الفيلسوف جلال الدين الدواني : التطبيق والإدماج
النص الأصلي : اروين روزنتال ، الفكر السياسي في الإسلام الوسيط: مدخل تمهيدي، كمبريدج 1962 ص 210-223.
ترجمة : نور الدين علوش
لم يُمارس الفلاسفة كمجموعة تأثيرًا كبيرًا على الفكر السياسي في الدوائر التقليدية، ويرجع ذلك جزئيًا إلى أن فلسفتهم السياسية كانت مجرد جزء من فلسفتهم العامة التي تعرضت للعداء والمعارضة. لقد ناقشنا انتقاد ابن خلدون لفكرهم السياسي، ولكن يجب أن نأخذ في اعتبارنا أن اطلاعه على كتاباتهم كان غير كافٍ أو بالأحرى سطحيًا، ومتأثرًا بموقف الغزالي من الفلسفة.
من جهة أخرى، تكشف مناقشة الفقهاء مثل الماوردي وابن تيمية حول أسباب وجود الخلافة أو الإمامة عن بعض التأثير من قبل الفلاسفة. وهذا التأثير ليس سلبيًا تمامًا، خاصة في حالة ابن تيمية. ويظهر على أي حال أن من كتبوا في النظرية الدستورية شعروا بالحاجة إلى مراعاة آراء الفلاسفة في هذا المجال. وكانت العقبة الرئيسية، بلا شك، هي نظرية النبوة التي قدمها الفارابي وابن سينا. هؤلاء الفلاسفة، مثل ابن سينا وابن رشد، أسسوا فلسفتهم السياسية على قانون النبي المشرع، مما مكن بعض المفكرين المسلمين التقليديين، مثل ابن تيمية والدواني، من دمج بعض أفكارهم السياسية في فكرهم.
يبدو أن هذا يثبت صحة افتراضي، وهو أن وجود القانون في الفلسفة السياسية هو العنصر المشترك الذي يربط بين أفلاطون وأرسطو من جهة، والفلاسفة المسلمين مثل ابن تيمية والدواني من جهة أخرى.
لقد حاولت في الفصول السابقة توضيح كيف تناول الفارابي وابن سينا وابن رشد مسألة القانون في سياق المشكلة المركزية للفلسفة الإسلامية، وهي “التوافق بين الفلسفة والوحي”. وكيف أن ابن سينا قد قطع خطوة حاسمة نحو التركيب، بينما نجح ابن رشد تقريبًا في دمج الطريقتين للوصول إلى الحقيقة الواحدة. من خلال مقدمات لاهوتية استندت إلى وجهة النظر التقليدية للنبوة، شرع في تأويل فلسفي للوحي على شكل قانون.
في رأيي، نجح ابن رشد، إلى حد ما، في تحقيق التوافق بين الفلسفة والوحي، الذي بدأت ملامحه تظهر في رسالته فصل المقال. أقول “إلى حد ما” لأن التوافق المطلق بين العقل والإيمان في تماسكه المنطقي الكامل واستقامة العقل يبدو لي أمرًا غير ممكن. الإيمان هو فعل إرادتنا الحرة، وبالتالي يتطلب “قفزة” ومن ثم يتغير الموقف الفكري، مما يعني أن السيادة المطلقة للعقل محدودة بسبب قبولنا الطوعي للمذاهب التي تتجاوز الأدلة البرهانية.
على الرغم من السعي المشترك بين الفيلسوف والتقليدي من أجل السعادة والكمال في معرفة الله ومحبته، يجب دائمًا التمييز بين موقف الفيلسوف والتقليدي تجاه الوحي. هذا الاختلاف لا يعني بالضرورة عدم الاتساق أو عدم الصدق. هذه الخلاصة ضرورية لتحديد مكان جلال الدين الدواني في هذا الصراع الفكري الطويل الذي لا يقتصر على الإسلام الوسيط.
إذا ما تمت المطالبة بأن الدواني قد دمج الفلسفة اليونانية الهلنستية مع اللاهوت والفقه الإسلاميين، فإن هذا سيكون صحيحًا فقط على مستوى سطحي.
