تعقيبًا، مرّةً أُخرى، على ٱلشّيخ “مولود السـريري”
في ردِّه ٱلْـأَخير على مُلَـاحَظاتي ٱلنَّقْديّة («رَدًّا لِـﭑعْتراضات ٱلشّيخ “مولود السـريري” على مشروعيّة علم ٱلْمَقاصِد وإمكان تأسيسها فلسفيًّا» [1] و[2])، يبدو ٱلشّيخ “مولود السريري” كأنه يُوهِم نفسَه ومُتابِعيه بأنه يأتي بفصل ٱلْخِطاب، في حين أنّه لَـا يفعل سوى أن يُـلَـامِسَ من ٱلنُّـقَط ٱلتي نُوزِع فيها ما يُتيح له أن يُواصِلَ عادتَه في ٱلظُّـهور بمَظْهَـر «ٱلْـفقيه ٱلْـأُصُوليّ» ٱلذي حاز مَـقامًا أَعْلى في ٱلفِكْر من كُلّ نُظَرائه في ٱلْمجال ٱلْـإسْـلَـاميّ ٱلْعربيّ، بل من كُلّ أَرْباب ٱلْـفِكْـر “ٱلْغربيِّين” ٱلذين يَصِمُهم، عموما، بأنهم مَـلَـاحدة ولَـا يَـنْسُب إليهم إلَّـا ٱلْخُزَعْـبِلَـات. وإذا كان يَجُوز للشّيخ (أو لغيره) أن يَتوهَّـم بينه وبين نفسه كما يشاء، فما لَـا يُستساغ من أَمْثاله هو أنْ يُرْسِـلَ عواهن ٱلْـكَـلَـامَ بجانب ٱلنُّـقَـط ٱلْمبحوثة وأن يُكرِّرَ سُوء ٱلْـفهم على ٱلرّغم من أنه يدّعي ٱلِـﭑشتغالَ بمجالٍ يُعَـدّ مجالَ «فنَّ إحْكام ٱلْفهم» بـﭑمْتياز. وفي هذا ٱلسِّياق، أُحَـرِّرُ رَدّي ٱلجديد على كَـلَـامه فأُلَـاحظ، أَوَّلًـا، أنّه أَغْـفَـل مُعْظَم ٱلْمُلَـاحظات ٱلْـمُوَجَّـهة إليه سابقا ورَكَّـزَ فقط على ٱلْـفقرة 24 من ردِّي حيث وقف على عبارة «لَـوْ سُلِّطتْ تَـرَسَانةُ ٱلْمُكْـتسَبات ٱلْمُسْتجدِّة عِـلْميًّا وفلسفيًّا على عِـلْمَيْ “أُصُول ٱلْفِقْه” و”أُصُول ٱلدِّين”، لَـقَضَتْ ببُــطْـلَـان مُعْـظَم مَضامينهما، […]»؛
1- يَقُول ٱلشّيْخُ: «[…]، نجيب عن هذا السؤال المركب ونبدأ بالطرف الذي وصفه صاحبُه بالخطورة وعنى بذلك كما عبّر عنه بقوله “[لَـوْ سُلِّطتْ تَـرَسَانةُ ٱلْمُكْـتسَبات ٱلْمُسْتجدِّة عِـلْميًّا وفلسفيًّا على عِـلْمَي “أُصُول ٱلْفِقْه” و”أُصُول ٱلدِّين”، لَـقَضَتْ ببُــطْـلَـان مُعْـظَم مَضامينهما،]” هذه هي العبارة الأصلية لهذا الكاتب؛ هذه العبارة مُقتضاها ومُوجَبُها أن لهذه الفلسفات وهذه المكتسبات التي سمّاها بالمكتسبات المُستجدّة، أنّ لها سلطنة على علمي الأصول والفقه [كذا]، إذْ بالضرورة يُعْـلَم أنّ الشيء إنّما يُقَوَّم بما له سُلْطانٌ عليه، أيْ بما يُعْتبَر مِعيارًا ومِيزانًا يُمْكن أن يُعْـرَف به قيمتُه ومَرْتبتُه في ميزان الحُجِّيّة والدّلالة والمعرفة. وبالضرورة يُعْلَـم أنّ من قال بهذا، إنْ كان مُسْلِمًا، فإنّه يجب عليه أن يَعْـرِف بأنّه نَطَق بأَمْـرٍ خطير؛ إذْ هذه الأصول عند أهل الإيمان مرجعها إلى الكلام الإلهيّ، إذْ تنتهي إليه بالضرورة ولا بُدّ من ذلك، والكلام الإلهيّ أَزَليّ لأنّه صفةٌ من صفاته، فهذه الأُصُول ترجع كلُّها إلى هذا الأمر. والقول بأنّه يُوجَد نتاج بَشَريّ معرفيٌّ يَتعالى على هذا القول فيه ما فيه ممّا يُعْـلَم أنه أمرٌ خطيرٌ. هذا إذا كان هذا مُسْلِـمًا! الأمر الثاني الذي يُوجِـبه هذا القولُ، من وجه آخر، هو أنّ هذا المتكلم يَظُنّ أنّ أصول الفقه وأُصولَ الدِّين من وَضْع البشر، قد يَكُون هذا ما تَـوَهَّمه. وهذا غيرُ صحيحٍ، فإنّ أصول الفقه وأصول الدِّين تابعةٌ للقول الإلهيّ الأَزَليّ، فلا بُدّ أن تكون مأخوذة منه وبالقطع والجزم، ليس بالظن. وعُـلماء الشريعة قد بَذَلُوا الجهد في هذا الأمر من أجل إثباته وتحقيقه ودَفْع كلّ ما يمكن أن يكون… أن يُثير الشك في شأنه. هذا الأمر الثاني الذي يجب أن يعلم في هذا المقام.»؛
