المنهج التّاريخي المادّي وتحليل الخطاب الشّرعي.. رؤية نقديّة من خلال المنهج الأصولي
مقدّمة:
كانت قضيّة قراءة النّص الدّيني -ولا تزال- محطّ اهتمام الدّارسين قديما وحديثا، ذلك أنها قضيّة منهج على ضوئه يعرض خطاب الشارع بقصد فهمه وتفسيره وتأويله، ولم يختلف الناس في طرق تلقّي ثبوت النصّ الديني وتلقّيه اختلافهم في كيفيّة فهمه وضبط دلالاته؛ ذلك أن صيانته من التحريف والتبديل أمر تكلّف به الله تعالى وعدا منه في سابق الأزل، وهو مقتضى قوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: 9]، وكان من تمام حفظ الذكر حفظ ما به يُبيَّن، وهي السنة النبوية قولا وفعلا وإقرار.
لقد افترض إمام الحرمين (ت 478 هـ) قديما إمكانية اندراس الشريعة، ومعناها عنده غياب المجتهد القائم بفهمها وتأويل نصوصها لا غياب النصّ الدّيني؛[1] وكان هذا من أسباب تأليفه لكتابه الموسوم بـ: غِياث الأُمَم في الْتِياثِ الظُّلَم؛ سعيا منه في تخفيف الوطأة على المفتين، ومبيّنا فيه ما يجب الالتزام به من أمور الشريعة في حال ما إذا حصل هذا الافتراض في الوجود.[2]
إن غياب القائم بفهم النّصّ الدّيني هو المعنى الذي يشتمل عليه الحديث الشريف إذ يقول عليه السلام: “إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جُهّالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلّوا وأضلّوا”[3]. وهذا ظاهر مصرِّح بأن رفع العلم ليس رفعا للنصّ الدّيني، وإنما وهو رفع للعالم المتأهِّل لفهمه وبيانه وتنزيله.
وقد كان مما احتفظ به التاريخ كتاب: “فضائح الباطنيّة” لأبي حامد الغزالي (ت 505 هـ)، وهو سِفْر يحكمه سياق خاصّ، يتجلّى في ظهور طائفة من أهل المعرفة تدعو إلى منهج جديد في فهم الشريعة، قائم على تأويل لا ضوابط له، بدعوى أن للقرآن ظاهرا وباطنا، فظاهره هو ما يعرفه الناس جميعا، وباطنه هو ما يقدّمونه من تأويلات لا تتناسب مع نصوص الوحي ولا سياقاته، وذلك بقصد إفراغ الشريعة من مضامينها التكليفيّة مع الحفاظ على رسومها، وأيّ فائدة في الرسوم بعد إبطال المعاني؟[4] وقد قصد الغزالي من وراء هذا الكتاب بيان تهافت هذا المنهج الباطني وسقوطه، وقد تمكّن من نسْفه مستعملا في ذلك آليات علم المنطق والجدل والمناظرة، من قلب للسؤال، والاعتراض، والمعارضة، وإبداء الاحتمالات في تأويلاتهم ودعاويهم.[5]
وقد برزت في القرن العشرين مناهج جديدة تمّ تطبيقها في مجال الدراسات الأدبية والفلسفيّة، ونادى جملة من المثقّفين بضرورة إعمالها في النّص الدّيني؛ بغية الوصول إلى معان تتوافق مع العصر ومقتضياته؛ بدعوى أن النصّ من حيث هو نصّ يخضع لمتغيرات تاريخية تتدخّل فيها ثقافة المجتمع، وهو ما حصل في نصّ القرآن في نظر نصر حامد أبو زيد،[6] كما اعتبره البعض وثيقة تاريخيّة نزلت في ظروف تاريخية معيّنة، بحسب معطيات الزمان والمكان الذي نزل فيه، ومن ثمّ، فلا ينبغي استرسال أحكامه على زمن غير زمانه، ومكان غير مكانه.