أما كتابه الأخلاق الجلالية الذي سماه مترجمه طومسون “الفلسفة العملية للشعب المحمدي”، فهو ليس عملاً أصيلاً بل هو تجميع لمقاطع مختارة من الفلسفة العملية كما عرضها نصير الدين الطوسي. هذه ليست نسخة تقليدية من الأخلاق الناصرية التي تأثرت بدورها بشكل كبير بالفكر الإسلامي المبكر في مجالات الأخلاق، الاقتصاد، والسياسة.
مساهمته الأساسية تكمن في تكييفه الذكي للمذهب الإسلامي مع رسالة الطوسي الفلسفية. بالطبع، استوعب الطوسي أفكار أفلاطون وأرسطو، فضلاً عن آراء محيطه الإسلامي، لا سيما مفهوم القانون. تلخيص الدواني لرسالة الطوسي وتكييفها مع الإسلام التقليدي يبرز قدراته في مجالي اللاهوت والفقه.
من الواضح أن الدواني ينظر إلى الطاعة الدينية كنظير لخضوع الابن لأبيه والعبد لسيده كما عند أرسطو. فهو يقسم المجموعة الإسلامية في واجبات تجاه المواطنين، ويخصهم من جهة بطاعة الحاكم والعلماء وأئمة الإيمان، والثقة والصدق في العلاقات التجارية، ومن ناحية أخرى، احترام التزامات أسلافنا المالية.
الشريعة تحتوي على كل هذه الأنواع الثلاثة، بالاعتماد على القرآن. الفلاسفة المحدثون أثناء دراستهم للشريعة، لاحظوا أنها تشمل الفلسفة العملية برمتها. ومن ثم، أداروا ظهورهم للفلاسفة القدماء وكتبهم. ومن أهم مواضيعها عدالة الحاكم، وهذا يدعمه الحديث النبوي وقول مأثور لعبد الله مبارك أن عدالة الحاكم هي الوسيلة المؤكدة لصلاح كل الخلق.
وتبين هذه الأمثلة كيف يجمع الدواني بين الفلسفة القديمة والحديثة، مع القرآن والحديث والقصص كما وجدها في “الآداب السلطانية”. وبهذه الطريقة، يثري الفكر السياسي الذي يرضي فكريًا الإسلام التقليدي. وهذا ما يفسر شعبيته. لكن إلى أي حد كان الجمع بين الفلسفة والشريعة قد أنتج عملاً في النظرية السياسية بديلاً عن النظرية “الكلاسيكية” للخلافة، كما تدعى نظرية السلطة؟ أنا لست على استعداد لقبول أو الطعن دون فحص أكثر تفصيلًا لكل ما هو صلة بالموضوع. في هذه اللحظة، أنا مقتنع بهذا الموجز الذي قدمته لتأثر الدواني بالطوسي فيما يخص العلم السياسي، مع الإشارة إلى أهمية ابتعاده عن مصدره.
دمج الفلسفة مع النزعة التقليدية وصل إلى نهايته مع انتقائية الدواني، إذ يعتنق بعض الآراء من الفلاسفة في مجال الفلسفة السياسية. في رأيي، الدواني أقرب إلى ابن تيمية ودعوته إلى “الحكم القائم على الشريعة بدلًا من الفلسفة”، باستثناء ابن رشد. على الرغم من أنه يساوي “الفيلسوف الحاكم” لأفلاطون مع الخليفة، فإنه، مثل ابن تيمية، غير مهتم بالخلافة، ولكن الحكم وفق الشريعة. عندما يتحدث عن “الحاكم” فيما يتصل بالعدل، فإنه يشير إليه بالسلطان. فلننظر الآن في فكره السياسي بمزيد من التفصيل.
مثل الفلاسفة، يتحدث عن الاجتماع السياسي، متبعًا الطوسي في حديثه عن التمدن المشتق من “المدينة”، كما نجد نفس المصطلحات المستخدمة من قبل ابن خلدون. ويعرف التدبير بأنه “حكومة عليا” حيث كان الطوسي يتحدث فقط عن “الحكومة” (السياسة). ويذكر أن الناموس (القانون)، والحكيم (الحاكم)، والدينار (المال) لضمان “الحكومة العليا”.
