المرصفيُّ وعِمامةُ الأدب
“عرفت بفضله أسرار اللغة العربية، واستطعت بفضله أن أرفع رأسي بين أساتذة الأدب، وحملة الأقلام”
زكي مبارك / مجلة الرّسالة/ ع 397
في زمن كان فيه الأزهر كعبة اللّغة ومحضنها، وقطب رحى الدّين ومعبده،وقد مضى على إرساء قواعده العلميّة والمعرفية ما يربو على ألف عام، رغم ما لقيه من جحود ونكران،فويل للأزهر من أهله، وقد رتع الناس في ربيعة حتى شبعوا(1) ؛ خاض الأدب ودرسُه معركة التيه وفقدان البوصلة في مرحلة لم يُقيّد له الدّهر فيها بعد من يُرتّب أوصاله ويعيد هيبته؛ ومادامت الثقافة العربية جزءا من اهتمامات النهضة العربية، التي صادفت أفشالاً معروفة في القرن التاسع عشر، وإن حالفها الحظ في بعض جوانبها (2)؛ فقد عرفت هي كذلك صراع منهجٍ ومضمونٍ متأرجحَيْن بين ثِقل إرثِ “الأصالة ” و ضرورات ” المُعاصرة “، أو ما اصطُلح عليه فيما بعدُ بصراع “القديم و الجديد”، أو معارك “التراثيين و الحداثيين”(3).
ولمّا كان بين اللغة و بين علم الأدب نسبٌ ووشائجُ قويّة(4)، إذ لا تقوم قائمة لأحدهما إلاّ بالآخَر، فقد أسهم بعض الأزهريين في الرّفع من شأن الأدب موازنة بعلم اللغة، ومنحوا درس الأدب مثابة خاصة لم تكن لديه آنَ كان الأزهر يركّز اهتمامه على علوم اللغة من صرف ونحو وبلاغة وما لفّ لفّها، وكان أهمّهم الإمام سيّد بن عليّ المرصَفيّ،وهو عصَبُ مقالتنا وموضوعها، وقد اخترناه من بين جموع مشايخ الأزهر أوّلا لاهتمامه بما يمكن للغة أن تمنحنا إياه من لذةٍ في تذوق النص النثري والشعري_ وإن سبقه حقيقة إلى ذلك ابن بلده حسين المرصفيّ _(5)، بعيداً عن قواعد اللغة الصّلبة، وبتعبير طه حسين: ” كان له ميل شديد عن النحو والصرف وما ألف الأزهريون من علوم البلاغة “(6)؛ ثانيا لكونه أوّل من أرسى كرسيّ الأدب فأصبح شيخ عَموده، متجرّئا على نقد “قِدّيسي” التراث، وقد أكّد زكي مبارك هذا الأمر بقوله: ” كان المرصفيّ أول رجل تسامى إلى نقد مؤلفات الأكابر من القدماء، وكان أول رجل أقرّ كرسيّ الأدب بالأزهر الشريف، وكان أول رجل جعل للأديب مكانة بين جماعة كبار العلماء، فكان بكلّ الصفات أوحد عصره بلا جدال.”(7) ؛ثالثا لكونه مدرسةً قائمة بذاتها،وقد تخرّج على يديه أكابر صانعي النهضة الثقافية العربية(8).
أما إمامنا فهو سيّد بن عليّ المرصفيّ (1857_1931م) المولود بالمرصفا، إحدى قرى القليوبيّة بمصر، وهي بلدة أنبتت الكثير من الأدباء والعلماء(ومنهم حسين المرصفي المذكور)، نشأ بها على ما ينشأ عليه أقرانه من حفظ متون دينية ولغوية، التحق بعدها بالأزهر فنهل من علمه وارتوى بثقافته، وشبّ مطبوعا على الجدّ والمثابرة بهمّة لا يتطرّق إليها الملل. كان ذا ميلٍ شديد إلى كتب الأدب العربيّ يُقلّبُ فيها نظره، ناهلاً من روائعه؛كما أكبّ على دراسة الكتب اللغوية دراسة دقيقة،واقفا على أسرارها، مُكْتَنهاً دقائقها، ك”الكامل” للمُبرّد، و”الأمالي” لأبي عليّ القالي و”الحماسة” لأبي تمام وغيرها. أخذ المرصفيّ العلم من شيوخ كُثُر أهمهم الشيخ الشربيني ( شيخ الجامع الأزهر سابقا) والشيخ عبد الهادي نجا الإبياري والشيخ مصطفى المبلط وغيرهم.
