مساءلة الفلسفة عربيا: نحو فلسفة اجتماعية
لم يعد الحديث عن الفلسفة اليوم يقتضي منا الدفاع عن أهميتها وضرورتها الابستيمية، بقدر ما نحتاج أولا معرفة أي فلسفة ندعو إليها في وقتنا الحالي. من الجدير التذكير بمسألة أعتبرها جوهرية في هذا المقام، وهي لا تخرج عن كون الفلسفة ما تبرح لدى البعض إذا ما قلنا الكثيرين، منحصرة في فلسفة اليونان وعصر الأنوار، أو في حقبة بعينها دون غيرها. مثلما هنالك من أهل الاختصاص من يزال فكره يتطلع إلى قراءة الواقع من منظور فلسفة العصر الوسيط. لعل السؤال عن دور الفلسفة في يومها العالمي إبان عصر يوصف ب “العلمية”، لهو في نظري اعتراف بقصور الفاعلين في مباحثها، حيث العجز عن إعمال التفكير في صيرورة الواقع، بات أمرا يبعث على نكوص العقل وتقهقر سيرورة تطور الفكر الفلسفي، خاصة منه العربي.
يمكننا القول إننا أمام أزمة لا نكف عن رؤية تجلياتها العديدة غير المرغوبة. تعد تعبيرا عن العجز، ليس فقط عن إعمال التفكير في صيرورة الواقع وحسب، وإنما عن استخدام العقل أيضا. في الوقت الذي نحتاج فيه إلى تحرير الأخير من الوصاية التي أضحت دعائمها جزءا من الموروث الفلسفي نفسه؛ على أن التنوير لا ينحصر مفهومه في الجرأة على استخدام العقل من خلال العودة دائما وبصورة متواصلة إلى نصوص كان يراد لها أن تكون تنويرية، لأن هذه النصوص ذاتها استحالت بفعل العودة المتكررة دون التطلع إلى تجاوزها، إلى نصوص تعيد إنتاج نفسها في حلقة دائرة محكمة الإغلاق، ففقدت بذلك نجاعتها وفعاليتها التنويرية جراء المعاودة العقيمة. ويعتبر هذا جانبا من تجليات أزمة الفلسفة في السياق العربي، على أن تكون هناك إرادة قوية لمغالبتها. لئن أضحت الأزمة تشكل بلغة إدغار موران أداة من أدوات مقاربة الظواهر بغرض تشخيص أبعادها المختلفة؛ فلم تعد عرضا مرضيا، بقدر ما تحولت، انطلاقا من ارتباطها بالنسق العام للمجتمع والفكر، إلى مسألة حيوية، بل مسألة موضوعية يلزمنا التعايش معها[1].
لا ينبغي أن يُفهم من قولنا، أننا أمام دعوة للرفض المطلق العودة إلى تاريخ الفلسفة؛ ما استيعاب مبادئ التفكير الفلسفي ودعائمه إلا باستيعاب أسسه النقدية التي تستدعي لا محال مرجعية فلسفية يؤطرها تاريخ الفلسفة نفسه. لكن من غير أن يغدو التاريخ العقبة التي تحول أمامها دون تحقيق الازدهار المرجو. في الحالة الأخيرة نستطيع اعتبار تاريخ الفلسفة ضرورة وعقبة في آن واحد؛ ما دمنا لم نستطع نزع النظرة الموضوعية والمطلقية إزاء التاريخ الفلسفي؛ بوصفها تؤول إلى تراجع وتكلس فكري؛ عليها يكون أي إفراط في التاريخ مضرا بالفلسفة في علاقتها بالراهن.
يفيد هذا من جهة ثانية، أن التقليد كنمط فكري يتسع ليطال نطاق حدوده حتى المهتمون بالفلسفة، ومنهم دعاة الحداثة أنفسهم. يختلف نمط التقليد ها هنا عن أنماطه الأخرى في الفكر العربي الحديث والمعاصر. يكاد التقليد بهذا الصدد يكون مماثلا لما أسماه نيتشه ب “التاريخ الأثري،”[2] الذي يستدل من الماضي شخصياته العظمى مثلما نستدل نحن اليوم من فلاسفته الكبار بوصفهم أبطالا ومصدر إلهام للفلسفة. في الوقت الذي يستحيل الماضي، في “التاريخ العادياتي”[3] بلغة نيتشه، والذي يتراءى في الفكر العربي المعاصر بشكل جلي، إلى مصدر الأصل والوحدة التي تحفظ هوية الجماعة.
ليس معلوما إن كان ثمة وعي وإدراك حقيقي بالهوة العميقة، التي بين الفلسفة اليوم والعلوم الاجتماعية من جهة الموضوعات والقضايا المطروحة والمتناولة. لكن، يظل من المشروع أن ننقد تقوقع الفلسفة وانطوائيتها على نفسها، الذي لم يعد اليوم مطلوبا البتة، لا سيما في تشخيص ديناميات الواقع وانعكاساتها على الذات الفردية وسؤال الهوية، وإلا فإن الفلسفة ستظل رهينة ومحكومة بتصورات ميتافيزيقية، لا تمت للواقع الاجتماعي والقضايا الراهنة بصلة.