بعد تحديد الأهداف التي يتحقق فيها الاجتماع السياسي، مثل الملذات، والثروة أو الشرف، يناقش الطوسي بإسهاب دول أرسطو “البسيطة” – الملكية، الطغيان، التيموقراطية والديمقراطية. وهذا لا يمكن العثور عليه عند الدواني. من ناحية أخرى، بالمقارنة مع الطوسي، أدخل الدواني تغييرات هامة في المصطلحات والإضافات الهامة. فقال: المشرع هو الشخص الذي وهبه الله الوحي ليرسم لنا طريق العبادات والمعاملات لتحقيق سعادة الدنيا والآخرة. يطلق عليه الفلاسفة القدماء “المشرع”، ومراسيمه “القانون”، أما المحدثون فيسمونه “النبي”، والمشرع الإلهي، وقوانينه هي “الشريعة”.
ترك الطوسي الوحي جانبًا في وصف هدف وجوهر القانون وتغاضيه عن ذكر النبي إشارة دالة.
يسمي قانون الفلاسفة القدماء “بالإلهي”. يبدو أن الدواني استخدم مصطلحات “الوحي” و”النبي” عمدًا حتى لا يترك أي شك في قصده “القانون الإلهي” الذي جاء به النبي.
فإن الطوسي يستلزم هذا المعنى فقط من خلال استخدام “ناموس إلهي”، ويعتبره معادلًا للشريعة، لكنه أيضًا يوظفه عند الحديث عن أرسطو. إدراج الدواني للعبادات والمعاملات وصلاح معاش وعماد الناس، لا يؤكد ميله نحو أقلمة الفلسفة وجعلها مقبولة عند الناس، لكن يجعله في وفاق مع كتاب القانون الدستوري بين الفقهاء.
ملاحظة أخرى بين الدواني والطوسي هي أن الدواني استعاض عن مصطلح “طوسي المتأخرين” بالمحدثين، الذي يعني الفقهاء التقليديين والمؤمنين الحقيقيين. إنه لم ينتبه بعد للمعركة ضد الفلاسفة، فهو قبل الفلاسفة كمجموعات أرثوذوكسية ليست متفقة في الطقوس فقط، بل في القناعات والاعتقادات. وبما أن المصطلحات ليس فيها لبس، وبالتالي يوظفها بنفس القصد، لا يمكننا أن نكون متأكدين تمامًا إلى أي حد يعني الدواني بالفلاسفة حين يستعمل مصطلح “متأخرون” بنفسه دون أن تسبقه “قدامى” أو “حكماء متأخرون”. بالرغم من أن مصطلح “مفكرون متأخرون” واضح، إذا كان يعني المسلمين في وقت مبكر، فيجب أن يستخدم الصفة المشتركة للسلف في هذه الحالة “الحكماء”. لابد من الحذر لأن يقصد به أحيانًا “الحكمة” بصفة عامة. كقاعدة، السياق هو المحدد لدلالة معينة، لكن ليس دائمًا. لنطبق هذا على المقطع المذكور، فليس هناك شك في أن المقصود هم الفلاسفة، ولو كان الدواني قد احتفظ بمصطلح “المحدثون” الطوسي إذا فهمه بالمعنى الأصلي الذي وظفه الطوسي. هذا يثبت استخدامه نفس المصطلح “متأخرون” حين يحدد الحاكم بهذه الكلمات: “الحاكم هو الشخص الذي أرسله الله لنا ليحقق الإنسان كماله وسعادته. يطلق الفلاسفة عليه اسم الملك باقتدار وقوانينه هي فن الحكم. والفلاسفة المحدثون سمونه الإمام، ووظيفته الإمامة. يطلق عليها أفلاطون اسم الملك، وأرسطو الإنسان السياسي الذي يراقب شؤون المدينة.”
