فلسفة الدين عند عبد الجبار الرفاعي
عندما كنت أكتب بحثي عن “العقل والإيمان في العصر الجديد”، تتبعت الأعمال المكتوبة باللغة العربية حول هذا الموضوع، فوجدت أن معظم هذه الأعمال كانت ذات طبيعة کلامیة وليس فلسفية. الكُتّاب العرب تناولوا هذه القضية بشكل أساسي برؤية کلامیة، بينما كان تفسيري لها ذو طبيعة فلسفية. في هذا السياق، قرأت أعمال الدكتور عبد الجبار الرفاعي، فرأيته يتناول هذه القضية بشكل أساسي من منظور فلسفة الدين. إسهامات الرفاعي أضافت بعدًا فلسفيًا قيمًا للموضوع، حيث لم يكتفِ بالتطرق إلى الأبعاد الکلامیة فحسب، بل عمق النظر في الأسس الفلسفية لتحليل الظاهرة الدينية وبيان الصلة بين العقل والإيمان. تظهر الرؤية الفلسفية في مؤلفات الرفاعي عن الدين في تعريفه للدين باعتباره “حاجة وجودية” كما يعبر عنه، وفي عناوين كتبه عن الدين، التي ورد فيها مصطلح الأنطولوجيا الفلسفية، كما في “الدين والظمأ الأنطولوجي”، وفي مصطلح الاغتراب الميتافيزيقي الفلسفي في كتابه: “الدين الاغتراب الميتافيزيقي”، وكثرة استعماله للتفسير الأنطولوجي الوجودي الفلسفي للدين، حتى عندما تحدث عن الكرامة في كتابه: “الدين والكرامة الإنسانية” وصف “الكرامة بقوله “مقام وجودي” منحه الله للإنسان عند خلقه، لذلك لا يمكن تجريده منها، ومصطلح “مقام وجودي” فلسفي، وهكذا فسّر الرفاعي الوحيَ بوصفه “طورًا وجوديًا يتسامى إليه النبي. الوحيُ حقيقةٌ أصيلة تعكس تكاملًا في وجود مَنْ يتلقاه، وتكشف عن صلة وجودية استثنائية للنبي بالله”.
الدكتور عبد الجبار الرفاعي هو أحد الاستثناءات النادرة، حيث يتركز فكره على علم الكلام الجديد والتجديد الفلسفي للدين بشكل أساسي. يعتمد الرفاعي على البعد الفلسفي للحداثة الدينية، الذي واصل العمل على اشاعته في العالم العربي منذ أكثر من 30 سنة، من خلال مؤلفاته في فلسفة الدين وعلم الكلام الجديد، ومجلته قضايا إسلامية معاصرة التي أصدرها منذ نحو 30 سنة، وصدر منها 80 عددًا مرجعيًا في فلسفة الدين وعلم الكلام الجديد. عبد الجبار الرفاعي لبث سنوات طويلة في حوزة قم بعد انتقاله إليها من حوزة النجف، وتعلم اللغة الفارسية، مما أضاف أبعادًا جديدة لتكوينه الفلسفي. الرفاعي يعتبر جسراً يختصر المسافة الناجمة عن الاختلاف اللغوي بين خطاب الحداثة الدينية في العالم العربي والحداثة الدينية في إيران. أصدر الرفاعي في فلسفة الدين وعلم الكلام الجديد عدة مؤلفات، وهي: “الدين والظمأ الأنطولوجي” و”الدين والاغتراب الميتافيزيقي” و”مقدمة في علم الكلام الجديد” و”الدين والكرامة الإنسانية” و”الدين والنزعة الإنسانية” و “مفارقات وأضداد في توظيف الدين والتراث”، وتصدر في هذه السنة 2024 موسوعة فلسفة الدين في 8 أجزاء من إعداده وتحريره. وعلى الرغم من ذلك، لم تحظ أعماله بالاعتراف الكافي حتى الآن، وإن كان من المرجح أن يصبح منهجه الفلسفي مؤثراً في خطاب الحداثة الدينية في العالم العربي في المستقبل القريب.