عمل المرصفيّ أول الأمر معلّما للّغة العربية في مدرسة عباس باشا الابتدائية ببولاق، تزامنا مع إلقائه بعض الدروس_ تحسينا لوضعه المادّيّ_ بجامع الزّاهد، ثم انتقل بعد فترة إلى التدريس بالأزهر؛وقد حفظت كتب التراجم قولته الشهيرة :”ذهبنا إلى المدارس فوجدناها نظاما بلا علم، وجئنا إلى الأزهر فوجدناه علما بلا نظام”. هنالك، أي في الأزهر،أعاد المرصفيّ الهيبة للأدب كعلم قائم الذات بعدما كان مجرّد لطائف ونوادر،أو نافلة ينساق إليها الحديث استطرادا، فاتجهت عزيمة شيخنا إلى تدريس الأدب، وقد تصادف هذا مع عزيمة الشيخ محمد عبده على إصلاح نُظم التدريس الأزهرية وإعادة بناء مخطط تعليميّ آخر يستجيب لشغف جيل بأكمله(9)، وكان من حظ المرصفي أن تواشجت عزيمته بعزيمة الإمام عبده بخصوص توسيع آفاق تدريس الآداب وترويج الثقافة العربية؛ فكان أن عُهد لشيخنا تدريس كتاب الكامل للمبرّد والأمالي لأبي عليّ القالي و الحماسة لأبي تمام، كما درّس العديد من كتب اللغة والأدب العربي، وقد مُنح في عهد الشيخ عبد الرحمن قراعة عضويّة جماعة كبار العلماء، ولعلّه _ بشهادة محمد كامل الفقي_ أول عالم أزهريّ تمحّض درسه للأدب، كما كَرهه الأزهريون لأنه لا يُدرّس إلا الأدب(10). فكان أوّل من تسلّم شهادة العالِمية عن ذلك. في سنة 1913 عُيّن المرصفيّ مُصحّحا بدار الكتب المصريّة، وقد صحّح كتاب أساس البلاغة للزمخشري وكتاب الطراز ليحيى بن حمزة العلوي اليمني.(11)
كانت حلقة درس المرصفيّ مجمعاً يضم الأدباء والشعراء على اختلافٍ في مذاهبهم ومرجعياتهم وبيئاتهم، إذ لم تكن تضم الأزهريين فحسب، وإنما انفتحت على عشاق الأدب أجمعين، وقد دأب على ذلك حتى تخرّج على يديه فحول الأدب والشعر في مصر، حتى جزم بعض تلامذته بأنه رأى جميع الأدباء والشعراء في درس المرصفيّ ينتفعون بأدبه وتوجيهاته(12).
تصدّى المرصفي في دروسه الأزهرية أساسا لتقديم وشرح ثلاثة كتب ، كان في اختيارها مراعيا بلوغ التوازن بين علم اللغة وعلم الأدب،فشاء أن يكون “الكامل” للمبرّد في تقعيد اللغة، و “الحماسة” لأبي تمام في التذوق الأدبي الشعري، أمّا “الأمالي” للقالي فكتاب ضمّ اللغة مستقاةً من معادنها والأدب مأخوذا من مَهايِعِه وعيونه، فجمع شيخنا بهذا التوليف الثلاثي لطلابه فوائد تلكم الكتب، إضافة إلى ما تجود به قريحته من لطائف ونوادر من عيون التراث الأدبي العربيّ، وكم كان يُبهر تلامذته بحجم محفوظه من المنظوم والمنثور، متغنّياً بالأبيات الفخمة الجَزْلة، طرِبًا بها، مبالغا في استحسانها و إظهار الإعجاب والتأثر بها، معيداً إياها في صوت رقيق ونغمة عذبة، طالبا من تلامذته مشاركته إعجابه، فتتولّد لديهم تلك الذائقة النقدية، فتنشأ لديهم ملكة القراءة التذوّقية. وكان ينتهج في دروسه نهج الأقدمين من اللغويين والأدباء أمثال أبي العباس ثعلب والرّياشي وأبي عمرو بن العلاء، شارحاً ما بين يديه شرحاً دقيقا،ناقدا ما يصادفه من غلط أو مُجافاة، متبسّطا في نقده نافذا إلى الأعماق فيما يرمي إليه، دون تكلّف أسجاعٍ على مذهب أرباب الصناعة وتحذّق في الإغراب(13). كما عُرف عن المرصفيّ _ بشهادة محمود شاكر_ عشقه للمخطوطات حين اشتغل أوّل أمره مُصحّحاً في دار الكتب كما ذكرنا، وقد نشر كتابا واحدا وهو الجزء الأول من كتاب “الخصائص” لابن جنى، وهي الطبعة الأولى، قبل أن يطبعه كاملا الشيخ النجار في ثلاثة أجزاء. فهذا الرجل بقي في دار الكتب سنين يشتغل مصححا وكانت له خبرة بجميع كتب الأدب التي كانت في دار الكتب؛ وفي كتابه رغبة الآمل رجع إلى مخطوطة ديوان ابن مُقبل، وهي من المخطوطات النادرة، إلى درجة أن أحداً لم يهتد إليها بعد وفاة المرصفيّ !(14).