اهتمامه الأول هو الشريعة. هو يحافظ على القوانين لكنه حر في أن يأخذ بعين الاعتبار الظروف شريطة أن تكون أفعاله متوافقة مع المبادئ الأساسية للشريعة ومصالح المجتمع. “هذا الشخص في الحقيقة هو ظل الله، خليفة الله ونائب النبي.” فالتشابه بين الحاكم الأفلاطوني والحاكم الإمام هو من إرث الفارابي والفلاسفة. لكن الدواني مرة أخرى يعدل ما يوجد في مصادره حتى يتوافق مع الرأي التقليدي.
هنا ليس هناك تطابق بين الملك الفيلسوف والمشرع النبي والإمام. يميز الدواني بين المشرع والحاكم، ويساوي بينهما فقط بشكل فردي، وهكذا نجد أن المشرع يناسب النبي المشرع الإسلامي، في حين أن خليفته يتوافق مع الحاكم الأفلاطوني، فإن الدواني يتصف بالاجتهاد، على الرغم من أنه لا يستخدم هذا المصطلح، فهو واضح من خلال وصف وظيفته الرئيسية.
مع الفارابي وابن رشد، يدين الدواني الانعزال عن المجتمع باعتباره ظلمًا للناس، بما أن الذين يرفضون التعاون يعتمدون على الناس. العدالة تتطلب تعاونًا متبادلًا: “ما العدالة التي يجب دراستها ومعرفتها، فذا لا يتم إلا من خلال دراسة مبادئ وقوانين هذا العلم”. الحكام عليهم أن يتصفوا بالعلم والمعرفة. هناك أطباء للصحة، والحكام لشؤون الناس.
من المهم الإشارة هنا أن الدواني يطابق بين السلطان والإمام الخليفة والحاكم الأفلاطوني الأرسطي.
على الرغم من أنه يستند إلى الطوسي، في مناقشته للمدينة الفاضلة والمدن الجاهلية، يتبع الفارابي في المصطلحات، لكنه يتبنى المفاهيم الأفلاطونية في شرح معناها. المدينة الفاضلة وفق الفلاسفة هي نوع من التمدن، في حين أن هناك ثلاث أنواع من المدن الجاهلية. صلاحية الحجة هي أساسية في كل مدينة فاضلة من حيث تحقيق السعادة ورد الشر. آراء صحيحة وأفعال فاضلة من طرف جميع المواطنين. عوض ثلاث طبقات أفلاطونية، يعدد الدواني خمسة: أربعة منها تتفق مع الميول الطبيعية وتختلف من إنسان لآخر؛ هذه الأنماط النفسية الفردية الأربعة تتناسب مع ما نعرفه من أسطورة الكهف الأفلاطونية، لكن استيعابها ضمن الأنماط الإسلامية. فلاسفة أفلاطون الذين يتمتعون بدعم إلهي يمكنهم ذلك من رؤية الحقيقة بعقلهم الصافي متحرر من المادة. هؤلاء غير متساوون في الإدراك العقلي النقي، بخلاف الطبقة الأولى من الأولياء والفلاسفة بإمكانها حدس الحقيقة. هم رجال الإيمان. الطبقة الثالثة تعتمد على الخيال، في حين أن الطبقة الرابعة لا يمكنها فهم العالم من دون حواس.
يحتفظ الطوسي بمفاهيم ومصطلحات أفلاطون. الشريعة توفر للطبقات الأربع وتضمن لهم السعادة وفقًا لقدراتهم العقلية. بما أن القرآن بخطابه الحرفي أو المجازي يتيح للمسلمين تأويله والاسترشاد به، فإنه تحت سلطة الحاكم الفاضل يمكن للناس التعاون تدريجيًا نحو الكمال. هنا، يحقق الدواني تناغمًا بين الفلسفة والتقليد الإسلامي، لكن الطوسي لم يذهب بعيدًا في هذا السياق.