أما إذا بقي الحال مستكينا رغم وجود الوعي بالهوة والفجوة، فإن الأزمة ستصبح ليس فقط عرضا مرضيا، خلافا لتصور إدغار موران، وإنما باثولوجية تتطلب بالضرورة تشخيصا عميقا تسمح معطياته بتحقيق نقد شامل للتطورات –سلبية كانت أم إيجابية-في جريانها الفعلي، في داخل سيرورة المجتمع والتاريخ والفكر بغية القفز والتخطي. لا يبعد قولنا هذا عما جاء على لسان أدورنو في مقالته “ما الحاجة إلى الفلسفة بعد؟” إذ إن الفكر الذي يتوجه صراحة نحو الأشياء ويواكب تطور المعرفة، متحررا إزاء هذه الأشياء على نحو لا يسمح فيه للمعرفة المنظمة أن تملي عليه قواعد وقوانين. فإنه يدير جوهر الخبرة المتراكمة فيه نحو الأشياء، ويمزق الحجاب الاجتماعي الذي يخفيها، ويراها من جديد. إذا استطاعت الفلسفة تخليص نفسها من الخوف الذي ينشره إرهاب الاتجاهات المسيطرة – الخوف الأنطولوجي من التفكير في أي شيء ملوث، والخوف العملي من التفكير في أي شيء غير مرتبط بجسم الموجودات العلمية المعترف بصلاحيتها مسبقا – عندئذ يمكن أن تكون في وضع يمكنها من معرفة ما منعها منه ذلك الخوف، وما كان يهدف إليه فعليا الوعي غير المشوه. ذلك أن التغيير الحقيقي في الوعي الفلسفي لا يمكنه أن ينجز إلا من خلال التواصل الجدلي الأكثر صرامة مع المحاولات الأكثر حداثة لحل مشكلات الفلسفة والمفاهيم الفلسفية[4].
من هنا، لا بد من التذكير أن التفكير في وضع الفلسفة المأزوم، في السياق العربي، لا يعارض في نظري التفكير في الوقائع والظواهر الاجتماعية؛ لأنه البديل الفلسفي عن أي ميتافيزيقا لا تعكس حقيقة أزمة الوقائع والظواهر المعيشة بمختلف مستوياتها المجتمعية، والاقتصادية، والسياسية، والنفسية، التي لم يعد من المقبول أبدا التغاضي عنها. فلا يوجد أي انفصال حقيقي ولا قطيعة ثابتة، لطالما إمكانية العبور للتخصصات والرفد بمعطياتها تبقى غير مستحيلة. بل لعله العبور الكفيل بتحرير الفلسفة من سجنها وإخراجها من أزمتها، وتوسيع أفقها الضيق الذي ما كان ليكون كذلك لولا الانغلاق الزائد في عصر الانفتاح. إذ يؤدي إغفال دور التخصصات الأخرى إلى بناء مقاربات فلسفية نقدية وتحليلية أحادية، علاوة على نشوء نوع من الغرور الفلسفي الذي يشرع التعالي، مغفلا أهمية الانفتاح والعناية بجذور القضايا المطروحة وأصولها في المجتمع العربي بشكل مخصوص. المقصود هو خلق مساحة خاصة للفلسفة بين ما يعتبر تجريدات غير مجدية للفلسفة الكلاسيكية، واللاصلة أو ارتباط للتوصيفات المعيارية العلمية والاجتماعية التجريبية للواقع، مثلما يبرز جون ديوي[5]. والعمل على تطهير المثالية من كل كثرة تأملية، وجعلها تتناسب مع حجم الواقع الذي يمكن بلوغه. وهو ما يعني نزع كل الزخارف المثالية التي ترفع التجريدات إلى كيانات مستقلة، لطالما جميع الفلسفات المقيدة، يعني كل فلسفة ليست مفتوحة بشكل مباشر على تجربة الواقع، تتحول إلى مثالية فلسفية، أي إلى فلسفة تقليدية، إلى الفلسفة الكلاسيكية الأولى.
على أن التغيير الممكن، لا يمكنه أن يتحقق إلا إذا أضحت الفلسفة فلسفة محايثة Immanent ، تعمد إلى تطعيم مرتكزاتها بنتائج العلوم الاجتماعية سعيا لمقاربة الواقع الاجتماعي مقاربة نقدية لا ترضى في نهاية المطاف الابتعاد أو الانسلاخ عن الواقع المعنى بالنقد. أي إلى فلسفة اجتماعية Social philosophy لا تخضع الواقع تحت منظور تأملي مجرد، ولا تعزل نفسها عن السياق الاجتماعي الذي يحيا فيه الأفراد. مما يتيح إمكانية نقد وتجاوز حتى تلك المنجزات الاجتماعية الامبريقية نفسها، في أفق إرساء أسس جديدة تفسح المجال لاقرار ديناميكا فلسفية، تجعل من تحقيق التطور المرغوب ممكنا.