ظلّ شيخنا وفيّا للتدريس شرحا وتعليقا ونقدا وتوجيها، وقد خلّف، إضافة إلى “رغبة الآمل” و”أسرار الحماسة” المطبوعين، “شرح الأمالي” و “تصحيح لسان العرب” ، “شرح العقد الفريد لابن عبد ربه” وهي مخطوطات غير مطبوعة للأسف؛ وقد دأب على ما قلنا إلى أن كُسرت ساقه في حادث في بيته أواخر عمره، فلبث كذلك إلى أن وافته المنيّة في الثاني عشر من فبراير سنة 1931؛ وقد حدّثنا محمود شاكر في الطّبقات قائلا:” دخلت أعود شيخي رحمه الله _ سيّد بن عليّ المرصفيّ، وقد كسرت ساقه، فلمّا رآني أنشدني هذه الأبيات…”(15)؛ كما لمّح شاكر إلى بضعة أوصاف من أوصاف أستاذه في كلّ حركاته وسكناته حين يكون ملء انخراطه في الشرح والتفسير والتذوّق الشعري، فأيَّ علاّمةٍ ذوّاقةٍ كان ! (16).
المرصفيّ والكِتابان…
خلّف _ كما أسلفنا ذِكراً_ كتابين مطبوعين هما: رغبة الآمل من كتاب الكامل، وهو شرح لكامل المُبرّد (17)مطبوع في ثمانية أجزاء سنة 1927؛ أما الثاني فهو أسرار الحماسة، وهو شرحٌ لكتاب الحماسة لأبي تمام،طُبع الجزء الأوّل منه سنة 1913؛ وهما مما أقرّه المرصفيّ في دروسه خلال مدّة أستاذيته في الأزهر. فيفترض إذن إلقاء أضواء عليهما وتعريف القارئ بفحاويهما، باعتبارهما من أهم ما أنتجته عقول القرن العشرين.
_ رغبة الآمل من كتاب الكامل : حَسَرَ المرصفيّ عن ذراعه وكشف عن ساقه، مُبِينا عن لياقات في النقد والشرح والتحليل غير عادية، أو على الأقل، لم تكن مألوفة بين أعمدة الأزهر قبله، خاصة إذا علمنا أنّ الأزهريّ _ إلاّ في ما ندر_ لا يدخل في جدال مع السّلف، بلهَ تغليطهم وتسفيه أقوالهم، فهذه جرأة وقلّة أدب في عُرفِه، و الواجب التماس العذر والعُذريْن لهم، حفاظا على قدر أدنى من هيبتهم، لفضلِ سَبْقٍ حازوه، ولأنهم ضربوا أكباد الإبل في حَرّةِ القيظِ وقَرّة الشّتاء مقتفين آثار العلم ومعالمه، وهم أقربُ إلى مظانّ المعرفة من غيرهم من المحدثين؛ غير أن المرصفيّ، وهو المعروف بقناته الصّليبة وحجّته البليغة ومعرفة أصيلة بدقائق اللغة وبأسرار الشعر والنثر، يُصوّب حين يقتضي الأمر التصويب، ويُغلّط حين يدعو الأمر إلى ذلك، غير واقفٍ موقف تقديس الأوّلين أو النظر إليهم نظرة تحيطهم بهالة من العصمة والكمال، وإن كان بصدد خير كتاب أُخرِجَ لأولي الآداب(18)؛ ولعلّ المرصفيّ بهذا لم يُخالف نهج من سبقوه إلى تنبيه الأوائل إلى نقصان شابَ تآليفهم،وهو أمر طبيعي، فقد نُبّه المبرّدُ نفسه وغيره قبلاً إلى أغاليط حادوا فيها عن سُنن الصّواب في الرّواية والدّراية، ولعلنا نذكر مثالا كتاب التنبيه على أغاليط الرّواة لعلي بن حمزة البصري (ت 375هـ)(19)، وكتاب أغاليط النحويين لأبي جعفر النحاس (ت 338ه)، وكتاب التنبيهات على ما في التِّبيان من التمويهات لأبي المُطَرِّف بن عَميرة ( ت 658ه ) وغيرها مما لم تسقط عليه عين وتبلغه يد.