لننتقل الآن إلى الركائز الخمسة للمدينة الفاضلة: أولاً، مجموعة الأفاضل، وهم الأكثر تميزًا والمكلفون بتدبير المدينة. هؤلاء هم الأفراد الذين اكتسبوا الفلسفة النظرية والعملية، ويملكون معرفة حقيقية بالواقع.
أما ثانيًا، مجموعة الخطباء الذين يدعون الناس إلى الكمال عن طريق الحجج الجدلية والخطابية والشعرية، وهم علماء الكلام والفقهاء والشعراء والخطباء. وثالثًا، أصحاب الحساب، مثل المهندسين والأطباء والفلكيين. ورابعًا، المجاهدون، وهم الحراس عند أفلاطون الذين يدافعون عن الوطن ضد الأعداء. وأخيرًا، الماليون، وهم مكتسبو المال في المدينة مثل الفلاحين والباعة. مثل أفلاطون، كل شخص يحتل مكانه الطبيعي بهذه العدالة.
مقابل أركان المدينة الفاضلة، يشير الدواني إلى “النوابت” الذين تكلم عنهم الفارابي وابن باجة. بما أن الطوسي يعتمد في جزئه الثالث بالكامل على الفارابي، فإنه من الطبيعي أن يعيد الطوسي والدواني موقفهما السلبي من النوابت. نجد أن الطوسي يعد ترتيب مضادات المدينة الفاضلة للفارابي في كتابه “السياسية المدنية” مثل المدينة الجاهلية، المدينة الفاسقة، والمدينة الضالة. ركز الدواني على الأسماء الإسلامية التي أعطاها الفارابي، ومع ذلك عرفها بمصطلحات أفلاطونية، كما فعل ابن رشد في تعليقه على “الجمهورية”. الطوسي كان أكثر وضوحًا وناقش كل التغيرات التي يعرفها من خلال الفارابي.
في النسخة الأفلاطونية، جعل الدواني والطوسي التناسب بين الفرد والدولة. كما أن هناك مدنًا فاضلة وغير فاضلة، هناك رجال سلطة لديهم فضائل ورذائل تجعل من حكمهم فاضلًا أو جاهلًا. لقد طبق المعيار الأفلاطوني، لكنه كيفه مع متطلبات الشريعة التي وضعت مواصفات الحاكم أو الخليفة. يتناسب الحاكم الفاضل مع المدينة الفاضلة، وحكمه الفاضل يُسمى “الإمامة” كما حددت في رسائل الفقهاء.
فالدواني أعاد تسمية الحاكم “خليفة الله وظله”، الذي يقلد المشرع من أجل حكم فاضل. بينما كان الدواني راضيًا عن نفسه بمثل هذه العموميات، كان الطوسي يميز بين أربع مراحل من الملكية: الأولى، يمثلها النبي محمد صلى الله عليه وسلم الذي يتميز بجمعه صفات الحكمة والفهم والفكر الكامل والجود وقدرته على الجهاد. لكن هناك أمر مهم: على الأقل، واحدة من هذه الصفات هي إسلامية، بعيدة عن الصفات الأفلاطونية، فلا يمكن مساواة أية صفة مع الصفات الأفلاطونية الأربع إلا بعد تكييفها المسبق مع شروط الإسلام.
تحدث الطوسي حول ما يناسب الأرستقراطية الأفلاطونية. في هذه الحالة، لا تجتمع كل الصفات في رجل واحد، لكنها مشتركة في أربعة أشخاص الذين هم مثل نفس واحدة وحكمهم حكم التقوى. لا شك أن في ذهن الطوسي تمثل حكم الخلفاء الراشدين الأربعة على اعتبار أنهم يمثلون الخلافة الحقيقية. من الغريب أن تقليديته جعلته يتجاهل حقيقة الأمر: أن الخلفاء الأربعة حكم كل واحد منهم بعد الآخر، وكل واحد منهم كان يتمتع بالصفات الضرورية. الطابع المثالي لحكمهم لا يقبل بأي معنى من طرف أفلاطون أو أرسطو في نفس الوقت. الفارابي يحتذي حذو أفلاطون.