كان حريا بنا في مثل هذه المناسبة، احتفاء باليوم العالمي للفلسفة، أن نحتفي بتراكم إسهاماتنا الفلسفية من جهة قدرتها على نقد الواقع الراهن وتشخيصه ومن تم الكشف عن مفارقاته كوضعيات أنطولوجية منتجة لمعايير قيمية أضحت محركة للعصر. لطالما آلت الاسهامات التي تعيد إنتاج نفسها على نحو مضطرد، فقط باختلاف أسماء المؤلفين، إلى عود على بدء؛ لهو سؤال البداية الذي يعاد ويعيد إنتاج ذاته بشكل متواصل “ما دور الفلسفة اليوم؟” إن سؤال المهمة هذا، قد أصبح بحكم تكراره مبتذل. لمن الغرابة بمكان أن يظل وضع الفلسفة، في سياقنا تحديدا، على حاله منذ زمن. أ وَمن يدري؟ لربما تشكل مقاومة مظاهر أزمة الفلسفة هذه، وتداعياتها على العقل الفلسفي العربي، الصيغة المواتية لتصالح يمكننا من بناء فلسفة بصورة أكثر فاعلية وفعالية. وإن كانت الفاعلية الحقيقية في نظري ترتبط، من جهة أخرى بقوة المواقف الفلسفية وصلابتها.
لا يراد للفاعلية التي أتحدث عنها في هذا المقام، أن تدخل في إطار جر الكلام ومجاراته أو ضمن محاكاة لإسهامات لا تعدو أن تكون في الواقع، مجرد كلام كتب عن كتب أو مرويات عن مرويات أخرى، أو تفسيرات لتفسيرات أخرى سابقة وأخرى لاحقة عنها. فمع تراكم الانتاجات الفلسفية التي نشهدها، والتي لا تزيدنا إلا بعدا وابتعادا عن التطور الإيجابي المنشود، تؤول كلها إلى استنتاج، لمن يريد أن يخلص ويستنتج، علاوة على ما سبق، هو غياب المواقف الحقيقية.
لم يكن للفلاسفة والمفكرين، المثقفون ومن بُصمت علامتهم أبديا في الساحة الثقافية، أن يكونوا لولا مواقفهم الجذرية حيال ما يرونه ويعيشونه: مواقف صلبة ومتينة وغير مهترئة، يؤسسون لها ويتأسس عليها مشروعهم الفكري أو الفلسفي بالكامل. يبدو أن جو التنافسية على الامتيازات المادية والمغرية التي تعرض اليوم في الأوساط الثقافية والأكاديمية هو ما يعزز ويحفز، بل ويقوي دعائم الزيف عندنا. فترى الكثير يكتب عن أمور لا يؤمن بها حقا؛ فكم من واحد يدعو إلى الديمقراطية أو الحداثة أو رفع أي تمييز جندري يعوق النهوض بوضعية المرأة، فشل أن يكون ديمقراطيا أو حداثيا…أو…نسويا بالفعل. إذ إن مطلب الحداثة أو أي مطلب آخر مشابه، هو مشروع ربحي ليس إلا؛ يعتبر الأداة التي يتوق بها إلى تحقيق الرفاه المادي والاعتراف الأيديولوجي كعملية قائمة على الزيف تروم تثبيت الوضع القائم والتماثل معه.
ليس المطلوب سوى الاسهام الفعلي بصدق وأمانة بموقف حقيقي لا يسقطنا في القصور وازدواجية الخطاب والمعايير، أو في شرخ بين النظري والتطبيقي، أو لنقل مفارقة على المستوى الممارساتي: سواء أ كانت ممارسة فلسفية، أو سياسية، أو اقتصادية…أو اجتماعية… رغم أن مجموع هاته الممارسات لا يخرج على كل حال عن حدود الاجتماعي بمفهومه الفضفاض.
وبالرغم مما قلناه بهذا الصدد، وفي هذه المناسبة، يظهر لي أن ممثلي الفلسفة وأنا منهم، لم يُجمعوا أو يتوافقوا على تشخيص العلة التي شلت ديناميكية تطور الفلسفة في السياق العربي، في سبيل وصف الدواء الناجع لمرض حالها العضال.
—————————————————————————
[1] Edgar Morin, « pour une crisologie, » communication, no. 25 )1976(, p. 149.
[2] فريدريك نيتشه، محاسن التاريخ ومساوئه، ترجمة رشيد بوطيب، الطبعة الأولى (الدوحة قطر: منتدى العلاقات العربية، 2019)، ص 7.
[3] نفسه، ص 7.
[4] رولف فيغرسهاوس، مدرسة فرانكفورت تاريخها وتطورها النظري وأهميتها السياسية، ترجمة عصام سليمان، غانم هنا، الطبعة الأولى ( بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2022)، ص 738.
[5] Roberto Frega, “Jonh Dewey’s Social Philosophy,” European Journal of Pragmatism and American Philosophy, vol. 7, no. 2, )2015( , p.6.