لقد أحسن شيخنا في كتابه الشارح حتى أوفى على الغاية، جاعلا إيّاه بنفسه مكتفيا يستغني به الدّارس عن كل كتاب آخر. وقد عمد المرصفيّ إلى شرح الغامض والغريب وتذليل العبارة وجعلها سهلة التّلقي. يبدأ بتدقيق حركات الكلمة المبهمة( أو بعبارة : ضبطها فلان بكذا)، فينتقل إلى شرحها لغويا ودلاليا في سياقات مختلفة من منظوم العرب ومنثورهم، وقد ينبّه إلى انتقالها نحوا وصرفا في لغات العرب المختلفة،كقوله في الكُنية :” كنيتُ الرّجل وكنوْتُ لُغتان”(20)؛ وإذا تعلّق الأمر بإثبات النّسب ألفيتَ شيخنا نسّابةً عارفا، كأنه ابن حزم في جمهرته، ويَتأكّد هذا مثالا بإثباته نسب عُرَيْنَةَ اليمنيّ في هجاء جرير(21). أما إذا تعلّق الأمر بالشعر، فيعرض البيت برواياته المتعددة، مرجّحا رواية على رواية، شارحا البيت مفردةً مفردةً ثم البيتَ مجموعاً، وقد يورد القصيدة بحيالها مُذَيّلا إياها بتعليق أو بتصويب في موضع ما، لأنّ المبرّد في كتابه قد يورِدُ البيت والقصيدة من حفظه دون التحقق من صواب كلمة أو عبارة، والحق أنّ الكامل كتابُ محفوظات في اللغة والأدب، ولم ينحُ فيه أبو العبّاس منحى التحقيق والضبط، والمبرّد على كلّ حال معدود من النّحاة واللغويين وإن كان شامل الثقافة والمعرفة، ونجد المرصفيّ يعلق على بيت علقمةَ بن معبد المازنيّ :
ألم ترَ أنّ للفتيان حظّاً // وحظُّكَ في البغاياَ والقِمارِ
قائلا: “(القمار) وصوابه العُقار، وهو اسم للخمرة…” ، و في بيت :
لها ذَنَبٌ ضافٍ وذِفْرَى أسيلَةٌ // وخدٌّ كمرآةِ الغريبةِ أسْجَحُ
يقول : ” ( لها ذنبٌ ضافٍ ) هذا غلط ورواية ديوانه ( لها أُذُنٌ حَشْرٌ وذِفْرى أسيلةٌ )” (22)؛ وذانك مثالان منتخبان من مئات التصويبات على مدى أجزاء الكتاب. ولقد وجدنا المرصفيّ عازم النية في مقدمة كتابه على تصفية مبهمات الكامل وتبيان فوائده وإكثار عوائده، وكأنه
انتوى كَسْرَ هذه الأجزاء الثمانية من رغبة الآمل لهذا الغرض بالذات، وسيجد القارئ عبارات تمسّ المُبرّد رأساً وإن كان التنبيه إلى الصواب ليس من العيب في شيء،كعبارة “سها المبرّد ” و ” غلط أبو العبّاس “، ولكننا نجد شيخنا يقسو حينا على أستاذه أبي العبّاس بلغة كلّها حَيْدَةٌ عن سماحةِ العارفِ وحِلم العالم، خاصة حين يضيق صدره بأبي العبّاس حين ينسب بيتا من الشعر لغير قائله فيعبّر في غلظة ب : ” كذب المبرّد ! ” أو بنوع من قسوة غير مُبرّرة بتعبير ” هذا خلط وجهالة ! “، ولعلّ العبارات كهاته لا تخرج من قلم عالِمٍ إلاّ بشيء وَقرَ في النّفس لا في العقل، لأن العقل يدعوك إلى وصف العسل بجناءِ النّحل لا بقيء الزّنابير ! (23)،_ وهذا يعلمه المرء يملك خيطاً من وعي، فما بالك بعالِم ! _؛ وقد صدق تلميذه واصفاً إيّاه ب : ” المرصفي الذي أقام البراهين على أنّ مصرَ وُجد فيها رجل يُصاول المبرّد، ويمشي إليه مَشْيَ البازِلِ إلى البازِل في شراسةٍ وكبرياء”(24)؛ ونضيف وصف السباعي بيّومي_ صاحب تهذيب الكامل_ قائلا: ” كان شديد التحامل على المبرّد والتشهير به فيما يظن أن المبرّد أخطأ فيه.”(25). ولكننا نهتم لما يُجتنى من الكتاب دون الحفر في سقطات صاحبه، وما ضرّ البحر أن تغرق فيه ذُبابة…
_ أسرار الحماسة : وقد طُبع منه الجزء الأول فقط فيما نعلم، وهذا _ إن صحّ_ تقصير بواحٌ في حق الرّجل وفي حقّ الثقافة عامة؛ وسيجده القارئ على نفس نهج رغبة الآمل ونَفَس المرصفيّ في النقد والشرح والتصويب، غير حائدٍ عن المعجم المفاهيمي المتداول مع المبرّد، فتجده يتحدث عن أبي تمام غامزا قناة ذوقه واختياراته قائلا :” سامحه الله تعالى،كثيرا ما كان يعتمد على ذوقه، فأحيانا يقدم ويؤخر في أبياته، وأحيانا يبدل بعض كلمات العرب بكلماته، وربما حذف ما يحتاج إليه المعنى فيختلّ المبنى وقد عبثت به أيدي روّاته بجمعه.”(26)؛ وكم أنحى باللائمة كذلك على قدماء الكتّاب الذين يملأون كتبهم بصناعة الإعراب والبناء وتحقيق ما نحاه ابن خروف والفرّاء، غير عابئين بأوضاع اللغة، مخطئين في بيان ما يقصده الشعراء وما يشعرون؛ فنجده يقول شارحا البيت :
ألاَ أبلِغا خُلّتي راشداً // وصِنْوي قديماً إذا ما اتّصَلْ
” ( وصنوي قديما إذا ما اتّصل) كذا صنعه أبو تمام،قدّم بعض الكلمات وغيّر بعضها،فاختلّ معناها…فيكون المعنى أبلغا ابن عمي إذا ما انتسب قديما، ولا معنى له، وإنما الرواية : ( قديما وصنوي إذا ما نَصِلْ )،يريدُ أبلغا ابن عمي راشدا،صديقي من عهد قديم،إذا وصلتُ إليه “(27).