تتميز المرحلة الثالثة عند الطوسي بغياب الأشخاص المتمتعين بتلك الصفات، لكن هناك الرئيس الذي يعرف سنن الملوك السابقين، وهو “ملك السنة”. هنا نرجع إلى الفارابي حيث يتكلم عن “ملك القوانين” (فصول منتزعة). في الأخير، في حالة عدم وجود هذه الصفات في شخص واحد، ولكن وجودها في مجموعة تحكم جماعة، نكون أمام “ملوك اتباع السنة”. تاريخيًا، يمكن تطبيق هذا في وقت لاحق بعد سقوط الخلافة العباسية. لكن يجب أن نضع في الاعتبار أن الطوسي شيعي وله تاريخ في ذهنه، شرط أن يكتب “أخلاق ناصري” قبل 1258. إذا كتبه بعد هذا التاريخ، فإن هذه المرحلة الرابعة ستكون صورة عن عصره.
يعرف الدواني الحكم الطغياني بأنه الحكم المعيب الذي يسعى إلى استعباد الناس والفساد في الأرض. وهذا له مرجع في زمنه، فغائب الظلم لا يمكن تحمله، والمجرمون سيحاسبون عليه في الدنيا والآخرة. مقارنة حكم الإمامة مع الحكم الطغياني في زمنه، يعرض الدواني اهتمامه بالدولة الإسلامية وخاصة على حكم الشريعة. سيؤكد على الحاجة إلى الوحدة عبر العدل، وإلا لن يستطيع الحاكم العادل الحكم ولا ازدهار رعاياه.
بالتوافق مع العناصر الأربعة للمزاج، هناك أربع طبقات تتشكل معًا وتحافظ على المساواة في الجسم السياسي. الطبقة الأولى هي أصحاب العلم، التي تتكون من علماء الكلام والفقه والمسؤولين الماليين والمهندسين والأطباء والشعراء والفلكيين والقضاة الذين يحافظون على الدين والعالم. الطبقة الثانية هي المحاربون، حيث الجمع بين القلم والسيف يضمن الاستقرار وازدهار الحياة العامة. الطبقة الثالثة هي التجار والصناع والحرفيون الذين يوفرون احتياجات الجميع. وفي الأخير، الفلاحون الذين ينتجون الطعام. ما يجعل الحياة السياسية ممكنة هو التوازن في التعاون المتبادل بين هذه الطبقات.
بعد ذلك، انتقل الدواني إلى تصنيف آخر، حيث يميز بين خمسة أنواع من الناس: أولًا، خير وتأثيره خير على الناس؛ ثانيًا، خير في نفسه وبدون تأثير؛ ثالثًا، لامبالي؛ رابعًا، سيء بدون تأثير؛ خامسًا، سيء مع تأثير سيء على الناس. الطبقة الأولى تتشكل من العلماء وشيوخ الصوفية، الذين يجب أن يكونوا قريبين من السلطة ولهم سلطة على باقي الطبقات وفقًا للفلاسفة.
من المهم الإشارة إلى أن الطوسي لم يذكر عناصر هذه المجموعة التي أضاف إليها شيوخ الصوفية مع علماء الشريعة وذكر الفلاسفة. الطبقة الأولى في كلا التصنيفين هي واحدة. المقطع الأول “العلم تم تأويله بطريقة إسلامية وليست أفلاطونية”. ليس هناك شك في أن الطبقات الأربع تتوافق مع الحالات الثلاث لأفلاطون. الطبقة الثانية نجدها عند كل من أفلاطون والدواني. أما الطبقة الثالثة عند أفلاطون، فتم تقسيمها عند الدواني إذا قارناها بالتجمع المزدوج مع “الجمهورية”. هنا تظهر مقاربته الإسلامية أكثر.
لكنه ليس محظوظًا دائمًا في التوفيق بين الدين والفلسفة، كما يظهر من خلال وصف مجموعة أولى أخرى من الحكام في المدينة الفاضلة. في هذا المقطع، يساوي بين الفيلسوف والولي المقدس. لا يمكن أن يصبح الأمر مقنعًا ما لم نفترض تطابقًا بين الأولياء وأرباب الحقيقة. يوضح هذا المثال مدى صعوبة الأمر بالنسبة للدواني في نهاية القرن الخامس عشر لمواءمة ودمج مفاهيم مختلفة تنبع من حضارتين مختلفتين، النقطة التي تبدو لي أعظم أهمية.