1.1- يُـلَـاحَظ أنّ ٱلشّيخَ ٱجْـتزأ عبارةَ «لَـوْ سُلِّطتْ تَـرَسَانةُ ٱلْمُكْـتسَبات ٱلْمُسْتجدِّة عِـلْميًّا وفلسفيًّا على عِـلْمَيْ “أُصُول ٱلْفِقْه” و”أُصُول ٱلدِّين”، لَـقَضَتْ بِـبُــطْـلَـان مُعْـظَم مَضامينهما» وخَـرَّجها بما يَكْـفُـل له إلْـزامي بأشياء ليست من مُقْـتضى ما قُـلْـتُه في ٱلْـفقرة 24 ٱلتي تمامُ مضمونها هو ٱلتّالي: «بِمُقْتضى ما سَلَف، ورُجُوعًا إلى ما بَـدَأَ به ٱلشّيخُ كَـلَـامَه من أَنَّ «ٱلتَّـقْـوِيم ٱلْـأُصوليّ، إذَا سُلِّط على ٱلْمَشاريع ٱلثّقافيّة ٱلْمُعاصِـرة ٱلْمُتعلِّقة بـﭑلْـأُمور ٱلدِّينيّة، سيَـقْضي بِـبُطْلَـان أغلب مَضامِـينها»، يُمْكِـن بـﭑلْمِثْـل أَنْ يُقالَ بأَنّه لَـوْ سُلِّطتْ تَـرَسَانةُ ٱلْمُكْـتسَبات ٱلْمُسْتجدِّة عِـلْميًّا وفلسفيًّا على عِـلْمَي “أُصُول ٱلْفِقْه” و”أُصُول ٱلدِّين”، لَـقَضَتْ بِـبُــطْـلَـان مُعْـظَم مَضامينهما، لِـأَنَّ ٱلْعِـلْمَ في تَـطُّورٍ دائمٍ على ٱلنّحو ٱلذي يجعل ٱلْمَعارفَ ٱلـلَّـاحِـقة تَـنْقَـلِبُ على ٱلْمَعارِف ٱلسّابقة. ويُمثِّل “ٱلْمنطق” أَبْـرَزَ مِـثالٍ بهذا ٱلْخُصُوص، إذْ كان بعضُ ٱلْعارِفين به إلى حُـدود ٱلْـقرن 18 يَظُنُّون أنّه قد ٱكْـتمَـل مع “أَرِسْطو” بما لَـا مَـزِيد عليه. لكنْ لم يَكَـدْ يَنْـتصف ٱلْـقرنُ 19 حتّى تَـبَـلْوَرت أَنْظارٌ مُسْتجدَّة وٱزْدادت إحْكامًا في نهاية ٱلْقرن 19 وبداية ٱلْـقرن 20 فأَدَّتْ إلى تجديدٍ منهجيٍّ وتَـوَسُّعٍ مَعْـرِفيٍّ في مَجال “ٱلْمنطق” ٱلذي صار يَتحدَّد على أَساس ٱلتَّعدُّد بأنّه “مَنْـطقيَّات” (les logiques). ووَحْـده من لَـا يَسْتحضر حقيقةَ شتّى ٱلِـﭑنْـقِـلَـابات ٱلتي عَـرَفْتها ٱلْعُـلُومُ في عصرنا يُمْكِـنُه أن يَـبْقى مُتمسِّكًا بأَسْـيِجة ٱلْمُكْـتسَبات ٱلْـقديمة ظانًّا أنَّها مُكْتملةٌ بما لَـا يُستطاع تَعدِّيه!»؛
2.1- لم يَنْـتبهِ ٱلشّيخُ إلى أنّ تلكـ ٱلْعبارةَ ٱلْمُجتزَأةَ (وهي جُملة شرْطيّة) قد عُطفت عليها جملةٌ تُـعلِّـلُ مضمونَها («[…]، لِـأَنَّ ٱلْعِـلْمَ في تَـطُّورٍ دائمٍ على ٱلنّحو ٱلذي يجعل ٱلْمَعارفَ ٱلـلَّـاحِـقة تَـنْقَـلِبُ على ٱلْمَعارِف ٱلسّابقة.»)، كما عُطِـفت عليها ثَـلَـاثُ جُـملٍ مُـوالية تُواصِل ٱلتّعليلَ وٱلتّفسيرَ («ويُمثِّل “ٱلْمنطق” أَبْـرَزَ مِـثالٍ بهذا ٱلْخُصُوص، إذْ كان بعضُ ٱلْعارِفين به إلى حُـدود ٱلْـقرن 18 يَظُنُّون أنّه قد ٱكْـتمَـل مع “أَرِسْطو” بما لَـا مَـزِيد عليه. لكنْ لم يَكَـدْ يَنْـتصف ٱلْـقرنُ 19 حتّى تَـبَـلْوَرت أَنْظارٌ مُسْتجدَّة وٱزْدادت إحْكامًا في نهاية ٱلْقرن 19 وبداية ٱلْـقرن 20 فأَدَّتْ إلى تجديدٍ منهجيٍّ وتَـوَسُّعٍ مَعْـرِفيٍّ في مَجال “ٱلْمنطق” ٱلذي صار يَتحدَّد على أَساس ٱلتَّعدُّد بأنّه “مَنْـطقيَّات” (les logiques). ووَحْـده من لَـا يَسْتحضر حقيقةَ شتّى ٱلِـﭑنْـقِـلَـابات ٱلتي عَـرَفْتها ٱلْعُـلُومُ في عصرنا يُمْكِـنُه أن يَـبْقى مُتمسِّكًا بأَسْـيِجة ٱلْمُكْـتسَبات ٱلْـقديمة ظانًّا أنَّها مُكْتملةٌ بما لَـا يُستطاع تَعدِّيه!»)؛ غير أنّ كلَّ هذه ٱلْجُمل أسْقطها ٱلشّيخ ولم يحتفظْ إِلَّـا بما يُناسب غَـرَضَه ٱلذي يَـتمثَّل في جعل قَـوْلي يَـقْـتضي – بحسب ظنّه– شيئًا خطيرًا لَـا يَجدُر بمن كان مُسْـلِـمًا أن يَقُوله، إنه ٱلْـقول بِبُطْـلَـان “أُصول ٱلدِّين”. وكما سيظهر، من قريب، فهذا ٱلتّخْـريج فاسدٌ تمامًا!
3.1- حتّى لو أَجَـزَنا للشّيخ تصرُّفه في ٱلْفقرة ٱلْمذْكُـورة بما يَسْمَح له بـﭑلْـوُقوف عند تلكـ ٱلْعبارة ٱلْمُجْـتزَأة، لَـبَقِيَ أنّ تعْليقَه عليها يُغْـفِـلُ أَمْـرَيْـن أَساسيَّـيْـن فيُثْـبت سُوءَ فهمه لمضمونها: أوّل هذيْن ٱلْـأَمْـرين أنّ ٱلْعبارةَ أُتِـي بها جَـدلًـا بـﭑلْـقياس على قوْله («ٱلتَّـقْـوِيم ٱلْـأُصوليّ، إذَا سُلِّط على ٱلْمَشاريع ٱلثّقافيّة ٱلْمُعاصرة ٱلْمُتعلِّقة بـﭑلْـأُمور ٱلدِّينيّة، سيَقْـضي بِـبُطْلَـان أغلب مَضامِـينها») فذُكِـر تركيبُ «يُمْكِـن بـﭑلْمِثْـل أَنْ يُقالَ»، ثُـمّ جِـيء بـﭑلْعبارة («لَـوْ سُلِّطتْ تَـرَسَانةُ ٱلْمُكْـتسَبات ٱلْمُسْتجدِّة عِـلْميًّا وفلسفيًّا على عِـلْمَيْ “أُصُول ٱلْفِقْه” و”أُصُول ٱلدِّين”، لَـقَضَتْ بِـبُــطْـلَـان مُعْـظَم مَضامينهما»)؛ وبـﭑلْـإِضافة إلى هذا، فقد صِيغتِ ٱلعبارة شَـرْطيًّا بما يُقابِـل عِبارتَه حيث