ولعلّ المرصفيّ استطاع في هذا الكتاب _ وقد حالفه التوفيق_ تقريب حماسة أبي تمام من طلبته، معتمدا في رواية الشعر على صدق الرّواية، وفي نقل اللغة على ثقة الدّراية. ولقد وقع اختيار المرصفيّ على الحماسة_كما هو معروف_ لأنه جمع مُستجادَ العرب من شعر الأقدمين والمُحدثين،مُرتّبا على عشرة أبواب، أوّلها باب الحماسة وآخرها باب المُلح والنوادر، أما اختيار عنوان “الحماسة” فلأن الكلمة أجزل لفظا وأفخم معنى وأغزر مادّة(28).
يبدو أن المرصفيّ ما كان مستعدا البتة لتغيير طريقته النقدية المتسمة بالحزم وبالصّرامة المنهجية، ولعلّ انتهاجه منهج القدماء في التعاطي مع العبارة الأدبية شعرا ونثرا، دليل على أنه منهج مازال حيّا، مُثبِتًا فاعليّته وإن مضت عليه قرونٌ من الزمان، وإن كانت تشوبه بعض النواقص، خاصة فيما يتعلّق بالدوافع النفسية المتحكمة في كلّ إبداع أدبي كيفما كان، فالناقد في غابر الدّهر يهتم بشكل كبير بقدرات الأديب البيانية والبلاغية، ناظرا إلى الإبداع نظرة عمودية يأخذ منها الجانب اللغوي مأخذا أكبر،غاضّا الطّرف عن كلّ سبب من الأسباب النفسية والانفعالية التي أسّست هذه القصيدة أو هذه الرّسالة أو غيرها من فنون القول؛ وإننا نوافق الزّيّات،تلميذ المرصفيّ، فيما أشار إليه من ضعف في النقد عند العرب وارتكازه على الجانب الشكلي في معظمه(29). فلا نستبعد إذن _ وهي شهادة تلامذته كذلك _ أن يكون شرحه الأمالي على نفس المنهج النقدي السائر على أسرار الحماسة و رغبة الآمل، وهنا كان المرصفيّ أزهريّا خاضعا للسلف وللنمط على مذهب ” هذا ما وجدنا عليه آباءنا…”.
هذا والمرصفيّ ناثرٌ كما رأيتَ، وإن أردتَه شاعراً فهو كذلك أيضا وإن كان مُقِلاّ، وشعره شعرُ علماء، متين النسج قويّ الديباجة مُحكمُ الصّنعة، متناولا فيه موضوعات الدين والتاريخ و أحوال الناس على سنّة السابقين؛ وله ديوان مخطوط يجمع طائفة ضخمة من أشعاره التي قيلت في كافّة الأغراض، كما أن له تخميسا سمّاه ( الدّرّ الذي انسجم على لامية العجم)، وقد نظمه قياما بواجب الأدب وأخذاً بنصرة لغة العرب(30).
أما بعد، فإن للقبر حُرمته المعلومة وصمته الرّهيب، ولكننا أتينا اليوم نقف على شاهدته نستنطقها حياة الرّجل وما صنعت يداه، وإن سُئِلنا فيه زيادةً على ما سبق ذكره، أجبنا بأنّ مجد المرء تبدو طلائعه دون انتظار نهاياته، وحسبك من القلادة ما أحاط بالعنق؛ فيكفي في مهيع الأدب العربي شرفاً ومجداً شرح الكامل للمبرّد، فهو مانحٌ بلا شك صاحبَه صكّا من صكوك الخلود، كما منحت ” لا تعذليه ” ابنَ زريقٍ البغداديّ تذكرة سفر عبر الزّمن وسلطةً تجعله أبقى من الدّهر نفسه…كيف وشرح الكامل في مخلاة المرصفي، مضافاً إليه ما قرأتَ أعلاه من مؤلفات، إلى جانب بعث للهمم وشحذ للعزائم في إنضاج المَلَكات، وتربية ما عساه يكون مطويّا في النفوس من مواهب وقدرات؟
لقد جعل المرصفيّ للأدب في عصره عِمامةً أزهريّةً أنيقة جعلته يُرى بمهابته وجلالته وعزّه من بعيد، وقد صدق البشريّ،أحد تلاميذ شيخنا قائلا: “لقد عزّ الأدب في هذا العصر،واستحصد مُلكُه، وعظُم شأنه، بما ارتَصَد لتجليّة الفكر، وأداء مطالب العقل، والتسليّة عن النفس وتلذيذها بكلّ جميل وبديع”(31)؛ فكم كان الأدب _ قبل المرصفيّ_ محض نادرة وطرفة يُلتفت إليها إذا استطرد الحديث بالفقيه واللغويّ النحويّ، غير قاصد، فبلغ قطعة شعر أو نثر، فتصرَّفَ فيها حسب الحاجة، مستشهداً حينا أو مستضحِكاً في أغلب الأحايين. إننا إذن ما ضيّعنا الطريق ونحن قاصدون قبره نستنطقه صنيعَ الأمس وإن كنّا أبناء اليوم، مَلومين على بعث الدّفائن ومنسيّات التّاريخ، مذكّرين إيّاهم أن مصر قد استوى لها في عصر ما أناسٌ اصطفتهم العبقريّة لأداء رسالتها، فكانوا خير من أدّاها مِلءَ طبعهم وجِبِلّتهم، منبّهين إياهم كذلك إلى أنّ الكِنانةَ، بقُدرتها على إدهاش العالم بالحضارة الفرعونية وعجائب الحياة، قادرة كذلك على إدهاش أصحاب الألباب بمعاجز الكُتُب والكُتّاب !