من هذه المناهج المنهجُ التاريخي المادّي الذي تبنّتْه طائفة من النخبة المثقّفة في البلدان العربيّة، ودعت إلى اعتماده في فهم الخطاب الشرعي، ومن أبرز من دعا إلى ذلك الدكتور محمّد عابد الجابري، وعبد الله العروي، فقد نافح كلاهما عن هذا الطرح بقوّة، وتجاوزا معا ما رسمه الفكر الأصولي من تراكمات منهجية ومعرفيّة. أما الأول، ففيما قدّمه تفسيرا للقرآن الكريم، وذلك في كتابه الموسوم بعنوان: “فهم القرآن الحكيم: التفسير الواضح حسب ترتيب النزول“. وأما الثاني ففي كتابه الموسوم بعنوان: “السنة والإصلاح”.
ما سنتطرق له في هذا المقال عبارة عن فحص لما قدّمه كلّ من الجابري والعروي من الناحية المنهجية؛ إذ سعى كل منهما من وجهة نظره إلى تنزيل مقتضيات المنهج التاريخي على فهم الخطاب الشرعي عموما، والقرآنِ على وجه الخصوص؛ باعتبار أن القرآن هو المصدر الأول للشريعة، وما السنة إلا بيان وشرح لمعانيه،[7] وذلك في مبحثين اثنين، أولهما: في المنهج التاريخي المادّي: آليات ومآلات، وثانيهما: في النظر الأصولي ونقد المعرفة.
لاستكمال قراءة الدراسة كاملة يمكنكم تحميلها بصيغة PDF عبر النقر هنا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] انظر: غياث الأمم في التياث الظُّلم، أبو المعالي الجويني، تحقيق د. فؤاد عبد المنعم، د. مصطفى حلمي، 1979م، دار الدعوة- الإسكندرية، ص 285.
[2] انظر: المصدر نفسه، ص 309.
[3] صحيح البخاري، كتاب العلم، باب: كيف يقبض العلم؟
[4] يذكر محمد عابد الجابري أن الحركة الباطنيّة كانت ذات مرجعيّة فلسفيّة؛ إذ إنها كانت متسلّحة بالفلسفة الهرمسيّة، وقد كانت تستثمر بعض مقدّماتها فيما يذهبون إليه من تأويل. انظر: مقدمة الدكتور محمد عابد الجابري على كتاب ابن رشد: “الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملّة“.
[5] انظر: الباب الخامس من كتاب: فضائح الباطنية، أبو حامد الغزالي، تحقيق عبد الرحمن بدوي، مؤسسة دار الكتب الثقافية – الكويت.
[6] انظر: مفهوم النّص، نصر حامد أبو زيد، 1998، المركز الثقافي العربي- بيروت، ص 24. وقد أورد الدكتور منذر عياشي رأي حامد أبو زيد ثم ردّ عليه في سياق الحديث عن إبلاس القرآن. انظر: القرآن: من بناء النص إلى بناء العالم، د منذر عياشي، الطبعة الأولى، 2015م، دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع- دمشق، ص 59 فما بعدها.
[7] جاءت الدعوة إلى هذه المناهج في سياق البحث عن الخروج من التخلّف الذي فوجئت به الأمة إثر الطفرة التي حققها الغرب على جميع المستويات، وهو الوضع الذي عبّر عنه الأمير شكيب أرسلان من خلال كتابه الموسوم بـ: لماذا تقدّم الغرب وتأخّر المسلمون؟ فتمّت المناداة من قبل النخبة المثقّفة بتبنّي المناهج التي اعتمدها الغرب في تحليل النصوص، ولئن كان الغرب قد اعتمدها في النصوص الأدبية والوقائع التاريخيّة وكل ما له صبغة تراثية، فإن المثقفين العرب دعوا إلى اعتمادها في تحليل الخطاب الشرعي، وهذا الذي يجعل الأمر أكثر خطورة؛ لأجل الفرق بين الخطاب الشرعي وبين غيره من أي عمل أدبي أو تاريخي.