ٱسْتعملتُ فيها أداةَ ٱلشّـرْط “لَـوْ” بَـدلًـا من أداة “إِذَا” كما فعل هو («ٱلتَّـقْـوِيم ٱلْـأُصوليّ، إذَا سُلِّط على ٱلْمَشاريع ٱلثّقافيّة ٱلْمُعاصرة ٱلْمُتعلِّقة بـﭑلْـأُمور ٱلدِّينيّة، سيَقْـضي بِـبُطْلَـان أغلب مَضامِـينها»)؛ وقد كان يكفي ٱلشّيخ – وهو ٱلْمُشتغل بِـ«فنّ إِحْـكام ٱلْفهم»- أن يَـنْـتبهَ إلى أنّ كونَ “لَـوْ” تَـدُلُّ على ما يُسْتبعَـد تحقيقُه كأنّه مُمْتنِع يَجعلُها تُـلْقي بعِبء إِثْـبات ما تَحدَّث عنه كأنّه أَقْـرب إلى ٱلتّحقُّـق بـﭑسْـتعمال “إذَا”، وهو ما يُفيد أنّ كَـلَـامَه ٱلْمُرْسَـلَ عن تلكـ ٱلْعِـبارة إنّما هو سُوءُ فهمٍ أكيدٌ منه. وثاني ٱلْـأَمْـرين أنّه أسقط لفظ “عِـلْـميًّا” (من «ٱلْمُكْـتسَبات ٱلْمُسْتجدِّة عِـلْميًّا وفلسفيًّا على عِـلْمَي “أُصُول ٱلْفِقْه” و”أُصُول ٱلدِّين”») ولفظ “عِـلْـمَيْ” (من عبارة «عِـلْمَي “أُصُول ٱلْفِقْه” و”أُصُول ٱلدِّين”») حتّى يتسنّى له جعل «ٱلْـإِنْـتاج ٱلْـفلسفيّ» (ٱلْمُسْتجدّ في ٱلْغرب أساسًا) في مُقابِـل «أُصُول ٱلدِّين ٱلشَّـرْعيّة وٱلْعَـقَديّة في ٱلْـإِسْـلَـام» وكأنّ مُـقْـتضَى عبارتي هو أنّ ذاكـ ٱلْـإنْـتاج يَقْضي بِـبُطْـلَـان «أُصُول ٱلدِّين» هذه؛ وٱلْحال أنّ تقديمي لِلَفْظ “عِـلْميًّا” على “فلسفيًّا” (في عبارة «ٱلْمُكْـتسَبات ٱلْمُسْتجدِّة عِـلْميًّا وفلسفيًّا») وٱسْـتعمال لفظ “عِـلْـمَيْ” قَـبْـل مُـرَكَّبيْ “أُصُول ٱلْفِقْه” و”أُصُول ٱلدِّين” ٱلْـمَـوْضُوعَيْـن بين عَـلَـامتي ٱلْـإِبْـراز مُـقْـتضاه ٱلْمُقابَـلة بين «ٱلْـمُكْتسَبات ٱلْمُسْـتجدَّة في مَجالَـات ٱلعُلُوم وٱلْـفلسفة» وبين «ٱلْـمُكْتسَبات ٱلْـمُتعلِّـقة بعِـلْـميِ أُصُول ٱلدِّين (أو عِـلْم ٱلْـكَـلَـام) وأُصُول ٱلْـفقه»، بحيث لَـا يَصِحّ ٱلِـﭑنْـزلَـاقُ من عبارة «عِـلْمَي “أُصُول ٱلْفِقْه” و”أُصُول ٱلدِّين”» إلى عبارة «أُصُـول ٱلدِّين» (ٱلتي هي بمعنى «ٱلْـأُصول ٱلشَّـرْعيّة ٱلْمُـوحى بها وٱلْـمُثْبَـتة في ٱلْـقُـرآن ٱلْـكريم وٱلسُّـنَّة ٱلنَّـبَوِيّة ٱلصّحيحة»). وفَحْـوى هذا أنّ ما فَعلَه ٱلشّيخُ من تخريجٍ يُعدُّ باطلًـا ومَـرْدُودًا، فهو يُـعبِّـر إمّا عن سُـوء فَهْـمه وإمّا عن سُوء نيّته. ولِـذَا، فما ٱسْـترسل فيه من كَـلَـام مَـبْـنيٌّ على ٱلْخَـلْط بيْـن «عِـلْمَي “أُصُول ٱلْفِقْه” و”أُصُول ٱلدِّين”» بـﭑلتَّحديد و«أُصُـول ٱلدِّين» بإطْـلَـاق، وهو ٱلْخلط ٱلذي يُمَكِّـنه من إظْهار قوْلي كأنّه يقتضي ٱلْكُـفر بِـ«أُصُول ٱلدِّين» من حيث إنّ تقديرَ إمكان إبطالها – كما ذهب إليه ظَـنُّه– على أساس «ٱلْـمُكْـتسَبات ٱلْمُسْـتجدَّة عِـلْـميًّا وفلسفيًّا» لَـا معنى له سوى ذلكـ. لكنّ حِـيلةَ ٱلشّيخ هذه تَـنْفضح إذَا تبيَّـنّا أنه يُـريد أن يُخْـفيَ كوْن «عِـلْمَي “أُصُول ٱلْفِقْه” و”أُصُول ٱلدِّين”» إنّما هما من «ٱلْمُكْـتسَبات ٱلْـموْرُوثة» ٱلتي هي ٱجْـتهاد بَـشَـريٌّ في تأويل وفهم «أُصُول ٱلدِّين» مُماثِـل، بوصفه هكذا، لِـلِـﭑجْـتهاد ٱلْـبشريّ ٱلْـمُتمثِّـل في «ٱلْـمُكْـتسَبات ٱلْمُسْـتجدَّة عِـلْـميًّا وفلسفيًا» على ٱلنَّحْـو ٱلذي يجعل أَيَّ إبطالٍ مُمْكِـنٍ لِلْـمُكْـتسَبات ٱلْمُتعلِّـقة بِـ«عِـلْمَي “أُصُول ٱلْفِقْه” و”أُصُول ٱلدِّين”» لَـا يَـقْـتضي بتاتًا إِبْـطالَ «أُصُول ٱلدِّين ٱلْـمُوَحى بها» إِلَّـا لدى من يَظُـنُّ أنّ «عِـلْمَيْ “أُصُول ٱلْفِقْه” و”أُصُول ٱلدِّين”» يُعَـدَّان وَحْـيًا إلَـاهيًّا لَـا يأتيه ٱلْـباطلُ من بين يديه ولَـا من خَـلْـفه كما يعتقد ٱلْـمُؤمنون. ولَـوْ أنّ ٱلشّيخَ وَقَف مَـلِيًّا عند ٱلْجُمَـل ٱلتي عَـلَّـلَتُ وفَـسَّـرْتُ بها ٱلْعبارةَ ٱلْمُجْـتزَأة، لَـما وَجَـد أَيَّ طريقٍ مُـناسِـبٍ ليُقَـوِّلَـني ما لمْ أَقُـلْه فيَـنْـزلق إلى ما تَـوَهَّـمه فكَـتَـم ٱلْحُكْـم عليه في نفسه حتّى لَـا يقعَ في مَحْـذُورٍ قد يَـرْتدُّ عليه!