أصبحت الفلسفة منهوكة القوى باعتبارها قوة فكرية في زمن الدواني، وكان لا يزال بعيدًا جدًا عن مصدره الطوسي، الذي كان لا يزال الفيلسوف الذي يحظى بمكانة كبيرة. يستخدم الدواني الفلسفة والفلاسفة المسلمين كعنصر هام في عمله الأدبي، جنبًا إلى جنب مع تقاليد الإسلام و”الآداب السلطانية”، كوسيلة لإظهار الاتفاق الأساسي بين الفلسفة العملية وشريعة الإسلام، ولا سيما في مجال الأخلاق والسياسة. لكن التكامل الذي حققه ليس تامًا، وطبيعة المشكلة لا يمكن أن تكون كاملة.
يبقى الآن توضيح استخدامه الشكل المادي من “الآداب السلطانية”. يجب على الحاكم أن يحافظ على خزينته وازدهار ممتلكاته. يجب أن يظهر اللطف والرحمة لرعاياه. ولا يجوز له أن يمنح مناصب عالية للرجال غير المؤهلين. بالرغم من ذلك، يذكر الدواني هذه الشروط الثلاثة باسم “الفلاسفة”. هذه الشروط تنتمي إلى نوع من المشورة المقدمة في “الآداب السلطانية”. في الواقع، فإن الاستمرارية تشير بصراحة إلى الساسانيين، الذين يقولون أن صرح العدالة يجب أن يكون على عشرة ركائز. هذه هي القواعد الأخلاقية التي يجب على الحاكم مراقبتها.
“فإنها قد تكون مشابهة لأي “آداب سلطانية” كما ورد في الفصل الثالث. من حيث الرصانة في الحاكم، والاعتدال، والتفاني في خدمة رعاياه مع إشراف دقيق على إدارته، والقرارات العادلة التي تكون ضرورية، وكلها تقوم على الخوف من الله. يجب أن يظهر الحاكم اللطف والرحمة لرعاياه، ولا يجوز له أن يمنح المناصب العالية للرجال غير المؤهلين. يجب عليه أن يحيط نفسه بمجموعة صالحة من المستشارين والوزراء وقبول مشورتهم. علاوة على ذلك، يجب أن يحرص على أن يتعامل رعاياه بعدالة مع بعضهم البعض، لأنهم سيسألون عن ذلك يوم القيامة. ويجب على الأفراد أن يلتزموا بالعدالة وأن يسعى الجميع لاكتساب الفضائل، حيث أن مصدر الحكمة هو الشريعة، وهي أساس الشؤون العامة. ينصح الدواني الحاكم بأن يعرف أعداءه، وأن يستخدم الجواسيس والمخبرين، ويعزز التواصل مع الجميع. يحذر من حروب الفتح التي تهدف فقط إلى توسيع سلطته، ولكنه ينصح الحاكم بأن يجاهد من أجل الإسلام. يجب أن يطيع المواطنون الحاكم وولاة الأمر، وأن ينفذوا أوامره الإلهية بدون أي معارضة.
في هذا السياق، يؤكد الدواني على أهمية مراقبة الآداب الصارمة في المحكمة، على غرار “الآداب السلطانية”. يتبع مصدره دون إضافة أي جديد. إذا أخذنا في الاعتبار مدى تأثر الدواني، الذي كان قد تأثر بالفقهاء السنة لاحقًا، فإن تساؤلاً يطرح نفسه: لماذا كانت نظريته تستند إلى استخدام مصطلحي “خليفة” و”إمام” في الإمبراطوريات العثمانية والمغولية، كما يؤكد السير هاميلتون جيب؟ ليس لدي رأي قاطع في هذا الادعاء، لكنني حاولت ببساطة أن أصف وجهات نظر الدواني باستخدام الكلمات التي اعتمد عليها، وتحليلها في سياق الطوسي والفلسفة الإسلامية، وعرضه لنظرية الخلافة كما تناولها الفقهاء السنة السابقون. لا أعتقد أن الدواني يختلف عن التيار السائد الذي يرى أن الخلافة انتهت مع الخلفاء الراشدين، أو أنه قدم تمييزًا أساسيًا في الفكر والأدب حول هذا الموضوع في وقت لاحق.