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1_ كثيرون جحدوا دور الأزهر في تكوينهم العلمي والمعرفي، كان أشهرهم الإمام محمد عبده، فقد جاءت في الأعمال الكاملة المحقّقة على يد محمد عمارة عبارته المشهورة :” مكثتُ عشر سنوات لأكنُس وساخات الأزهر من دماغي ! “، ما أدّى إلى اشتجار خصومات بين شيوخ الأزهر وبين هؤلاء ” المتمرّدين”،ونذكّر في هذا المقام بتآليف أُلّفت ردّا على أولئكم دفاعا عن حوزة الأزهر وأهمها كتاب تحذير الأمم من كلب العجم عن الكواكبيّ، وكتاب كشف الأستار عن الإمام الفُشار عن محمد عبده. ويجد القارئ الفاضل كذلك كلاماً مدهشا عن الأزهر والأزهريين لزكي مبارك في كتابه البدائع.
2_ محمد جوادي،الجامع الأزهر باعثا لشرارة النهضة العربية الموسوعية الحديثة، دار الكلمة للنشر والتوزيع، المنصورة، 2016، ص1 . أما موضوع النهضة العربية فقد كُسِرت فيه مؤلفات عديدة يمكن العودة إليها لمزيد تفصيل، أهمها كتاب الأزهر في ألف عام لمؤلّفيْه علي علي صبح و محمد عبد المنعم خفاجي وكتاب تباشير النهضة العربية لوليم الخازن وغيرها…
2_ ومازال الصراع مستمرا على طبيعته، فلعلّه من سنن التّدافع البشري العاديّ المتواصل المُؤسَّس على صراعات الأجيال والفهوم المتعدّدة المحكومة بالاختلاف، وسيظهر هذا الأمر بجلاء في مطلع القرن العشرين كما هو معروف بين التيّار المحافظ وبين التيّار الحديث التجديديّ.
4_ جاء في مقدمة ابن خلدون في معرض حديثه عن علاقة اللغة بعلم الأدب قوله : ” هذا العلم لا موضوع له ، ينظر في إثبات عوارضه أو نفيها، وإنما المقصود منه عند أهل اللسان ثمرته، وهي الإجادة في فني المنظوم والمنثور على أساليب العرب ومناحيهم، فيجمعون لذلك من كلام العرب ما عساه تحصل به الملكة من شعر عالي الطبقة، وسجع متساو في الإجادة، ومسائل من اللغة والنحو مبثوثة أثناء ذلك متفرقة يستقري منها الناظر في الغالب معظم قوانين العربية “. ( ابن خلدون،المقدمة،تحقيق درويش الجويدي، المكتبة العصرية،بيروت، 2005،ص 553 )
5_ نقصد الشيخ الأزهريّ حسين المرصفيّ (1889_1810)، شيخ الأدباء في عصر الخديوي إسماعيل، وهو أوائل أساتذة دار العلوم عند إنشائها، وهو ابن الشيخ أحمد المرصفي ـ المكنى بأبي حلاوة ـ أحد علماء الأزهر الأعلام في عصره. ومن مؤلفاته الوسيلة الأدبية إلى العلوم العربية و دليل المسترشد في فن الإنشاء و رسالة الكلِم الثمان . كان محمود سامي البارودي وأحمد شوقي من تلامذته. ولمزيد تفصيل يُنظر _ مثالا لا حصرا_ كتاب النهضة الإسلامية في سير أعلامها، وكتاب النور الأبهر في طبقات شيوخ الجامع الأزهر وكتاب الأزهر في ألف عام وغيرها …
6_ طه حسين، في الأدب الجاهلي، دار المعارف بمصر، ط 4، القاهرة، 1947، ص 7 .
7_ زكي مبارك ، مقالة الحديث ذو شجون، مجلة الرسالة ، العدد 398، الصادرة بتاريخ 17_02_1941.
8_ للشيخ المرصفيّ تلاميذ من أعيان الدهر منهم : شيوخ الأزهر محمد مصطفى المراغي ومحمد رشيد رضا و مصطفى عبد الرازق وعبد المجيد سليم ، و من الأدباء كامل الكيلاني ومصطفى لطفي المنفلوطي وطه حسين وعبد العزيز البشري وزكي مبارك، ومن اللغويين والمحققين أحمد محمد شاكر ومحمد محيي الدين عبد الحميد ومحمود شاكر، ومن الشعراء علي الجارم وحسن القاياتي وأحمد الزين… وغيرهم. يُنظر ( كتاب النور الأبهر في طبقات شيوخ الجامع الأزهر، محيي الدين الطعمي،دار الجيل، بيروت،1992، ص 46. )
9_ أكّدَ الفكرةَ كذلك الأديب مارون عبود في كتابه أدب العرب في سياق حديثه عن النهضة المصرية ( مؤسسة هنداوي، المملكة المتحدة،2014، ص 305.)