4.1- لِـأَنَّـني تَحَـدَّثْـتُ عن “عِـلْم ٱلْمَنْطِـق” بوصفه مِـثالًـا على «ٱلْـمُكْـتسَبات ٱلْمُسْـتجدَّة عِـلْـميًّا وفلسفيًا» ٱلتي يُمْكِـن أنْ تُسلَّط على «عِـلْمَي “أُصُول ٱلْفِقْه” و”أُصُول ٱلدِّين”»، فكُـلُّ من يَعْـرِف أنّ “ٱلْمنطق” عِـلْـمٌ آلِـيٌّ لَـا شأْن له بأُمُـور “ٱلدِّين” و”ٱلْعقيدة” لَـنْ يَـدُورَ بخَـلَـده أَنَّ تَسْـليطَ أدواته على مُكْـتسَبات «عِـلْمَي “أُصُول ٱلْفِقْه” و”أُصُول ٱلدِّين”» سيُؤدِّي إلى إبطال “ٱلدِّين” من حيث أُصُـولُه ٱلشَّـرْعيّة وٱلْعَـقَـديّة. وكذلكـ ٱلْـأَمرُ في أَيِّ عِـلْـمٍ أو فِـكْـرٍ آخَـر يُمْـكِـن أن تُسلَّط مُكْـتسَباتُه ٱلْمنهجيّة وٱلْمعرفيّة لِـﭑمْتحان ٱلْمُكْتسَبات ٱلْعلميّة وٱلْـفِكْـريّة ٱلْموْرُوثة؛
5.1- يَـنْـبغي، إذًا، أن يَكُون بَـيِّنًا أنّ ما أعتقدُه بوَعْـيٍ تامٍّ هو أَنّ «عِـلْمَي “أُصُول ٱلْفِقْه” و”أُصُول ٱلدِّين”» هما من ٱلْمُكْتسَبات ٱلْبَشَـريّة ٱلتي تَحْـتمل ٱلْـإِبْـطال، لِـأَنّها بـﭑلضَّـرُورة ٱجتهادٌ قد يُصيب أو يُخْـطئ، وهو ما يشهد عليه تحديدا تاريخُ ٱلْخِـلَـاف بين ٱلْمُشْـتغِـلين بذَيْـنِـكـ ٱلْعِـلْـمَـيْـن ٱللَّـذَيْـن لَـوْ قُـدِّر إبطالُ كُـلّ مَضامِـينهما، لـمَـا لَـزِم من هذا أن تبطل أيضا «أُصُول ٱلدِّين ٱلشَّـرْعية وٱلْـعَـقَـديّة» ٱلتي يُصدِّقُها ٱلْـمُؤْمنون بها تَصْـديقًا تامًّا بـﭑلضَّـبْط لِـأَنّهُم يُصدِّقُـون ناقِـلَها (صلّى ٱللَّـهُ عليه وسلَّم)، أَيْ فقط حينما يَـزُول هذا «ٱلتّصديقُ ٱلْـإِيمانيُّ» سيَـزُول أيضًا ٱلتّصْـديق ٱلْـقاضي بأنّ «أُصُـولَ ٱلدِّين» شَـرْعٌ من ٱللَّـه وبَـلَـاغٌ من رسوله؛
6.1- إذَا ظهر ٱلْـفرقُ بين «أُصُول ٱلدِّين» و«عِـلْمَي “أُصُول ٱلْفِقْه” و”أُصُول ٱلدِّين”»، يبقى أنّ كوْنَ «علم أُصُول ٱلْفِقْه» يتأسَّس على «عِـلْم أُصُول ٱلدِّين» أو «عِـلْـم ٱلْـكَـلَـام» بوصفه يُعدّ مَسائل قطعيّةً هو ٱلسّبب في ٱلْمعتقد ٱلشّائع ٱلْقاضي بأنّ ٱلْعِلْمَـيْـن كِـلَيْهما مَـبْـنيَّان بشكلٍ قطعيٍّ مُلْزِم عقليًّا وشرعيًّا. لكنَّ هذا ٱلْمُعتقَد ٱلْموروُث فاسدٌ تمامًا، لِـأَنّ «عِـلْم أُصُول ٱلدِّين/عِـلْـم ٱلْـكَـلَـام» رغم ٱدِّعائه ٱلْـقطعيّة لَـا يستطيع أن يُقِـيمَ ٱلْـبُـرهانَ على أَيِّ أصلٍ دِينيّ (مثلًـا، وُجُـود ٱللَّـه، حقيقة ٱلْـكَـلَـام ٱلْـإِلَـاهيّ كما هو في “ٱلْـقُرآن”، حقيقة ٱلنّفْس، حقيقة ٱلْمَعاد ٱلْـأُخرويّ) بحيث يصير مُوجِـبا لِـلْـإِيمان عند كُلّ ناظِـرٍ، بل ٱلْـأُصول ٱلدِّينيّة ٱلْمُتناوَلة فيه تُـتلَقّى ٱبْتـداءً بـﭑلْـقَـبُول لِـأَنّها مُخْـبَـرٌ عنها في “ٱلْوحي ٱلْمُنْـزَل” ٱلذي هو مَحلّ تصديقٍ مُطْـلَق لدى مجموع ٱلْمُؤْمِـنين. ولِـذَا، فإنَّ ٱلْمُسْـلِمَ ٱلْعاديَّ ليس في حاجةٍ أصْـلًـا إلى «عِـلْم أُصُول ٱلدِّين» أو «عِـلْـم ٱلْـكَـلَـام» حتّى يُـؤْمِـنَ أو يَـزْدادَ إيمانًا، بل من ٱلْمُحتمَل جدًّا أن يَكُون تعاطيه لِـ”ٱلْـكَـلَـاميَّات” سببًا في تشكيكه أو زيادة حَيْرته، ممّا قاد بعضَ كبار عُـلماء ٱلْمُسْـلِمين إلى ذمّ ٱلِـﭑشْـتغال بها أو تحريم ٱلنّظَر في كُـتُـبها وإلجام عوامّ ٱلنّاس عنها. ومُقْـتضى هذا أنَّ أَيَّ تشكيكٍـ حقيقيٍّ في موْثُوقيّة “ٱلْوحي” وصدق “ٱلنّبيّ” من شأنه أن يكشف عن حُـدود “ٱلْـكَـلَـاميَّات” في إيجاب ٱلْـإيمان بِـ«أُصُول ٱلدِّين» كما يَزْعُم عادةً ٱلْمُشْتغلون بها. وليس أمام من يعتقد في قطعيَّة “ٱلْكَـلَـاميّات” إِلَّـا أن يقف عند أوْجُه ٱلْـخِـلَـاف ودرجاته في بعض ٱلْـمَسائِـل ٱلْمعرُوفة مثل «مسأْلة خَـلْق ٱلْـقُـرآن» ٱلتي لم يُفْـلِحْ أصحابُها في فَـرْضها عَـقْـليًّا (ولَـا سُلْطويًّا) بما يُـلْـزِم مُخالِـفيهم بتصديقها كأنّه قدْ بُـتَّ فيها عقليًّا إلى ٱلْـأَبد، أو أن يقف عند ٱلنَّـقد ٱلْحديث ٱلذي تَـعرَّضت له “ٱلكَـلَـاميَّات” تحديدًا مع “كنْط” في كتابه «نقد ٱلْعقل ٱلْخالص» ([أ 1781؛ ب 1787). فلَـوْ كان ٱلْـأَمرُ في «عِـلْـم ٱلْـكَـلَـام» يَـتعلَّق بمَسائل قطعيّة ومُسْـتيقَـنة على أساس ٱلنَّـظَـر ٱلْـعقليّ ، لَـما جاز لِـأَحدٍ من ٱلْـمُسْـلِمين أن يَـتردَّدَ في قَـبُول شيءٍ منها، ولَمَا ٱحْـتِـيجَ إلى ٱلْعمل بذريعة أَنَّ ٱلنّاظرَ ٱلْـمُجْتهِـدَ يُعْـذَر حينما يَنْـتهي إلى ٱلْـمُخالَفة حتّى لَـا يُكَـفَّر، بل لَـأَمْـكن حينذاكـ لِعُلَماء ٱلْـمُسْـلِـمين أن يُـقْـنِعُوا سِـواهُم بصِحّة أُصول دِينهم بحيث لَـا يَـبْـقى هناكـ أَيُّ مَلَـاذ عَـقْـليّ لغَـيْـر ٱلْمُسْـلِـمين في أن تَكُون لهم أُصُولٌ دينيّةٌ مُخالِـفة أو أن يَـنْتهي كثيرٌ منهم إلى ٱلْـإِلْحاد جُحُودًا بمُطْـلَق “ٱلدِّين” و”ٱلتَّأْليه”. وهكذا ٱلْحال بشأن كلّ ٱلْخِـلَـافيَّات سواء أَتعلَّقت بِـ«عِـلْم أُصُول ٱلدِّين/عِـلْـم ٱلْـكَـلَـام» أَمْ بِـ«عِـلْم أُصُول ٱلْفِقْه» أَمْ بِـ«فِقْه ٱلْـفُـرُوع». ولعلّه يتّضح بهذا ما معنى ٱلْـإِبْـطال ٱلذي يُمْكِـن أن يَمسّ، على ٱلْـأَقلّ، بعض ما يَـتعلَّق بِعِـلْمَيْ “أُصُول ٱلْفِقْه” و”أُصُول ٱلدِّين” في ضوء أهمّ «ٱلْـمُكْـتسَبات ٱلْمُسْـتجدَّة عِـلْـميًّا وفلسفيًّا»؛