بالنسبة لي، فإن الخلافة والإمامة مترادفتان، ولا يستخدم الدواني هذه المصطلحات بأي معنى مختلف عن الماوردي، والغزالي، وابن جماعة، أو ابن تيمية. مثل هؤلاء الفقهاء، وخاصة ابن تيمية، يؤيدون أن الخلافة المثالية، على الرغم من أنها قد انتهت منذ زمن طويل، كان من المأمول إعادة تأسيسها من خلال حكم الشريعة، تحت أي مسمى، ويجب أن تعاد تأكيد فعاليتها. سيادة الشريعة ووحدة الجماعة كانا هما الهم الأساسي. وهذا لا يتضح فقط من خلال تكرار تعبيراته، بل أيضًا من خلال الاقتباسات التي اعتمد عليها، خاصة من أفلاطون.
ومن المؤكد أنه في دعم السلطة العليا للشريعة، لم يقتبس الدواني أقوالاً من الحديث أو من علماء اللاهوت والفقهاء، بل اعتمد على الأقوال الأفلاطونية. يجب تنظيم الحياة وفقًا لقوانين الشريعة، كما قال أفلاطون: “حراسة الناموس وحمايته”، ليتم إعادة صياغتها من خلال استبدال مصطلح “الناموس” بالشريعة. هنا، بعد أكثر من خمسمائة عام من الفارابي، نجد الرابط الذي لا يزال قائمًا بين المفكرين المسلمين والفلسفة السياسية لأفلاطون وأرسطو، من خلال الخلفية المشتركة حول القانون كما ورد في الفصول. لم يعد الدواني فيلسوفًا مثل الفلاسفة الذين بدأوا من الكندي وانتهوا بابن رشد، ولا مثل نموذج الطوسي.
لا نجد في صفحاته أي تمسك بالحماسة العاطفية للبحث عن الحقيقة، أو بالفضول الفكري والسعي نحو المعرفة. ومع ذلك، فهو وريث تقليد الفكر الإسلامي، واعٍ بإرث أفلاطون: القانون المثالي، وهبة الحكمة الإلهية. وقبل ذلك الإرث الذي منح للجيل الذي رفض الفلاسفة ولم يقبل الفلسفة إلا بالشكل الذي قدمها لهم. اختزل مشكلة الوحي والعقل، والقانون الإلهي والإنساني إلى أجزاء معقولة، عن طريق تجاهل الصعوبات الموروثة، وتبسيط المسائل، بل والإفراط في تبسيطها. ومع ذلك، حافظ على جوهر التوازن بين الجمهورية المثالية والخلافة المثالية، من خلال التركيز على قانون النبي. مثل ابن تيمية، كان مهتمًا بشكل رئيسي بالسياسة الشرعية، ووصفها والثناء عليها باعتبارها الدليل الوحيد المؤكد للسعادة والكمال، مشيرًا إلى القرآن والحديث وأقوال الأولياء وأفلاطون وأرسطو. بهذه الطريقة، أصبح المفكرون اليونانيون تقريبًا جزءًا من الفكر الإسلامي.
من خلال هذا التكيف والتأقلم، يمكن القول إنه قد عبر عن روح عصره، وإلا ما كان ليتمكن من ممارسة النفوذ الذي ادعاه. وإذا كان تأثيره قد تجاوز الفقهاء السابقين، وحتى الفلاسفة مثل الطوسي، فإن ذلك يعود إلى المناخ الروحي والسياسي والظروف الاجتماعية في وقته، وأسلوبه السليم.”