10_ عادل سليمان جمال،جمهرة مقالات محمود شاكر،مكتبة الخانجي، القاهرة ،2003، ج 2، ص 1233.
11_اعتمدنا في جمع تفاصيل سيرة سيد بن علي المرصفيّ على موسوعة الأعلام للزِّرٍكلي،و كتاب الأزهر وأثره في النهضة الأدبية ، وكتاب النور الأبهر في طبقات شيوخ الجامع الأزهر، وكتاب النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين(ج 2)، وكتاب الأزهر في ألف عام، وكتاب لمحة من تاريخ الأزهر، وكتاب الجامع الأزهر باعثا لشرارة النهضة العربية الموسوعية الحديثة ، إضافة إلى ما كتبه طه حسين في ” تجديد ذكرى أبي العلاء” و” في الأدب الجاهلي”،وما كتبه زكي مبارك في بعض أعداد مجلّة الرسالة (1941)، وما أشار إليه محمود شاكر وأحمد حسن الزّيّات في بضع مقالاتهما؛ أما كتاب ” شيخ أدباء مصر” لسيف النصر الطلخاوي، فقد أعيانا البحث عنه في حالتيه الورقية والإلكترونية.
12_ محمد كامل الفقي، الأزهر وأثره في النهضة الأدبية، ج 3،المطبعة المنيرية بالأزهر الشريف،مصر ،1956،ص 62.
13_ أشار طه حسين في مقدمة كتابيه “تجديد ذكرى أبي العلاء” و “في الأدب الجاهلي” إلى طريقة المرصفيّ في التدريس والتعليم، مُثنيا عليه إجمالاً، بل اعترف بتأثره الشديد بمنهجه وسبيله في التعاطي مع القضايا الأدبية المختلفة.
14_ عادل سليمان جمال،جمهرة مقالات محمود شاكر،مكتبة الخانجي، القاهرة ،2003، ج 2، ص 1233.
15_ محمد بن سلاّم الجمحي، طبقات فحول الشعراء، تحقيق محمد محمود شاكر، مطبعة المدني،القاهرة،1974،ص 35 ؛ وقد أنشده المرصفيّ وهو على فراشه أبيات المستوغر بن ربيعةَ بن كعبٍ، وهي مما يُقال في الشيخ إذا أدركه الأحفاد عابثين به وهُم لاهُون؛ وهي :
إِذا مَا الْمَرْء صَمَّ فَلمْ يُنَاجى // وأودى سَمعُه إِلاَّ نِدَايَا
وَلاعبَ بالعشيِّ بني بَنِيهِ // كَفِعْلِ الهرِّ يَحْتَرِشُ العَظَايَا
يُلاعِبُهُم وَوَدُّوا لَو سَقَوْهُ // من الذِّيفَانِ مترعةً مِلايَا
فَلا ذاقَ النَّعيمَ وَلاَ شرابًا // وَلَا يُسْقَى مِنَ الْمَرَضِ الشِّفَايَا
16_ عادل سليمان جمال،جمهرة مقالات محمود شاكر،مكتبة الخانجي، القاهرة ،2003، ج 2، ص 1179.
17_ هو أبو العباس محمد بن يزيد بن عبد الأكبر البصريّ المعروف بالمُبرٍّد (825_889م)؛ وقد أفرد له المرصفيّ سيرة كافية في الجزء الأول من كتابه رغبة الآمل( مطبعة النهضة،مصر، 1927،ص 4 ). كما يمكن العودة إلى كتاب “معجم الأدباء” لياقوت الحمويّ، وكتاب ” أبو العباس المبرّد وأثره في علوم العربية ” لمحمد عبد الخالق عضيمة.
18_ عبارة وصف بها المرصفي كتاب (الكامل في اللغة والأدب) لأبي العبّاس المبرّد ( رغبة الآمل من كتاب الكامل،مطبعة النهضة، مصر، 1927 ،ج1، ص3)
19_ ألّف عليّ بن حمزة البصريّ، المُكنّى بأبي النّعيم اللغويّ ،كتاب التنبيهات على أغاليط الرّواة، وقد طُبع في دار المعارف بالقاهرة بتحقيق عبد العزيز الميمني الرجكواتي . الكتاب باختصار تنبيهات إلى أخطاء المبرّد في الكامل، وثعلب في الفصيح، وابن سلام في المصنّف،وابن السِّكِّيت في الإصلاح؛ وبما أننا نهتم في هذا المقام بالمبرّد، فإننا نشير إلى أن أبا النعيم غلّط أبا العبّاس في ستّ مسائل بالضبط وهي : قصْر الممدود للضرورة الشعرية؛ إسكان حرف الإعراب للضرورة الشعريّة؛ حذف التنوين للضرورة الشعرية؛ أصلُ ” يَتَسَنّهْ ” ؛ تثنية ” أَلْيَة ” وجمعها ؛ جَمْعُ ” فَعُل” على “أفعال”. أما إن كان هذا التغليط موفّقا أو سليما فليس هذا موضعه، ويمكن العودة إلى بحث موسوم ب ” وقفات نحوية وصرفيّة في كتاب التنبيهات على أغاليط الرواة ” لأسماء أبي المجد سلامة بخيت.