7.1- رغم أنّني ذَكَـرْتُ “ٱلْمَنْطقيّات” مِـثالًـأ على أَحد أَبْـرز ٱلْمَجالَـات حيث تَـتجلّى «ٱلْـمُكْـتسَبات ٱلْمُسْـتجدَّة عِـلْـميًّا وفلسفيًّا»، فإنّ ٱلشّيْـخَ فضَّل أَلَّـا يَسْتحضر أهميّة “ٱلْمَنْطقيّات” ٱلْمُعاصِـرة بـﭑعْـتبار أَنَّ «علم أُصُول ٱلْفِقْه» يَتحدَّد أَساسًا بوصفه فَـرْعًا من «عِـلْـم ٱلْمنطق» لِـأَنَّه يَنْـظُـر في طُـرُق وأَوْجُه ٱلِـﭑنْـتقال من “ٱلْـأَدِلَّة” إلى “ٱلْـأَحْكام”. لكنْ هناكـ مَـجالَـات أُخْـرى راكمت من ٱلْـمُكْـتسَبات ما يجدر أخْـذُه بـﭑلْحُسْبان علميًّا وفلسفيًّا، ويَتعلَّق ٱلْـأَمْـرُ تحديدًا بمَجالَـات “ٱللِّسانيّات” (بفُروعها: “ٱلتَّـرْكيبيَّات” و”ٱلدَّلَـاليَّات” و”ٱلتَّـداوُليَّات”) و”فلسفة ٱلْعُـلُوم” و”دِراسات ٱلْحِجاج وٱلْـبَـلَـاغة” و”تحليل ٱلْخِطاب” و”فلسفة ٱللُّغة” و”فلسفة ٱلْعمل” و”فلسفة ٱلذِّهْـن” و”ٱلظّاهِـريَّات” و”ٱلتَّأْويليَّات” و”فلسفة ٱلْـقانُون” و”ٱلْعُـلُـوم ٱلْمعرفيَّة” و”دراسة ٱلْـأَدْيان ٱلْمُقارَنة”. وفي ٱلْـمَـدى ٱلذي يُعَـدُّ «ٱلِـﭑشْـتغالُ بأُصُول ٱلْفِقْه» ٱشْـتغالًـا عِـلْـميًّا، لَـنْ يُجْـدِيَ ٱلْـباحثَ ٱلْجادَّ أن يَنْصـرف عن ٱلْـإِحاطة بتلكـ ٱلْـمُكْـتسَبات ٱلْمُسْتجدَّة مَهْـما بدا له أَنَّ ٱلْمُكْتسَبات ٱلْـمَوْرُوثة تُـغْـني عنها بما يكفي؛
8.1- بِمُقتضى ذلكـ، يصير كلُّ كَـلَـام ٱلشّيخ من دون أَيِّ صلةٍ بمضمُون ٱلْـفقرة 24، بل هو حِـيلةٌ لِتفادي خطر أنْ تُسلَّط تَـرَسَانةُ «ٱلْمُكْـتسَبات ٱلْمُسْتجدِّة عِـلْميًّا وفلسفيًّا» على «عِـلْمَي “أُصُول ٱلْفِقْه” و”أُصُول ٱلدِّين”» فتَـقْضي بِبُطْـلَـان مَضامينها إنْ جُزءًا أو كُـلًّـا. ذلكـ بأنّ ٱلثّابت وٱلْمُتعارَف هو أنّ “ٱلْعِـلْم” ٱلْمُكْتسَب حديثا له سُلْطانٌ منهجيٌّ ومعرفيٌّ على “ٱلْعِـلْم” ٱلْمُكْـتسَب قديمًا من دُون أن يَقْـتضي هذا بـﭑلضَّـرُورة أنّ “ٱلْعلم” له سُلْطانٌ على “ٱلدِّين” أيضًا لِـأنّ شُرُوطَهما ٱلذّاتيّة وٱلْموضوعيّة مُـتبايِـنةٌ تَـمامًا. ولَـنْ تَـسْـريَ حِـيلةُ ٱلشّيخ في ٱلْخَلْط بين ما يُعَـدّ مُقدَّسًا (“ٱلدِّين” بما هو أُصُـولٌ شرعيّةٌ وعَـقَديّةٌ) وما يُمثِّل ثَـمَـرة “ٱلِـﭑجْتهاد” ٱلْبَـشَريّ (ٱلْعُـلُوم ٱلْمُكْـتسَبة قديمًا أو حديثًا) إِلَّـا على من يَتوَهَّم مِثْـله أنّ كوْن عِـلْمَي “أُصُول ٱلْفِقْه” و”أُصُول ٱلدِّين” يُعْـتبَران عِلْـمَيْن دِينيَّـيْن وشَـرْعيَّيْن يَجعلُهما قَطْعيَّـيْـن وتَوْقيفيَّـيْـن كأَنّ وصفَهما أو تَسْميَتَهما بـﭑلنِّسْبة إلى موضُوعهما («أُصُول ٱلدِّين») يُوجب لهما أن يُشارِكاه في نفس ٱلرُّتْـبة (ٱلتي هي رُتْـبة «ٱلْـوحي ٱلْـإِلَـاهيّ»)؛
9.1- يُمْكِـن ٱلْـآن أنْ تُدْرَكَـ بوُضوحٍ دلَـالةُ ٱلْجُملة ٱلْـأَخيرة في ٱلْـفقرة 24: «ووَحْـده من لَـا يَسْتحضر حقيقةَ شتّى ٱلِـﭑنْـقِـلَـابات ٱلتي عَـرَفْتها ٱلْعُـلُومُ في عصرنا يُمْكِـنُه أن يَـبْقى مُتمسِّكًا بأَسْـيِجة ٱلْمُكْـتسَبات ٱلْـقديمة ظانًّا أنَّها مُكْتملةٌ بما لَـا يُستطاع تَعدِّيه!». فـﭑلشّيخ “السريري” أبى إلَّـا أنْ يجعلَ نفسَه واقعًا تحت حُكْم هذه ٱلْجُملة من حيث إنّه أراد أن يَتفادى خطرَ «ٱلْـمُكْـتسَبات ٱلْمُسْـتجدَّة عِـلْـميًّا وفلسفيًا» على ما يشتغل به من موْرُوثٍ فِـكْـريٍّ في “ٱلْـكَـلَـاميَّات” و”أُصول ٱلفقه” بجعله خطرًا على عُـمُوم “ٱلدِّين” كأنّ هذا ٱلْـأَخير لَـا يُمْـكنه أن يَقُوم في ٱلْواقع من دون حفظ ذلكـ ٱلمَوْرُوث رغم آفاته ٱلثّابتة وحُدوده ٱلْمَعلومة لدى ٱلحُذَّاق من أَصْحابه قبل ٱلْعُتاة من خصومه؛
10.1- لِـأنَّ ٱلشّيخَ قد أَثْـبَت بكَـلَـامه ٱلْمَـذْكُور سُوء فهمه وعدم ٱلْـتزامه بـﭑلرَّدّ ٱلْـمنهجيّ على ٱلنُّقَط ٱلْـمبحُوثة، سيَكُون من ٱلصّواب أنْ يُتوقَّـف في ٱلرَّدّ عليه عند هذا ٱلْحَـدّ!
