في وداع جودت سعيد: منظر المقاومة المدنية السلمية في الفكر الاسلامي المعاصر.(1)
نشرت في سنة 2012، دراسة بعنوان: الأصول الفكرية والعملية للربيع العربي، ودراسة أخرى سنة 2013 بعنوان: أطروحة المقاومة المدنية السلمية: جين شارب نموذجا. وقد نشرتا في أكثر من صحيفة ومجلة حينذاك. ومما قلته في إحدى فقرات الدراسة مايلي: ” تنطلق نظرية القوة غير العنيفة من أن عوامل القوة التي تمتلكها المجموعة الحاكمة ليست نابعة من ذاتها، وإنما ٱتية من خارجها؛ فعوامل قوة الحكومة الظاهرة تستمدها من المجتمع الذي تحكمه والقائمة من تفاعل السلطة، من حيث الشرعية والموارد البشرية الطائعة للحكومة، مع المهارات لتوفير احتياجات الحكم والحكومة.
أما العوامل غير الظاهرة، فتتمثل في العمولة الأيديولوجية والنفسية؛ كعادات الطاعة والخضوع، ووجود عقيدة أيديولوجية عامة موالية للحاكم. وأما الموارد المالية فتتجسد في العوامل الطبيعية والاقتصادية، ووسائل الاتصالات والنقل التي تحتكرها الحكومة. وكذا نمط العقوبات ( القانون)، للضغط الذي تمارسه الحكومة على رعاياها. وقد لاتتوفر هذه الأدوات مجتمعة لدى المجموعة الحاكمة؛ لذا فهي تختلف وجودا ونقصانا وعدما.” وكنت حينها أحلل أطروحة جين شارب في ( المقاومة المدنية)، أو ( السلمية)، أو ( غير العنيفة)؛ إذ يؤسس جين شارب متنه الفكري على مجموعة من المفاهيم التفسيرية، مثل: ( الطاعة الاجتماعية والسياسية)، و( التعاون الاجتماعي والسياسي)، و( حجب العواطف)، وغيرها؛ إذ تعتمد الحكومة، بنظره، على طاعة المحكومين، وعلى تعاونهم، وعلى تعاطفهم. وأي خلل في هذه الطاعة يترتب عنه تحلل في بنية قوة الحاكم، إلى درجة فقدان السلطة، وفقدان السيطرة على زمام الأمور. كما ذكرت في الإحالة رقم1 للدراسة، للتعريف بجين شارب GENE Elmer SHARP، ( 2018-1928)، أنه مفكر أكاديمي أمريكي، وباحث اجتماعي. أستاذ العلوم السياسية في جامعة ماساشوسيتسMassachusetts Dartmouth. حاصل على الدكتوراه في ( النظرية السياسية) من جامعة أكسفوردUniversity of Oxford سنة 1968. وقد اعتبرت أفكاره مرجعية لحركات النضال الشعبي السلمي في العالم، في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين.
أنشأ جين شارب (معهد ألبرت أينشتاين) سنة 1983، وهو منظمة غير ربحية متخصصة في دراسة العمل السلمي وتعزيزه كوسيلة للحصول على الحقوق والتخلص من الظلم عبر العالم. ومما كتبته حينها أيضا: ” استمد جين شارب أطروحته في الحراك السلمي من حركة المهاتما غاندي( 1869-1948). اشتهر بموسوعته الفكرية التي تحمل كتبها عناوين دالة؛ مثل: ( سياسة الحراك السلمي)، منذ 1973. وكتب: ( من الديكتاتورية إلى الديمقراطية: إطار تصوري)، و( البدائل الحقيقية)، و( عدم التعاون الاقتصادي)، و( عدم التعاون الاجتماعي والسياسي)، و ( المقاومة اللاعنفية: دراسة في النضال بوسائل اللاعنف)، و( العصيان المدني)، و( أعمال الاحتجاج والإقناع)، و( أشكال التدخل المباشر). وكلها كتب عبارة عن تطوير وتعميق لأطروحته الأكاديمية التي كتبها سنة 1968. وهي أطروحة تقوم على أن نيل الحقوق والتخلص من الديكتاتورية لا يحصل، بفعالية، إلا بعدم طاعة الديكتاتور، وعدم التعامل معه، ومواجهته بشكل سلمي، ومن دون استعمال العنف. ومن خلال البحث في أصول فكر جين شارب، وفي سياقه التاريخي، وجدت ٱثارا لأفكار الشاعر والقانوني الفرنسي Étienne de la Boitié، (1530-1563)، في كتابه: “خطاب العبودية المختارة”، Discours de la servitude volontaire. كما أنه يتقاطع مع أطروحة المفكر الإسلامي جودت سعيد( 1931-2022)، رحمه الله، وقد فقدناه بالأمس. فقد بلور جين شارب أطروحته في ( المقاومة المدنية السلمية) نهاية الستينات، 1968، وكان جودت سعيد، رحمه الله، قد كتب كتابه التأسيسي لأطروحة اللاعنف أواسط الستينات، في كتابه: ( مذهب ابن ٱدم الأول: مشكلة العنف في العمل الاسلامي)
وأميل إلى أن أطروحة المقاومة المدنية السلمية، من حيث أصولها التطبيقية والنظرية والحركية قد نشأت من خلال جهود المهاتما غاندي وجودت سعيد وجين شارب، ولكل متن من متون أولئك الثلاثة، سياقه الخاص ودوافعه الذاتية، لكنهم يشتركون في أن المقاومة المدنية السلمية هي المناسبة للإنسان لاسترجاع الحق ودفع الظلم، وأن العنف حالة بدائية لاتحق حقا ولاتزهق باطلا إلا وهما وبشكل مؤقت.
لم يعرف جودت سعيد كما عرف غاندي وجين شارب، لأنه كان يعيش حياة فطرية( وبدائية) في قريته في ( بئر عجم)، حياة الفلاح السوري البسيط. ثم إن أطروحته كان قد كتبها في محيط سوري وإقليمي وعربي لاتسمع فيه إلا دقات طبول الحرب، وكان العنف السياسي، ومازال، هو العملة الرائجة بين الدولة وبين خصومها السياسيين.
عندما اطلعت على بعض كتب جودت سعيد، خصوصا: ( مذهب ابن ٱدم الأول: أومشكلة العنف في العمل الاسلامي)، و(إقرأ وربك الأكرم)، و( حتى يغيروا ما بأنفسهم)، في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، وجدت فكرا مضادا لكل الحماسة التي كانت تملؤني حينها، ووجدته يقتل في داخلي مجموعة من أحلامي يومها، ولا أخفي أنني تبرمت من قراءته وابتعدت عنه شهورا، ولكنه شدني إليه شدا، وأغواني بالعودة إليه، لظروف سيأتي ذكرها في مناسبات أخرى. فبدأت أبحث عن الرجل؛ عن سيرته، وعن كتبه، وعن معارفه، وعن مدرسته، وعن تلامذته. بل ذهبت إلى الشام لأزوره، ووجدته مسافرا خارج سوريا، وبقيت هناك في دمشق أياما أنتظر عودته، لكن من دون جدوى. فلم يتيسر لي اللقاء به إلا مرة واحدة في الرباط، في لقاء عابر، وفي سياق خاص.
فما معنى أن يكون جودت سعيد، رحمه الله، منظرا للمقاومة المدنية السلمية؟