سجن التشابه الظاهريّ: عقلنة وتنظيم اللغة عربيّا ولسانياً
اللغة ظاهرة حيّة طبيعية لانبعاثها من كائن حيّ طبيعي، وذا يقتضي تبعية المنبعث لما انبعث منه، وحمل صفاته، وأصله، من: الظهور الطبيعي، والحياة وما يلزمها من تغيّر وتبدّل، ومن هذه الفكرة انطلق “عبد السلام المسدّي” ليبين أن قيام النحو العربي ليس لمجرد الحاجة فقط، وما تتطلبه من تنظيم مؤسسي معرفيّ (سلطة معرفيّة)؛ يتسلط على الناس من الخارج، لعقلنته وتنظيمه، وحصر الناس في هذا النظام، بل “اللغة لم تكن قطّ في منظور الفكر العربي مؤسسة قسرية تتسلط على الفرد من عَلّ”[1]، إنما حاجة لوعي حفظ اللغة من سلطة الزمن، فهذا الحفظ المتقدم للغة يلحظ هذه التحولات الحيّة، ومآلات هذا التحوّل، فسار النحو العربي نحو محاولة الجمع والتنظيم والعقلنة للأبنية الداخلية، لكن غايته لم تكن عقلنة التظهير “العلماني” وفق دراسة الظواهر، لكشف أسرار الظواهر، وإنما كان امتثالاً لاقتضاءات خارجية تقاوم عوامل “الزمن”، وتسعى لاختراق سلطته، ومن ثم العملية التنظيميّة ليست هي القصد الأوّل، وإنما كبح جماح التغيّر، يقول: “قام النحو -لا مُنظّماً للغة أساساً- وإنما كابحاً لجموح التفاعل بين المؤسسة اللغوية وناموس الزمن الطبيعي. فحافز تنظيم اللغة في تاريخ الحضارة العربية هو عقائدي حضاري، فكان النحو في أصل نشأته امتثالاً دينياً مذهبيّاً أكثر ممّا كان تطلعاً من تطلعات الفكر نحو عَقْلنة الحدث اللساني”[2].
اختراق حاجز الزمن المغيّر للغة بالرؤية العربية فرقٌ أصلي، من ضمن الفروق التي ساقها د. المسدّيّ، للفصل بين من يريد جمع الظواهر اللغويّة ليسوّي بين الجهود العربية اللغوية العظيمة، والجهود الغربية اللسانية الحديثة؛ غير عابئ بالمنطلقات الفكرية، والمقتضيات الخارجيّة، والتحولات التاريخية، والأصول الفكرية العميقة المختلفة، ولو اتحدت وتشابهت بعض الظواهر؛ فيعمد للظاهر ويحبس فيه الظواهر، ويسوّي بينهما، وذا يفقده فائدة كل علم وجهد ورؤية، فيعميه عن أنّ اللغة العربية لغة وجود في ذاته لذاته، فـ “اللغة موجود في ذاته وأنّ حصر هويتها في نظام العِلل التي يتصوّرها النحويّ فيها إنما هو ضرْب من التعسّف عليها. ولذلك فإنّ اللغة تُؤخذ بذاتها ولذاتها، وهو ما ترمز إليه العبارة المأثورة “هكذا قالت العرب”. فليست اللغة سابقة لعَلْمَنتها وعقلنتها الفكر لها فحسب، بل إن اللغة هي وحدها صاحبة الوجود، وأمّا محاولة تنظيم الفكر لبنيتها ذلك مُواصفة عارِضة لا تعطي اللغة علتها، ولا تستطيع أن تغير من نظامها أو وجودها شيئاً”[3].
ويضيف، من ضمن الفروق، أن النحو في تاريخ الحضارة العربيّة موقف من خصائص اللغة الملازمة لها، تحت نير “الزمن”، ومنها: التغيّر والاستحالة، فهو موقف من “تغيّر اللغة” وسعي لحفظها، لا من “الظاهرة اللغوية” في صلتها بدراسة الإنسان وتحولاته تظهيراً. والنحو العربي أيضاً علم قائم على المعيارية، فتعرّفه على التحولات لصدها، ومن ثمّ تمييزها عند المرواحة بين الوجوب والشذوذ عن اللغة.
ليخلص إلى أن علاقة الإنسان باللغة في أصل الفكر العربي وفق اعتبارين: اعتبار عقدي، وهو البنية الفوقية المتحكمة في كل ما دونها، لدراسة نواميس تحول وتغير اللغة، وكيفية كبح جماح هذا التغيّر، بما يحفظ معيارية اللغة دينياً ففكرياً، واعتبار لساني، هو الذي يتشابه في ظاهره مع الظواهر العلمانية، وهو اعتبار موضوعي يقترب من الفكر المجرد، لكنه محدود بحدود الاعتبار العقديّ. ومن ثم يمكن الخلوص إلى أن المسدّي قارن بين الفكر العربي اللغوي واللسانيات الحديثة؛ ليقر بتشابه بعض الظواهر، لكنه يفرّق بين المتحكم في هذه الظواهر. وهذا نظر في الرؤية الكونيّة، وفق المجال التداولي الإسلامي العربيّ، فاللغة في التراث العربي تصدر “عن رؤية وجوديّة للحدث اللسانيّ”[4].
[1] عبد السلام المسدّيّ، التفكير اللساني في الحضارة العربيّة (بيروت، دار الكتاب الجديد المتحدة، ط٣، ٢٠٠٩)، ص١١٥
[2] المرجع نفسه، ص١١٦.
[3] المرجع نفسه، ص٤٠٤-٤٠٥.
[4] المرجع نفسه، ص٤٠٥.