2- ما قاله ٱلشّيخ بَعْـدُ عن “محـمد أركون” وغيره من ٱلذين عَمِـلُوا على ردِّ أو نقض ٱلْعُـلُوم ٱلْمورُوثة (أو حتّى جِـماع “ٱلدِّين/ٱلْـإسْـلَـام”) لَـا يَـتوجَّه، ليس فقط لِـأَنَّه لَـا شيء في كَـلَـامي يُفِـيد أنَّـني أَعْـنيهم أو أَحْـفِـل بهم في مجال تسليط «ٱلْـمُكْـتسَبات ٱلْمُسْـتجدَّة عِـلْـميًّا وفلسفيًا» على «عِـلْمَي “أُصُول ٱلْفِقْه” و”أُصُول ٱلدِّين”»، بل أيضا لِـأَنّه لَـا واحد ممَّـن ذَكَرَهم أو أَغْـفَـلهم ٱلشّيخُ يَسْتحقّ أن يُعَـدَّ أَهْـلًـا لِلْقيام بتلكـ ٱلْمُهمَّة، إذْ تَـحيُّـزُهم مُضاعَـفٌ تُجاه ما يَنْـقُلون وتُجاه ما يَـنْـقُدون، فَضْـلًـا عن كوْنهم لمْ يَصِلُوا إلى مَـرْتبةٍ في ٱلْعلم وٱلْـفكر تَجعلُهم يُضاهُـون ٱلْـقُدامى وٱلْمُحْـدَثين على ٱلسّواء؛
1.2- لَـوْ أخذنا “أركون” مَـثَـلًـا، لوَجَـدنا أنّ ٱلظُّهور على غَوائِـل فِكْـره لَـا يأتّى لمن لم يُحْسِـن قِـراءتَه في أَصْـله ٱلْـفرنسيّ بما يكفي لِـلْـإحاطة بكُلّ حَيْثيّات نُصوصه في صلتها بمَصادرها ومَـراجعها ٱلْغربيّة بـﭑلْـأَساس. ولِـذَا، فما ٱسْتطرَد ٱلشّيخُ في ذِكْـره عنه لَـا يُـلْـزِمُـني لِـأَنَّـني لَـا أصْدُر بتاتًا عمّا يَصْـدُر عنه “أركون” أو غيرُه؛
2.2- لَـوْ قُـدِّرَ لي يومًا أن أَكْـتُـبَ عن “عِـلْم أُصُول ٱلْـفقه”، لَـأَعْـطيتُ ٱلْـفُـرْصةَ لكُلّ قارئ حتّى يُقَـوِّم مدى قُدْرتي على ٱلْـإتيان بشـيء مَـتِين وَ/أوْ جديد. وكذلكـ ٱلْـأَمرُ بشأن “عِـلْـم ٱلْـكَـلَـام” ٱلذي سبق لي أن نشَـرتُ عنه بعضَ ٱلشّذرات ٱلتي يُمْكِـنُ لِلْمُهْـتَمّ أن يَـقْـرَأَها مُجَمَّعةً ومُـرَتَّـبةً في كتابي ٱلْـمُنْتظَـر صُدُوره قريبًا «”ٱلتّـفلسُف” تحطيمًا لِـأَصْنام “ٱلتَّضْليل”» (ٱلْجزء ٱلثاني، بيروت-المؤسسة العربية للفكر والإبداع، 2024، 410 صفحة) وأيضًا في تقديمي لِـرسالة «ٱلْـمُنْـقِـذ من ٱلضَّـلَـال» (تقديم في نحو 100 صفحة، ضمنه تقريبا 15 صفحة عن “ٱلْـكَـلَـاميَّات” في ضوء نقد “ٱلْـغَـزَاليّ”) ٱلتي ستُـعدُّ للطَّبْـع في مُقْبِـل ٱلْـأَيَّام؛
3.2- رغم ثُـبوت كوْن جزء غير قليل من “ٱلْعلم” و”ٱلْفكر” في ٱلْعالَم ٱلْمُعاصـر يَـرْجِعُ إلى أُناس هُـم إمّا مَـلَـاحدة وإمّا كُـفّار وإمّا عُموما غيْـر مُسْلِمين، فهذا لَـا يُسوِّغ ٱلْـقولَ بأنّ ما أَنْـتجُوه ينبغي رَدُّه فقط لِـأَنَّهُم كذلكـ؛ وإِلَّـا، فـلَنْ يبقى بين أيدي ٱلْمُسْلمين شـيء ممّا هو ٱلْـأصل في معظم مَعاشهم منذ أكثر من قَـرْن ومِمّا يرجع أساسًا إلى ما كان ولَـا يزال يُنْتِـجُه غيرُهم. فمن بالِغ ٱلسُّخف، إذًا، أن يُـرادَ من هذه ٱلنّاحية ٱنْـتقاصُ ما سَمَّـيْتُه «ٱلْـمُكْـتسَبات ٱلْمُسْـتجدَّة عِـلْـميًّا وفلسفيًا»؛
4.2- إذَا ثَـبَـت أنّ «عِـلْم ٱلْكَـلَـام» و«عِـلْم أُصول ٱلْفقه» لَـا سُلْطان عليهما من خارجهما، ووَجدنا أَنَّ ٱلْـفِكْـرَ ٱلْـإلْحاديَّ يَصُولُ ويَجُـولُ حتّى بَـيْـن ظَـهْـرانَيِ ٱلْمُسْلِـمين، فلَـا بدّ من أن يُتساءل عن ٱلْـأَعْـمال ٱلتي أَنْـجَـزها عُـلَماء ٱلْمُسلِمين وٱلتي لها تمامُ ٱلْـقدرة على مُضاهاة ذاكـ ٱلْـفكر في كُـلّ ٱلْـمَجالَـات حيث يَـفْـرِض نفسَه؟ وأَيْـن هي بـﭑلتّحْـديد أعمالُ “ٱلْمُتكلِّمين” و”ٱلْـأُصُوليِّـين” ٱلتي تستحقُّ أن يُشْهَدَ لها عالميًّا بأنّها أعمالٌ رصينةٌ وبديعةٌ؟!