20_ سيد بن علي المرصفيّ، رغبة الآمل من كتاب الكامل،مطبعة النهضة، مصر، 1927 ،ج1، ص 21.
21_ المرجع السابق، ص10 .
22_ سيد بن علي المرصفيّ، رغبة الآمل من كتاب الكامل،مطبعة النهضة، مصر، 1930 ،ج8، ص 7 / ج 1،ص24 .
23_ إشارة إلى أبيات ابن الرّوميّ :
في زخرفِ القول تزيينٌ لباطلِه // والحقُّ قد يعتريه سوءُ تعبيرِ
تقول هذا مُجاجُ النحلِ تمدحُهُ // وإن تعِبْ قلتَ ذا قَيْءُ الزنابير
مدحاً وذمّاً وما جاوزتَ وصفهما // سحر البيان يُري الظلماءَ كالنورِ
24_ زكي مبارك ، السباعي بيومي يستر جنايته على المبرد بجنايته على المرصفي، مجلة الرسالة ، العدد 398، الصادرة بتاريخ 24_02_1941.
25_ السباعي بيومي، خصومة أدبية، مجلة الرسالة ، العدد 398، الصادرة بتاريخ 17_02_1941 . نشير هنا إلى اشتجار خصومة أدبية بين زكي مبارك وبين السباعي بيومي عن سيد المرصفيّ، كان فيها مبارك مدافعا عن أستاذه الأزهري وناقدا شرسا لكتاب خصمه “تهذيب الكامل”؛ وكانت مجلة الرسالة مسرحا لهذه المعركة الأدبية، يمكن متابعتها هنالك.
26_ سيد بن عليّ المرصفيّ، أسرار الحماسة، مطبعة أبي الهول، ط 1 ، ج 1، القاهرة، 1912، ص 2 .
27_ المرجع السابق ، ص 4 .
28_ عارضَ أبو عُبادة البحتريّ ( ت 284 ه) حماسة أبي تمّام بكتاب جمع فيه منتخبات من أشعار العرب للفتح بن خاقان، إنما وجب التنبيه إلى أن حماسة البحتري تختلف منهجا وأسلوبا عن منهج وطريقة أستاذه أبي تمام، فلا جامع إذن بين الكتابين سوى العنوان ؛ فإذا كان لأبي تمام فضل السبق والمنهج فللبحتري فضل الاستقلال في المنهج والغزارة في المادة. نشير إلى أن هناك من شكّك في نسبة كتاب اسمه الحماسة للبحتري كالبغدادي في خزانة الأدب الذي قال: ” لم نسمع للبحتريّ حماسة “، وهذا من عجائب القدماء، رغم إثبات الكتاب في معجم الأدباء لياقوت الحموي ووفيات الأعيان لابن خلّكان. يمكن العودة إلى ( أبو عبادة البحتري،الحماسة،تحقيق محمد إبراهيم حور/ أحمد محمد عبيد،هيئة أبوظبي للثقافة والتراث، الإمارات، 2007 ، ط1) .
29_ كتب أحمد حسن الزّيّات سلسلة مقالات في مجلته الرسالة بعنوان مباشر هو : النقد عند العرب وأسباب ضعفهم فيه؛ وهي مقالات تحلل وضعية النقد العربي وأشكال ممارسته قديما، مبينا قصوره الدّاخلي واقتصار حركيته فقط على المستوى الشكلاني، مغيّبا الحس العاطفي والانفعالي في تشكّل الإبداع، فقد أصبح موضوع النقد تحليل الأحاسيس والعواطف، والبحث عن طبيعة الجمال وما يصدر عنه من الانفعالات والأهواء، إضافة إلى الجانب البلاغي والبياني. يمكن العودة إلى ( أحمد حسن الزيات، النقد عند العرب وأسباب ضعفهم فيه، مجلة الرسالة، الأعداد 680/ 682/ 684/ الصادرة على التوالي بتاريخ : 15 يوليوز/ 29 يوليوز / 13 غشت 1941 ).
30_ طُبع هذا التخميس سنة( 1312 ه ) ويليه في كتيّب واحد تخميس تلميذه السيد طه أفندي أبو بكر المسمى ( بث الشجن على عينية أبي الحسن) التي أنشأها ابن زُرَيق البغدادي. (محمد كامل الفقي، الأزهر وأثره في النهضة الأدبية، ج 3،المطبعة المنيرية بالأزهر الشريف،مصر ،1956،ص 73 ).
31_ عبد العزيز البشريّ، المختار، مؤسسة هنداوي، المملكة المتحدة، 2014، ص 85.