في تأسيسه لمشروعه للتجديد على فلسفة الدين يختلف عبد الجبار الرفاعي عن أكثر المفكرين الدينيين في العالم العربي. یقول الأستاذ مصطفی ملكيان: “إن منطلق الحداثة في إيران يقوم على انفصال الإنسان عن التراث، سواء في مقام الثبوت أو الإثبات. كلما زاد هذا الانفصال، أصبح الشخص أكثر حداثة. أما في العالم العربي، فالحداثة لا تقترن بالانفصال عن التراث، بل تعني قراءة جديدة ورواية جديدة له. المثقفون العرب يعيشون في برزخ بين العالم القديم والجديد، وينظرون إلى خلفيتهم الثقافية بمنظور جديد، بينما المثقفون في إيران انعزلوا تماماً عن التراث وتوجهوا نحو العالم الجديد. ربما ينبع هذا التمييز من كون تيار الحداثة في إيران – بما في ذلك الحداثة الدينية – ذا طابع فلسفي، مشابه للحداثة الأوروبية، في حين أن الحداثة في العالم العربي تعتمد بشكل رئيسي على العقل اللاهوتي وتُعتبر استمراراً للتراث العربي الإسلامي”[1].
كلام ملكيان في التمييز بين الاتجاه الحداثي في إيران والعالم العربي يحتاج إلى مزيد من التأمل، وذلك: أولاً وقبل كل شيء، فإن تيارات التجديد في العالم العربي وفي إيران المعاصرة عديدة ومتنوعة. وقد تحدث ملكيان نفسه عن أشكال التجديد المختلفة في إيران، مثل: الهايدجرية، والوضعية، والماركسية، والحداثة الدينية وغير ذلك. وهكذا توجد في العالم العربي مدارس فكرية مختلفة، مثل: اليساريين، والليبراليين، والقوميين وغيرها، مما يدل على تنوع الحركة الحداثية في العالم العربي. إن اتساع الوطن العربي، من المغرب إلی مصر ومن الشرق إلی الغرب، عامل آخر أدى إلى تنوع حركة التجديد فيه. ونظراً لتنوع وتعدد حركات التجديد في إيران والعالم العربي، يبدو أن إصدار حكم عام في هذا المجال أمر يحتاج إلى مزيد من التفكير. وبدلاً من ذلك، يبدو أن أسلوب التفکیک هو الأكثر ملاءمة في سياق الحقيقة، لأنه يتجنب إصدار حكم عام ويتم مقارنة کل من الاتجاهات الحديثة في إيران وفي العالم العربي بشكل منفصل.
ثانياً، كانت حركة التجديد في إيران بدایة، مثل العديد من البلدان الأخرى، مصحوبة بنوع من الشعور بالهزيمة الذاتية أمام الحضارة الغربية. واعتبر عدد من مفكري الجيل الأول في إيران، الحداثة سلعة تجارية غربية، وزعموا أنه إذا دخلت السلع والتكنولوجيا الغربية إلى إيران، فيمكن أيضًا استيراد القيم الحديثة مثل الفردية والحرية والحقوق الطبيعية وغيرها. وفي مقابل هذه المواجهة التي يمكن تفسيرها على أنها غربية متطرفة ومتجذرة في العقل المجرد الكانطي- الديكارتي، ظهر تيار آخر يعتبر كل ما يأتي من الغرب مرفوضاً واستعمارياً. في هذا الوسط، يمكن وضع تيار المثقفين الدينيين في الوسط، لأن هذه الحركة حاولت ایجاد التوافق بين التقليد والعالم الحديث، بحيث لا تنقطع عن التقليد الذي اعتبر الدين عنصره الأساسي، ولا تتجاهل الواقع الحديث.
بشكل عام، يمكن القول أن حركة المثقفين الدينيين في إيران أصبحت أكثر فلسفية منذ بداية ثمانينيات القرن الماضي، وقد ابتعد الجيل الجديد من المفكرين الدينيين فی إيران عن التراث أكثر من الماضي. ويكفي لإثبات هذا الادعاء الرجوع إلى مؤلفات محمد مجتهد شبستري، ومصطفي ملكيان، وعبد الكريم سروش، ولا سيما رؤيته الأخيرة للحقيقة والمنهج، والدكتور سروش دباغ[2]، والدكتور آرش نراقي.
في حين أن كبار مفكري الوطن العربي مثل: الدكتور حسن حنفي، والدكتور طه عبد الرحمن، والدكتور أبو يعرب المرزوقي، وغيرهم ما زالوا يقفون على أرض التقليد، ويحاولون إعادة فهم التراث الديني وانتاجه بلغة جديدة، يفكرون في التراث لإعادة بناء التراث. القراءة الفلسفية للدين ليست شائعة بين أكثر المفكرين العرب. من النادر أن نجد موضوعات في فلسفة اللغة، والفلسفة التحليلية، والتأويل الفلسفي المعاصر في خطاب الحداثة الدينية العربية.
[1] مصطفی ملکیان: جریانشناسی فرهنگی معاصر ایران، ص10-11، سال 1376-1377 ش/ 1999 – 2000 م.
[2] الدكتور سروش دباغ ابن دكتور عبدالكريم سروش.