5.2- لَـا يبدو أنّ ٱلشّيخ “ٱلسـريري” يَعْـرِف حقيقةً أنّ هُـناكـ كثيرًا من ٱلْعُلَماء وٱلْـفـلَـاسفة يَـتحدَّدون بوصفهم مُؤْمِنين بين ٱلنّصارى وٱلْـيهود ولهم أعمالٌ يَعِـزُّ نظيرُهما بيْـن ما يُنْسَب إلى عُلماء ٱلْمُسْـلِمين ومُفكِّـريهم ٱلْمُعاصِـرين. وكما أنّ لِلْمُسلِمين علمَ كَـلَـامهم وأُصولَ فِـقْههم، فإنّ هناكـ عِـلْمَ كَـلَـام وأُصُولَ فِـقْه لدى ٱلْمسيحيِّـين وٱلْيهود؛ مِمّا لَـا يُجِـيز ٱلْحديث عن «عِـلْم ٱلْكَـلَـام» و«عِـلْم أُصول ٱلْفقه» كأنّهما يَخُصَّان ٱلْمُسْلِـمين في ٱلْعالَم فَـلَـا يَكُون مَجالٌ لِمُقارنتهما بغيرهما أو لِـلِـﭑسْـتصواب بِـناءً عليه؛
6.2- أسخفُ ما يُمْكِـن أن يَجْـرِيَ به قَـلمُ أو لسانُ شخصٍ بيننا هو أن يَـتحدَّث عن خُـزَعْـبِـلَـات ٱلْـمُفكِّـرين ٱلْـغربيِّـين في ٱلْـوقت ٱلذي لَـا شيء يُـثْـبِت أنّه قد أحاط عِـلْـمًا بأعمالهم وأَنْجَـز ما يُضاهيها أو يَفُوقها. وليس “هابرماس” إِلَّـا أحد عمالقة ٱلْـفِكْـر ٱلْـغربيّ سواء أَوافَـقْـناه أَمْ خالَـفْـناه في ٱلرَّأْي. ولو أنَّ ٱلشّيخ “ٱلسـريري” أحسن ٱلِـﭑطِّـلَـاعَ على بعض أهمّ أعمال “هابرماس” (ٱلتي لَـا تزال في مُعْـظَمها بلُغاتٍ أجنبيّة)، لَمَا وَجَـد سبيلًـا لِـإرْسال ٱلْـكَـلَـام فيما لَـا عِـلْـم له به!
3- يَقُول ٱلشّيخُ إنّني أَطَـلْتُ ٱلْـكَـلَـامَ عن لفظيْ “مَـشْـرُوع” و”مَـشْـرُوعيَّة” من دُون أَنْ أَنْـتَـبِهَ إلى كوْنه قَـيَّـد مقُولَـه عن ٱستعمال كلمة “مشْـرُوع” بِــ«عند ٱلْمُخاطَبِـين بهذا ٱلْـقول»، ثُمَّ يَقُـول إنّ هَؤُلَـاء ٱلْـمُخاطَبِين من ٱلطّلَبة وٱلْمُسْـلِمين حينما يَسْمَعُون كلمةَ “مَـشْـرُوع” لَـا تَـنْصرف أَذْهانُهم إِلَّـا إلى أَنّها تُـقال عن “ٱلْـفعل”، فضلًـا عن كوْن كتاب “طه عبد الرحمن” موضوعه فنٌّ مُتعلِّـقٌ بـ”ٱلْـأَحْـكام ٱلشَّـرْعيَّة”. لكنْ رغم هذا، فـلَـا يزال ٱلشّيْخُ واقعًا في ٱلتّحكُّم بإصْـراره على أنّ لَفْظَ “مَشْـرُوع” له معنى مخصوصٌ يَقْـصُـره على «ما يُـوافِـق ٱلشَّـرْع» تحديدًا. ولَـا يُـفيده في ٱلِـﭑنْـفكاكـ عن ٱلتَّحكُّم زعمُه أنَّـه قيَّـد قوْله بِـ«عند ٱلْمُخاطَبِـين بهذا ٱلْـقول»، لِـأنّ هؤلَـاء لَـا ينحصـرون في طلبة ٱلْعِـلْـم وٱلْمُسْلِمين كما أراد، بل يَشْمَـلُون كُـلَّ مُسْتعِملٍ للعربيّة في عصْـرنا وكلّ قارئ مُمْكِـن لكتاب “طه” ٱلذي هو كتاب في ٱلْـفلسفة ٱلْـأخْـلَـاقيّة رغم كوْنه يَـتناول موضوع “عِـلْم ٱلْـمَقاصد”. ويُضاف إلى هذا أنّ معنى «ٱلْمُوافِـق للشَّـرْع أو ٱلْـقانون» ليس سوى «ٱلْمقبُول شَـرْعًا أو قانونًا»، فهو على كلّ حالٍ دالٌّ – عُـمُوما– على “ٱلْمَقْـبُول” تَـبعًا لِـما يُعَـدُّ مَـعْـرُوفًا أو مَعْـقُولًـا. ولو أنّ ٱلشّيخ وقف عند ذلكـ، لكَـفَّ عن ٱلْمُماحَـكة لِـأنّ ٱلْـأَلْـفاظ لَـا مُشاحّة فيها عند ظُـهُـور ٱلْمَعاني ولِـأَنّ ٱللُّغة ٱلْعادِيَّة لَـا تَـنْـفكّـ أبدًا عن ٱلِـﭑشْـتراكـ وٱلِـﭑلْتباس. وإِلَّـا، فقَـيْـدُه لَـا يُعْـتبَـر في ٱلْعُمق لِـأَنّ ٱلْـقائلَ أو ٱلْكاتبَ له ٱلْحقّ في أن يَسْتعملَ لفظ “مشْـرُوع” (أو غيره) بشرط واحدٍ هو أنْ يُحدِّد ٱلْمعنى ٱلْـمُـرادَ به عنده. ومن ٱلثّابت أنّ لفظ “مَـشْـرُوع” في ٱستعماله ٱلْعامّ عند ٱلْـمُحْـدَثِـين يُـرِادف “مَقْـبُول”؛ وهو بهذا ٱلْمعنى لَـا يَـقْـتصـر على “ٱلْـفعل” بدليل ما ورد في “مُعْـجَـم لَـالُـند” ٱلذي هو أحد أهمّ ٱلْـمَعاجم ٱلْمُعتمَدة في ٱلْـفلسفة؛
1.3- رُجُـوعُ ٱلشّيخ إلى مَـدْلُول خاصٍّ بمَجالِ ٱشْتغاله ليس حُجّةً على ٱلْـفيلسوف، وبـﭑلْـأَخصّ على فيلسوف يأخُذ بِـ”ٱلتَّأثيل” ويضع مفاهيمه ٱسْـتشكالًـا وٱسْتدلَـالًـا. ولَـوْ أراد ٱلْـمرءُ أن يَـذْهبَ في هذا ٱلِـﭑتِّجاه، لَـأَبْـعَـد ٱلنُّجعةَ بما قد لَـا يَخْطُـر ببال ٱلشّيخ!
