأ والغاية، فأما المبدأ فهو المصلحة الفضلى للطفل، وينبغي نقل هذا المفهوم من حيز التخفي إلى التجلي، ومن الإجمال إلى البيان، ومن الاحتمال إلى اليقين، وأما الغاية فهي رعاية الطفل رعاية سليمة، وتنشئته تنشئة اجتماعية صالحة، بالإشباع العاطفي من الأبوين معا عند الانفصال، وتشتد الحاجة أكثر إلى الوضوح والتقدير والافتراض، عند إسناد الحضانة لأم متزوجة، ويكون ذلك بتحديد حال الزوج، وظروفه، وسكنه، وأولاده إن وجدوا، وسنهم، وحال الأسرة اجتماعيا وصحيا ونفسيا، كما يعد من الضروري أيضا مراعاة حال ذلك الطفل، وجنسه ونفسيته وصحته. وهذا كله يتوقف على توسيع دائرة المتدخلين المختصين في القضايا الأسرية، وتأهيلهم، للقيام بتمهيد السبل والطرق للجهات المختصة في البت والتنفيذ والتنزيل السليم لمواد مدونة الأسرة، حتى يكون هناك جمع بين تنزيل المادة من جهة، ومصادفة معناها لمحلاتها، وليقس ما لم يقل من الأمثلة الأخرى.
خامسا: خلاصة واستنتاج
إن كثيرا من المسائل التي خالفت فيها المدونة المذهب المالكي لو عولجت بمقاربة الاجتهاد التنزيلي، لترتب عن ذلك تحقيق الموافقات والتقارب بين المرجعيات التي تواردت على مدونة الأسرة، إلا أن هذا الأمر لا يتحقق إلا إذا كان عقل القاضي مثل عقل الفيزيائي الذي يقرر مبدأ أن الأصل في الأشياء الثابتة السكون، وأن الأصل في الأشياء المتحركة الحركة، غير أن القوى الخارجية قد تحرك الساكن أو توقف المتحرك، أو تغير مساره، وهو مبدأ تنزيلي بامتياز.