2.3- مُصيبةُ ٱلشّيخ لَـا تأتي فقط من ناحية أنّه لَـا يَـتّخذ مَـرْجِـعًا إِلَّـا ما ٱستقرَّ في نفسه وذِهْـنه كفقيه أُصُوليّ، بل إنّها لتأتي أيضًا من كوْنه يُـفكِّـرُ ويَـتكلَّمُ خارج لُغة ٱلْعصْـر ٱلتي أَمْضت ٱستعمالَ مُصْطَـلَح “مَشْـرُوعيّة” (بمعنى «ٱلْـقَـبُول وٱلرِّضَـى ٱلْـعُـمُوميّ») في تَقابُـله مع مُصْطَلح “شَـرْعيّة” (بمعنى «مُـوافَـقة ٱلشَّـرْع وٱلْـقانُون»)، وهو ما يَقْـتضـي أنّه ليس كُـلُّ ذِي شَـرْعيَّةٍ بحائِـزٍ على “ٱلْـمَـشْـروعيّة” (مثلًـا، كَـوْنُ إجْـراءٍ ما يُوافق «ٱلشَّـرْعيَّة ٱلْـقانُونيَّة» لَـا يُعْـطِـيه “ٱلْمَـشْـرُوعيّة” حتّى يُـقْـبَـلَ لدى عُموم ٱلْمُواطِنين، أو كوْن تعديد ٱلزَّوْجات ذا شَـرْعيّةٍ دينيّةٍ وقانونيَّةٍ لَـا يُوجب أنّ له “ٱلْـمَشْـرُوعيّة” في نظر كُـلّ ٱلنّاس). وإذَا كان ٱلشّيخُ لَـا يزال مُتعثِّـرًا أو مُتلَكِّـئًا في إدْراكـ ذلكـ، فإنَّـه لَـا يَدُلّ إِلَّـا على كوْنه يبقى أسيرًا بين يديْ ثقافته ٱلتَّـقْليديّة ٱلْخاصّة ولَـا سِـيَّـما أنّ ٱلْـمُخاطَـبِـين في زمننا من عُـمُوم ٱلمُتعـلِّمين لنْ يَجِـدُوا صُعوبةً في فهْم مَدْلُول “ٱلْـمشْـروعيّة” (هَـلْ من جَـدْوى في تَذْكيــرِ ٱلشّيْخ بأنّ كلّ تَـلَـاميذ ٱلسّنة ٱلثّانية بكالُـوريا، مُنذ نحو عَـقْـدَيْـن على ٱلْـأَقَـلّ، يَـدْرُسُون في إطار مفهوم “ٱلدَّوْلة” مُشْـكِـلة مَـشْـرُوعيَّـتها؟!)؛
3.3- أخيرًا وليس حقيرًا، يَـبْـتهج ٱلشّيْخ “السـريري” بأَنْ يَـتحدَّثَ عن تغيير مَعاني ٱلْـأَلْـفاظ كأنّها جنايةٌ بِـلَـا نظير. لكنَّ ٱللُّـغةَ كُـلَّها لَـا تُسْتعمَل إِلَّـا بما هي نَسقٌ صُـوْرِيٌّ يُـتيح ٱلْـإبْـدالَ وٱلْـإعْـلَـالَ وٱلْـإضْـمارَ وٱلْـإِعْـمالَ وٱلْـإهْـمالَ. ولِـذَا، فما يفعلُه ٱلشّيْخُ يضعه بين أشدّ ٱلنّاس غَـفْـلةً عن ٱلْجنايات ٱلْـقائمة في ٱلْـواقع، ذلكـ بأنَّ ٱلْـأَوْلى بِـ”ٱلْـفقيه ٱلْـأُصُوليّ” أنْ يُـنْكِـرَ ٱلْمُنْـكَـر ٱلْـأَعْـظَم ٱلْمُتعيِّـن إفْسادًا مُتوسِّعًا لكُلٍّ شـيْءٍ مَخْلُوق بما في ذلكـ ٱلْـإنسان ذاته. ولِـأنّ لسانَ ٱلْعرب قد نُـقِـضتْ عُـراه نَحْـوًا وتركيبًا ودلَـالةً إلى حدٍّ بعيدٍ، فَـلَـا جناية بعد أَعْـظم من نقض ٱلْـإنْسان بٱلدَّعْـوة إلى مَسْخه ونَسْخه كأنّه نافلٌ بين ٱلْعالَـمين. غير أنّ فَـقيهَنا لَـا يكاد يُسْمَع له صوتٌ في أُمَّهات ٱلْمُشْـكِـلَـات ٱلتي تُحيط بٱلْعِـباد من كُلّ جانبٍ. وبعيدًا عن أَيِّ إرادةٍ للتَّشْنيع عليه أو ٱلتَّـهْـوين من قَـدْره، فإنّ ما يَعْـنينا هنا هو أخصّ ما يَـشْتغل به من “ٱلْـفقه” وأُصوله؛ وهو ما يَـفْـرِض ٱلتَّـنْبيهَ على أَمْـرٍ ذِي بالٍ، إنّه ٱلْـإصْـرار على ٱلِـﭑشْـتغال ٱلْمَيِّت بٱلْعُلُوم ٱلدِّينيّة. وهل في مَـيِّت ٱلْـأَشْـياء وٱلْـأَفعال ما هو أشدّ من حفظ ٱلشّكْـل وٱلْعَـماية عن ٱلرُّوح؟! أَلَـيْس من ٱلْـموت شَغْـلُ ٱلنّاس بأُمُـور ٱلْـأَحْـكام ٱلْـفرعيّة وٱلسُّكُوت عن شُـرُوط تطبيقها في ٱلْـواقع ٱلْعَـيْـنيّ ٱلذي ما فتئ يَـتحكَّم فيه عُـتاة ٱلْمُفْـسدِين من كُـفَّار ومَـلَـاحِـدة ومُبْـطلِين حتّى بين ٱلْمُسْلِـمين أنْفُسهم؟! أَلَـمْ يانِ ٱلْـأَوانُ ليَشْـتغلَ “ٱلْـفقيهُ” بأسئلةٍ أُخْـرى غير سُؤال «ما حُـكْمُ ٱلشَّـرْع في كذا أو كذا؟» أو سُؤال «ما ٱلطّريق ٱلصحيح لِـﭑسْتنباط ٱلْحُكْم ٱلشَّـرْعيّ من ٱلْـأَدلَّة ٱلْمعلُومة؟». أَلَيْـس من ٱلْـأَجدر في ظِـلِّ وُجود آلَـاف ٱلْـأَحكام وٱلْـفتاوى أن تُـطْـرَح بقُـوَّة أسئلةٌ من قبيل «ما ٱلسّبيل إلى جعل ٱلْمُسْـلِـمين يُقْـبِـلُون إقْـبالًـا على ٱلْعمل بٱلْمَعْـلُوم من أَحْكام شريعتهم؟» أو «ما هي ٱلشُّـرُوط ٱلْعَـيْـنيّة ٱلتي من شأْنها أن تُمَكِّـن للتّحقُّق بٱلشَّـرْع في كُلّ ما يَكْـفُل لِلْمُسْلِمين أن يَـرْجِعوا إلى مَسْـرَح ٱلتّاريخ بُـناةً وأَعِـزَّةً وقُـدُواتٍ؟» أو «كيف يُصار بٱلتَّـفقُّه ليَقُوم تَخَـلُّـقًا حيًّا يُغذِّي رُوحَ ٱلْعملَ بدل أنْ يَـتسيَّد تَعالُمًا وتَسلُّطًا فيخدم سَـلَـاطِـين ٱلزّمان عبْر ٱلْـأَرْض؟» أو «كيف يُمْكِـن أنْ يَـتأتّى ٱلْعملُ بأَحْكام ٱلشَّـرْع بحيث تَصِيرُ مَدْعاةً إلى أن تُـقْـبَلَ من عُمُوم ٱلنّاس فيَجِـدُون حينها في ٱلْعمل ٱلْحيّ ما يَصُونُ إنْسانيَّـتَهم ويَـرْفَـع هِـمَّـتَهم؟». لعلّ هذه ٱلْـأَسئلة هي ٱلتي يحتاج ٱلْـمُسْـلِـمُ إلى أن يُشْتغَل بٱلْجواب عنها لكوْنها ٱلْـآن أوْثقَ صِلةً بـمَعِـيشه ٱلْيَـوْميّ. وإنّه لمن ٱلْمُؤْسِف جِـدًّا أن يبدو ٱلشّيخُ “ٱلسـريري” (وكُـلّ من على شاكلته) مأخُوذًا بعيدًا عن تلكـ ٱلْـأَسئلة وقانِعًا بـإرْسال ٱلْـكَـلَـام عمّا يَظُنُّه جِنايةً في عمل من يُمارِس حقَّه في ٱلتَّـفكير وٱلتّعبير بحثًا عن بِناء شـيءٍ يَـلِـيق به من حيث هو مُـسْـلِـمٌ يُضِـيرُه أن يُتْـرَكَـ عِـبادُ ٱللَّـه عُـرْضةً لِلتَّضْـليل وٱلتَّسْـخير بـﭑسْم ٱلدِّين عيْنه!